(En Ar.) Qu’est ce qui détermine l’identité d’une œuvre littéraire? L’exemple de l’œuvre de Gabriel Ben Simhon.
الكاتب وإحداثيات الفضائين: الجغرافي والاعتباري؛
حالة الكاتب الصفريوي الأصل، جبرائيل بن سمحون
(فبراير 2011)
هذا النص مقتبس من سلسلة نصوص عصف ذهني حول مفاهيم "الجهات" (يمين/يسار، أمام/لف، فوق/أسفل، شرق/غرب، شَمال جنوب) وكيف تطورت محدِّداتها من إحداثيات تواضعية طبيعية إلى إحداثيات قيمية أيديولوجية (انظر السلسة هــــنـــا). النص الحالي، المقتبس من تلك السلسلة/ يتناول على الخصوص انتقال البعد الانتسابي للأقوام، شرق/غرب، من الفضاء الجغرافي إلى فضاء عشائرية تقديرية جديدة ألغت الفضاء الفيزيقي قبل انبثاق فضاء الشبكة التقديرية بقرون، ومهدت، من بين ما مهدت له، لمفهوم "صدام الحضارات". ومن خلال هذا النص، يُطرح سؤال نسبة الأدب المعين إلى الفضاء المعين (أدب عربي، أدب مغربي، أدب فرنسي، أدب أمريكي، الخ.)؛ وذلك من خلال حالة الكاتب الصفريوي الأصل، جبرائيل بن سمحون، الذي هو موزع اليوم، فضاءً جغرافيا، وفضاءً أدبيا، ما بين المغرب وإسرائيل وفضاءات "الأدب بلا حدود".
لنبدأ بإحدى صُدف زجر الطير ما بين سانحاتٍ نحو المَيمَنة (من "اليمين")، وبارحاتٍ نحو المشأمة (من الشآم الذي هو جهة الشمال بالنسبة للعربية الأولى باعتبار موطنها الأصلي): فبعد مدة قصيرة من تعميم الكاتب المصري، جابر عصفور، لمقاله "حوار المشارقة والمغاربة، وتحوّل صيغة المركز والأطراف"، وتعميم الكاتب المغربي بنسالم حميش، وزير الثقافة الحالي (2011)، لمقال له بالعربية بعنوان "حضور المشرق والمغرب في تجربتي الروائية" ينتصر فيه للقيم الجمالية ولدور اللغة باعتبارها عمود الهوية في الإبداع الأدبي ("اللغة وعاء هويتي وذخيرتي الحية")،(1)، يعمم اليومَ (فبراير 2011) الأستاذُ الجامعي والكاتبُ الإسرائيلي، المغربي الأصل، والصفريوي المولد والطفولة، جبرائيل بن سمحون (גבריאל בן שמחון، انظر هــــنــــا)، نصا مماثلا باللغة العبرية بعنوان [מזרח ומערב ביצירתי הספרותית ותיטרונית]، أي "الشرق والغرب في إبداعاتي الأدبية والمسرحية"؛ وهو نص ينـتـصر فيه لنفس القيم الجمالية التقليدية، لكنه يضيف إليها قيم الوحدة الجامعة، القائمة على تكامل عناصر التعدد والتنوع، لا على الإقصاء مهما كانت الأبعاد التي يتم عليها ذلك الإقصاء (لغوية، دينية، إثنية، ثقافية، الخ). وإذ بإمكان القارئ العربي أن يعود إلى نص الكاتبين السابقين، بما أنهما متوفران على الشبكة بلغة عربية، فإني سأقـتـصر هنا على إدراج مغزى نص بن سمحون المتعلق بوضعية آثاره الأدبية في إطار واقع عشائرية الانتسابات التقديرية الحديثة، التي تفرعت عن أدلجة الانتسابات الجغرافية القديمة. سأفعل ذلك انطلاقا من فحوى كلمة تدخلت بها خلال الملتقى الأخير لتكريم ذكرى كاتب مغربي آخر هو الفقيد إدمون عمران المالح.
عن المفهوم الحديث لمقولة "الهوية"
كان البدء حينما أجمع المتدخلون في ملتقى الاحتفاء بذكرى هذا الكاتب المغربي الأخير، إدمون عمران المالح، في القاعة المسماة باسمه في الدورة 17 لمعرض النشر والكتاب (البيضاء 13 فبراير 2011)، وذلك بناء على تحليلهم لعمله وعلى شهادات حية من حياته العامة واليومية، فاتفقوا على أن هذا الكاتب المغربي، اليهوديّ الانتماءِ الملـّي، يتميز بأنه لا يعلن البعد الملـّي لهويته، كما يشعر بها في تعدد وتراتبية أبعادها، إلا في سياق رده على من يحاول أن ينفي ذلك البعدَ عنه أو يأباه عليه باعتبار أو بآخر؛ وأنه، أي ذلك الكاتب، حتى في هذه الحالة الأخيرة، وفي معاكسة منه لمألوف الاستعمالات اللغوية بما تحمله من مُبَطنّـات في باب مفهوم المواطنة كما لا يزال ذلك قائما لدى الكثير، يحرص، في دقة العارف بالمعاني وبالبيان، على تقديم نفسه كــ"مغربي يهودي"، ويرفض أن يصنَّـف هامشيا كـ"يهودي مغربي"، تماما كما لا يصنف بقية مواطنيه أنفسهم لا كـ"مسلم مغربي"، ولا كـ"أمازيغي مغربي"، ولا كـ"عربي مغربي". النحاة والبلاغيون وحدَهم يدركون، بداهةً، وبمقتضى المنطق اللغوي (علم المعاني)، شساعة الفرق بين التعريفين؛ وذلك بناء على التمييز بين الاسم (substantif)، باعتباره جنسا جامعا أعلى من جهة، والصفة (adjectif)، باعتبارها مجرد محدِّد ومخصِّص (déterminant) لدائرة أضيقَ داخل نطاق الجنس من جهة ثانية (كقولنا: "وردة بيضاء، وردة حمراء"). إنه مفهوم خاص لأساس الانتماء الجماعي الحداثي، مفهوم يجعل من المؤسسةَ الملموسةَ للكيان الوطني الذي يؤطر الحياة المدنية الملموسة العامة بصفته مؤسسة عُليا ولا يعلى عليها ولا يشكل فيها البعد الترابي (territorialité) إلا بُعدا من الأبعاد. تلك المؤسسة هي أساس للانتماء الأعلى الذي هو انتماء المواطنة الذي تندرج تحته بعد ذلك، بحق وبمشروعية، سائرُ الخصوصيات التي تعتبر حينئذ من مقوماته. هذه التراتبية في أبعاد صرح الهوية حيث يمثل البعد الوطني حجر الغَـلـق (pierre de voûte)، هي ما سجله المتدخلون من خلال شهاداتهم في حق المحتفى بذكراه، وما وقفتْ عليه تحليلاتُهم الأدبية كعنصر جامع ناظم لتوتر التجاذبات التي تحرك الآثار الأدبية للكاتب، فصنفوا بناء على ذلك تلك الآثار بجدارة وامتياز في خانة "الأدب المغربي" كجوهر، ناطق بالفرنسية كمخصص من مخصصاتـه.
ماذا يعني مفهوم "الأدب الفلاني"؟
حينذاك، قمت خلال نفس الملتقى، بطرح سؤالي النظري التقليدي، الذي كان يفرض نفسَه عليّ كلما تأملت المنطوق والمفهوم من تسميات موادَّ أكاديمية، أو كتب منشورة، من قبيل: "الأدب العربي"، "الأدب المغربي"، "الأدب العربي في المغرب" (لا يقال "الأدب المغربي العربي")، "الشعر المغربي الأمازيغي" (لا يقال "الشعر الأمازيغي في المغرب")، "الأدب المغربي الناطق بالفرنسة" (لا يقال "الأدب الفرنسي في المغرب"). إنه السؤال الآتي: "ما هي الأبعاد الجوهرية التي تجعل من الأثر الأدبي المعين أدبا مغربيا، أو لبنانيا أو فرنسيا؟"، أهي تتمثل، بالنسبة للأدب المغربي مثلا، في الجنسية المغربية للكاتب، أصليةً كانت أم مكتسبة؟ حصريةً كانت أم متوازية مع جنسيات مكتسبة أخرى؟ أم أنها تتـحدد بالمَولد والمنشأ؟ أم تقوم على مجرد إقامة الكاتب فضائيا بالمغرب؟ أم بمقتضى استعمال لغة معينة على سبيل الحصر؟ أم أشياء أخرى كالحصول على بطاقة اتحاد من اتحادات الكـتـاب؟
جوابي الضمني الذي أخذ يفرض نفسه عليّ هو أن التعامل مع الأبعاد الثقافية المميِّـزة (أمثال، عبارات مسكوكة، تقاليد وعادات، الخ.)، ومع الفضاءات بطوبونيمياتها الفريدة (أسماء مدن، وقرى، وأزقة، وساحات، الخ.)، ومع الشخصيات بـجرسية أسمائها وبطبوع ثقافتها، ومع الألوان والروائح المميزة عبر الهندام والمطبخ والطقوس والاحتفالات، ومع المميزات الثقافية العامة الموصوفة الأشكال، ومع الرمزيات الأنثروبولوجية الثقافية، ومع القضايا الاجتماعية الحية، والمسكوكات اللغوية المتجذرة من أمثال ونكت، والتشبع بكل ذلك وصياغته صياغة إيداعية فنية في الأثر الأدبي، هي العناصر التي ترسم تلك الأبعاد فتحدد بذلك الهويةَ الخاصة للأثر الأدبي المعين، كأدب فلاني (انظر هـــنـــا بالفرنسية؛ و هـــنـــا و هـــنـــا بالعربية)، وذلك في إطار الأدب الكوني مهما كانت لغة أو لغات الوقت؛ ذلك أن الكونية لا تتمثل في قاموس من المصطلحات التجريدية والرموز البراقة والألقاب التاريخية، تـُمزج مزجا استعراضيا وفولكلوريا هجينا؛ بدليل أن أشهر النصوص المؤسِسة ذات الأبعاد والأشعاعات الكونية إذا ما اعتبرت من جانبها الأدبي، من صُحف أولى، وأناجيل، وقرآن بجانبه الأدبي الإعجازي، لم تَستعمل إلا قواميس محليّة محدودة، كالإبل، والضأن والمرعى، والصحراء، والجبل، والجِـنان، والأنهار، والماء، والنار، والتراب، والأكل والشرب، والجوع والعطش، والوفرة والشحّ، والحرب والسلم، والحب والبغض، والأحوال الشخصية، الخ.
فعلى ذلك الأساس، ولو بشكل ضمني غير واع، يتم تصنيفُ طيفٍ واسع من الآثار الأدبية المكتوبة بالفرنسية مثلا، وبدرجات متفاوتة من الاستحقاق كـ"أدب مغربي" بالدرجة الأولى، كما يتجلى ذلك بامتياز في أعمال أمثال محمد خير الدين، وهي مكتوبة بالفرنسية ومغرقة في عالم "الهامش" فيما يتعلق بفضاءاتها، أكثر مما يتجلى في آثار أخرى إما فرنسية اللسان ولا تظهر فيها الأبعاد المغربية إلا عبر عدسة فولكلورية، أو عربية اللسان تـتحدث عن "الساحة الحمراء" أو "شارع السعدون" أو عن "مطار موسكو" أو عن "الضفة اليسرى" لنهر السين، أو عن سوزان أو ميشال أو عُـروة بن الورد أو كاليغولا أو الخليفة الفلاني أو الوزير الفلاني في فضاء مثالية تاريخية أسطورية معينو مهْما حمل التاريخ على إحداثيات الجغرافيا.
حالة الأديب جبرائيل بن سمحون
وهنا أيضا قمت بربط العلاقة ما بين الأثر الأدبي للمُحتفى بذكراه من جهة (إدموند عمران المالح)، والأثر الأدبي لجبرائيل بن سمحون من جهة ثانية. ففي ثنايا الأعمال البارزة لهذا الكاتب الأخير، مثل [מלך מרוקאי، 1980] "مَـلِـكٌ مغربي"، و[המהלכים על המיים، 1997] "المشاة على الماء"، و[הולכת עם כמון، חוזרת עם זעתר؛ ספורי אהבה מרוקאים، 2002] "غادية بالكامون وجايّـة بـالزّعتـر؛ حكايات حب مغربية"، و[פאנטזיה מרוקאית؛ תבשילים וספורים، 2009] "تبوريضة مغربية؛ أطباق وحكايات"، يجد الناظر العناصر البنائية الأدبية المشار إليها أعلاه تـتـزاحم في كثافة لتعطي لهذه الآثار الأدبية الموزعة بين السرد والمسرح طابعا مغربيا بامتياز، تـتوزع فضاءاته، على سبيل المثال، ما بين صفرو، مدينة طفولة الكاتب، بأزقتها ونهرها العنيف، وشلالاتها وأوليائها وعلى رأسهم سيدي لحسن اليوسي وما نُسج حوله من طقوس ومعتقدات(انظر نموذجين قصصيين مترجمين هـــنـــا و هـــنــــا)، وبين فاس، والشاون، وتطوان، وطنجة، وزاكورة والريصاني، ومرزوكة، وغيرها من المدن والقرى المغربية العريقة بكل ما يتميز به كل فضاء من خصوصيات، ومع ما يجمع بين تلك الفضاءات من ثقافة مشتركة مثل الكسكس، والطاجين، والأتاي بالنعناع والفانطازيا، و"الجلابة"، و"البلغة"، والقفطان والتـكَـشيطة، ومفهوم وقيمة الزمن والمكان والحياة؛ وهي آثار تحتل فيها، من جهة أخرى، قضية هجرات القرن العشرين، التي طبعت المغرب، مكانة خاصة بمحركاتها الأيديولوجية بالنسبة للبعض، والاقتصادية بالنسبة للبعض الآخر. وهي آثار تتراوح شخصياتها ما بين الجزار عيوش، ومسعودة خْضْرْت لعينين، وللا ياقوت، وولد الباشا، والقايد عومار، وسيدي لحسن اليوسي، وملك المعرب، وغيرهم؛ وتتراوح مرافقها وأحداثها ما بين بيعة، ومسجد، وسوق، وفرّان وفرناتشي، وساعاتي، ورحلة في الحافلة في مناطق الريف، وحفلات، ومآدب، ومآتم، وهجرة اليهود وغير اليهود، الخ.، وتخترقها رمزيات الأساطير المغربية كأسطورة الصعود إلى السماء كما في حكاية "صعود ساعْـدة إلى السماء" (עליתה של סעדה שמימה)، تلك الولية الصالحة التي أغواها ثعبان أسود ("بوسكـّة") فأصبحت تقاسمه، تحت جناح الظلام ليلا حياتها الحميمية أمام اندهاش من كانت تشملهم ببركتها الصالحة في معاشهم وعافيتهم البدنية والعقلية والذين كانوا يتحسسون فحيح الأصوات الحميمية من وراء جدران خلوتها مع الثعبان، فانتهت بها تلك الغواية إلى هجران جبال الأطلس بخيراتها البشرية والطبيعية إلى سماءٍ خيّـبت بعد ذلك ظنها بجدْب فضائها وفقره، إذ لا تنتصب فيها جبال، ولا تجري فيها أنهار، ولا يزقزق فيها طير (انظر ترجمة للقصة هـــنـــا)، تماما كما كان بطل الأسطورة الأمازيغية، احماد ونامير (أو حمّو ونامير)، وهو أول "الحاركَـين"، قد هجر اللوح والقلم والأهل، ونحر جواده لنسر من النسور مقابل أن يصعد به ذلك الطائر إلى السماء في لهاثه وراء الحورية السماوية التي كانت قد سبَـتـه بسحر جداول رُقاها الحنّائية في كفه أثناء نومه، فندم بعد حين على صعوده وانتهى بإلقاء بنفسه في النهاية من السماء السابعة عودةً منه إلى أمذه الأرض على شكل قطرة دم واحدة تبقت منه بعد اختراق السبع الطباق (انظر تلخيصا ومراجع في المدلاوي 2012 "رفع الحجاب عن مغمور الثقافة والآداب"، ص:107-109")، وكما كان مخيال المغاربة قد أسْـرَى في الخمسينات من القرن الماضي بملكهم إلى القمر ليبقى عرشه الذي هو لهم بالقرب منهم بعدما شُبّه للفرنسيين أنهم قد نفوه إلى "مادام كاسكار" - وقال بعضهم في فضاء الحلقة إلى "بلاد بني كلبون" - وذلك لعقد ونصف قبل أن يطأ قدَمَا الأمريكي أولدرين أرمسرونغ تراب القمر.
كل ذلك جعل من مجمل آثار بن سمحون، بدورها في النهاية، أدبا مغربيا بامتياز في جوهره، مع خصوصية كونه قد كتب في هذه الحالة، التي ليست استثناء في التاريخ، بلغة الصحف الأولى بوجهها العبري الحديث الحافل بعبارات وأمثال من العربية المغربية، بما في ذلك عنوان إحدى المجموعات (غادية بْـلكامون وجايّـة بْـزّعتـْر)؛ وذلك على غرار "الأدب المغربي المكتوب بالفرنسة"، إذ أن عمران المالح نفسه بدأ مشواره الأدبي المغربي في المنفى، كما كان خير الدين قد كتب ما كتب في أرض الغربة.
ولا غرابة في أن تكون اللغة العبرية مؤهلة لاستيعاب الخصوصيات المغربية، وهي التي تداخلت تاريخيا عبر الحقب مع النسيج اللغوي المغربي، عربيّه وأمازيغيه؛ فكلمة "تكَـشيطة" أو "تقشيطة" على سبيل المثال فقط، التي هي من المميزات الجميلة لمعجم العربية المغربية في باب الخياطة العالية كلمةٌ عبرية الأصل مبنىً ومعنىً (קשט [قِـشّـط] = "زيّن"؛ התקשט [هِتْـقـَـشِّـط] = "تـزّين")؛ ويقال نفس الشيء عن كلمة "طبصيل" في باب الطبخ المغربي (תבשיל [تـَـبْـشيـل] = "طبَق") الذي تحتل رمزيات ثقافته مكانة خاصة في أعمال ابن سمحون كما يدل على ذلك أحد عناوين مجموعاته.
تمزق بن سمحون من خلال أدبه بين الشرق والغرب
ولقد شاءت أقدار زجر الطير ما بين بارحاتٍ وسانحات أن يجد ابن سمحون نفسَـه موزع النزوع والولاء ما بين فضائين جغرافيين، وبين كيانين وطنيين، وأن تـتـقاذفه تموجاتُ مدِّ وجزرِ نفوذِ انـتمائيـن عشائريين جهويـيـن تقديريـيـن لا يجمعهما عبر التاريخ إلا الجفاء أو خنوع طرف ونفوذ آخر، ألا وهما الشرق والغرب، ليس بمفهومهما التصنيفي الجغرافي (مشرق/مغرب) الذي كانت قد تأسست على أساس توثيـنـه العشائريةُ التقليديةُ في إطار صراع الجهات ما بين "مركز" سائد و"هامش" تابع أو منزو (أو ما بين "الصدر" و"الذيل" كما جاء في النكتة الشهيرة لتشبيه العالم بطير العراقُ صدره والمغرب ذيله)، ولكن بالمفهوم الأيديولوجي لعصر العولمة الذي لم يعد يمكن فيه التمييز جغرافيا بين المشرق والمغرب، والذي قام على أساسه مفهوم "صدام الحضارات" خارج أبعاد المكان التي ألغتها تكنولوجيا الاتصال.
وهكذا فإن الأثر الأدبي المغربي الروح لابن سمحون قد وجد نفسه بين كرسيين: كرسي من يجهله البتة وكرسي من لا يعترف به كأدب. فقد أصبح في إسرائيل، الغربية النظارات الإيديولوجية والمشرقية الموقع جغرافيا حسب التصنيف القديم، أثرا يُصنَّـف، على سبيل الإقصاء وفي إطار صدام الحضارات، كمجرد منمنمات وفانطازيات شرقية [מזרחי]، وذلك بنفس التصور الذي يُصنِّـف فيه بعضُ المغاربة اليوم وطنَهم "المغرب الأقصى" كفضاء شرقي، في مقابل دار الغرب؛ وبنفس المفهوم الذي صنفـت به أيديولوجية الفاتح جورج بوش نفس هذا الوطن كمجرد هامش لـ"الشرق الأوسط الكبير" الذي هو جزء من الشرق بصفة عامة الذي يشمل كذلك الشرق الأقصى على الخارطة الأيديولوجية لصدام الحضارات كما رسمها قادة هيئة أركان حرب ذلك الفاتح، الذين غلبوا في أقصى الأرض، ولعلهم من بعد غَـلَـبهم سيغـلبون.
وإذ بلغ اليوم ابن سمحون سنته الثالثة والسبعين، وهو المتخصص كذلك في السينما الإيطالية (فيليني وبازوليني على الخصوص) كما تجلى ذلك على الأخص في كتابه [אשה בשלשה שדיים؛ נשים בקולנוע פיליני] ("امرأة بثلاثة أثداء؛ النساء في سينيما فيليني") مخترقا بذلك حواجز جهويات "ديار الشرق" و"ديار الغرب"، فإنه يلخص مغزى محاصرة تكتلات الأوساط الثقافية لأعماله المسرحية، المغربية الروح والروائح والألوان، أي "الشرقية السمات والقسمات" حسب نظارات الاستابليشمانت الإسرائيلي، وذلك بقوله في خاتمة نصه المشار إليه والمعمم أخيرا ما يلي:
[[... في ما عدا مسرحية "ملـكٌ مغربي"، التي تم تقديمها بمسرح "الـبـيـما" (הבימה، اسم المسرح الوطني الإسرائيلي)، لم يتم تقديم ولو عمل واحد آخر من "شرقياتي" في مسرح إسرائيلي مصنَّـف. (...). إن المسرح الإسرائيلي عاجز عن استيعاب أعمالي ومواكبتِـها. إن استعاراتي، وأسلوبي، ولغتي، والعالم الآخر الذي أحمله معي، أمور عسيرة الهضم عليه. إنها جمال أبهى مما يُـتصور، في مقام أضيق مما يُـحتمَل. ذاك التأليف الفريد بين الشرق والغرب، وبين المشرق والمغرب، وذاك المزج الأصيل بين "تـبـوريضة" بدويةٍ، ونظام ومنطق حداثييـن، وبين الأسطورة والواقع والفولكلور (...)، أمورٌ غير مريحة بالنسبة إليه. (...).فالمسرح الإسرائيلي لم يفطن بعدُ إلى أنه يعيش في فضاء الشرق، بل إنه لا يعترف البتة بوجود هذا الفضاء. إنه ينظر إلى مجمل الفضاء حوله بنظارات الإبداع الأوروبي، كما لو أنه في برلين، أو فيينا، أو لندن (...). أكيد أن هذا المسرح يجتاز اليوم مرحلة، وأنا الآن خارجه خلالها. أنا بربري من بربر جبال الأطلس؛ أنا "خْـلْـويّ" المزاج، بــرّيّ الطبع، غير مُـنـتـَمٍ، وغير منخرط ؛ أعتصم وحيدا في برجي الخاص، وأذود بإنسيّــتي انطلاقا منه عن حوزة بيـتي؛ لا أحد يَـدين لي بشيء، ولست مدينا لأحد بشيء؛ إني خارج كل عشيرة أو تكـتـل أو حزب؛ أعمل وحدي خارج فرق المرؤوسين، وبدون أي رئيس. قد يبدو هذا معاكسا للطبيعة الإنسانية؛ إلا أن لغـتي بالغة الغنى، ومعقدة أكثر مما يُحتمل: هي مستقاة من ينابيع يهودية، وعربية، وأوروبية، وإسرائيلية؛ إنها جُرعة أعصى من أن تـُحتـسى بسهولة: إنه جمال أبهى مما يُـتصور، في مكان أضيق مما يُـحتمل.]].
لا حرج أن يخرج الكاتب عن التحفظ في هذا السن، وبعد ذلك المشوار النوعي، ليقول بالصريح ما تشي به حكاية "صعود ساعدة إلى السماء" بالمرموز، خصوصا في الحالات التي يصبح فيها التحفظ و"الاعتدال" ضلوعا في مؤامرة الصمت ضد الفكر والثقافة.
هذا وإن الملاحظ يكاد يجد وضعية صرحِ الإبداع الأدبي لابن يسمحون، كما وصف الكاتب تلك الوضعية، شبيهةً ذلك الفندق البهيّ بوضعيته الدرامية الذي صوره ابن سمحون في ثنايا قصته القصيرة المسماة [המלון] "الفندق"، والواردة في الصفحات 120-123 من مجموعته الصادرة سنة 2002 بعنوان: [הולכת עם כמון، חוזרת עם זעתר] ("غادية بلكامون، وجايّـة بـزّعتـر")؛ وهي بالمناسبة قصة تخترقها بدورها قضية "موسم الهجرة إلى الشمال" التي طبعت المغرب منذ أواخر النصف الثاني من القرن العشرين: يتعلق الأمر بمهاجر كرس حياته من خلال كد الهجرة إلى هولندا قصد تحقيق حلمه المتمثل في استثمار عائدات كده في تشيـيــد فندق بهي، فندق تشع بداخله الأنوار، وتنبعث من نوافذه في كل اتجاه، وذلك ليصبح نزلا ومقاما يتوافد عليه زوار تلك المدينة الساحرة القسمات والألوان من كل الآفاق؛ لكن، بعد تحقيق ذلك الحلم مع حلول موعد تقاعد المهاجر الذي كان زاده الخيال، بقي الفندق خاليا تصفر فيه الرياح في تلك المدينة المنبـتّـة والمعزولة عن العالم بين قرني الجبل اللذين بهما سُمّـيـتْ (اشّـاون = "القرنان" بالأمازيغية). لقد كان بدوره صرحا أبهى مما يُـتصور، في مكان أشد عزلة وضيقا مما يُحتمل (انظر ترجمة للقصة هــــنـــا)؛).
والخــــلاصــــــة هي أن مهاجرين ومغتربين أمثال محمد خير الدين، وعمران المالح وجبرائيل بن سمحون، قد اختاروا في مشوار استثماراتهم الفكرية، انطلاقا من غربتهم، اختاروا "الباب الضيق والمسلك الوعر" الذي لا يسلكه إلا المفردون الأُصَلاء، وهم قلة، لا الطريق المعبّـد الرحب الذي تـتـدفق عليه وفيه الحشود، حسب تصوير الأناجيل التي ورد فيها ما يلي: (ادخلوا من الباب الضيق؛ فما أوسع البابَ وما أرحب الطريقَ المؤديين إلى الفناء؛ وما أكثر من يسلكون ذلك المسلك. وما أضيق الباب وما أصعب الطريق المؤديين إلى الفلاح؛ وما أقل من يسلكون ذلك المسلك): إنجيل متى-7:13-14. لقد اختار أولئك الكتاب ذلك المسلك، تماما كما اختار ذلك المهاجر الشاوني استثمار عائدات كده وغربته في أرضية منحدرات مدينته الهامشية، الشاون، انطلاقا من أرض الكد في الغربة، وذلك بدل الاستثمار في كورنيش من كورنيشات مركز من المراكز التي تتهاطل عليها أكداس الأموال المبيـّضة من كل وكر. وإذا كان بن سمحون قد نطق بحال وبلسان أمثاله في الشكوى من جفاء من {لهمُ قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهمُ أعينٌ لا يبصرون بها، ولهمُ آذان لا يسمعون بها} (قرآن كريم)، فإن نفس الأناجيل كانت قد أجابت عن مسألة العلاقة بين نوعية مكان الاستثمار من جهة، ونوعية الغلة وحظوظ استيعابها وتمثلها من جهة ثانية، وذلك من خلال مغزى مـثَـل الاستثمار الزراعي الذي يقول: (أنصتوا، إذن، إلى ما يستفاد من مَـثَـل الزارع: أولئك الذين يسمعون كلام الملكوت فلا يفهمونه، حالُهم حالُ البذور المزروعة على قارعة الطريق، إذ يخطـُـر خاطرُ السوء فيقـتـلعُ ما زُرع في قلوبهم. أما البذور المزروعة في أرض صخرية، فذلك حالُ من يسمعون الكلمة فيتلـقـفونها في الحال حماسا وفرحا؛ وإذ ليس لها جذور في نفوسهم، فإنما هي إلى حين، إذ، ما أن يخطر ضيقٌ أو اضطهادٌ بسبب كلمة الملكوت حتى يرتدّوا عنها مدبرين. أما البذور التي تسقط بين الأعشاب الشائكة فهي حال أولئك الذين يسمعون الكلمة إلا أن هموم الحياة وحبّ زينتها تخـنـقها فيهم فلا تؤتي ثمرا. أما البذور المزروعة في الأرض الطيبة، فهي حال الذين يسمعون الكلمة ويفـقهونها، فـتـثمـر وتعطي الحبةُ منها مائة، ويعطى بعضها ستين، وبعضها ثلاثين): إنجيل متى-13: 18-23.
ويزيد إنجيل مرقص-4: 5-6 فيوضح أكثر مثـل الزرع في قشرة تربةٍ خادعةٍ أساسُها صخر صلد بقوله: (ومن البذر ما يقع في أرض صخرية الأساس، ليس بها ما يكفي من تراب، فينبت في الحين دون أن يكون له عمق في الأرض؛ وما أن تشرق الشمس حتى يذبل ويـيـبـس لافتقاره إلى جذور في العمق) . فالاستثمار إذن في "أسبوع المشمش"، تعهُّـدا وجنيا وتسويقا، غير الاستثمار في زهر الزعفران؛ والاستثمار في مسليّـات البالونات والفقاقيع غيرُ الاستثمار في اللؤلؤ والجواهر. {فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض؛ كذلك يضرب الله الأمثال} (قرآن كريم). وخلاصة الإنجيل في هذا الباب هي قوله (وإذا ما دخلتم بيتا في مكان فأقيموا فيه إلى أجل؛ فإذا لم يرحب بكم أهله ولم يعيروا أسماعهم لكلمتكم فاخرجوا من ذلك المكان وانفضوا ترابه عن نعالكم عِبرة لهم): إنجيل مرقص-6: 10-11
------------------------------------
(1) يقول الكاتب، بنسالم حمييش في مقاله المشار إليه: "القول بفكرة أن اللغة في مجال الخلق الأدبي وحتى الفكري وسيلة تعبير ليس غير، ما هو سوى قول لا أصل له في الحقيقة. وإلا فكيف نفسّر أن كتّابنا بالفرنسية - مثلاً - لا يشعرون باستقامة وعائهم النفسي واللغوي، ولا يتنفسون ولا يعيشون الإبداع، إلا داخل لغة واحدة مفردة من دون أن يقدروا على إبدال لغة أخرى بها، كالتي يفترض أنها لغتهم الأم أو لغتهم القومية مثلا؟"*
------------
محمد المدلاوي
https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 345 autres membres