(EN ARABE, traduit de l'hébreu) 1-L'ascenssion de Tuda
Si la graphie arabe ne s'affiche pas correctement, aller dans la barre de menu en haut de la page, cliquer sur le bouton AFFICHAGE puis sur CODAGE, puis sur (PLUS, puis surARABE(Windows)
صعودُ "تودا" إلى السماء
قصة "עליתה של סעדה השמימה" للكاتب جبرائيل بن سمحون 2002
ترجمة محمد المدلاوي المنبهي 6 غشت 2012
صعودُ "تودا" إلى السماء
قصة "עליתה של סעדה השמימה" للكاتب جبرائيل بن سمحون 2002
ترجمة محمد المدلاوي المنبهي 6 غشت 2012
(أ)
كانت أكثر جمالا من أن يكون الزواج نصيبها. أخواتها الست قد أنجبن جميعا بنين وبنات؛ أما هي، فقد ظلت باسقة مثل نخلة، مكتملة خضراء العينين. كلّ شباب مَلاّح "ايت بو-ولـّي" الذين تقدموا لطلب يدها قد صُدوا على أعقابهم؛ ناهيك عن الآخرين ممن لم يجرؤوا حتى على الإقدام على ذلك. والحقيقة أنه يصعب النظر إليها مع كل ما أوتيت من فتنة قاتلة. وكما لو أنها في انتظار أمير أو كائن ربّاني، سئمت من سماع عروض الزواج من أبويها.
أخذت ذات يوم قليلا من ملابسها، وغادرت القرية. توغّـلت في أقاصي البيداء؛ وهناك وجدت لها مغارة صغيرة بأحد الأجرف الصخرية المشرفة على ما حواليها، فقطعت كل صلة بالعالم.
عندما تعود مساء من النهر، وعلى رأسها جرّةُ ماء أو حزمةُ قشّ، كان الرعاة أو أصحاب القوافل يعتقدون أنهم قد رأوا إلهة، فيطفقون يتملـّون بأعينهم في كائن باهر كأنه نخلة باسقة تسير الهُوينا. كثير هم الرجال الذين حاولوا تجريب حظهم لديها، فأهينوا بنفور صامت هادئ. أما آخرون، فقد عز عليهم أن يعاينوا الجمال الربّاني وهو يتبدد سُدىً، فنصبوا بجوارها خيامهم آملين ربما أن تحدُث خارقة في يوم من الأيام، فترسم تلك الكائنة ابتسامة خفيفة على محياها في وجوههم.
شيئا فشيئا، ومع مرور الأيام، تحولت الخيام إلى دُور مَـدَرٍ وطين. تزوج الرجال بنساء من الجبال المجاورة، وتراضوا حول تلك الكائنة الربّانية، فأنجبوا بنين، وغرسوا كروما، وشقوا تُرَعا وسواقيَ.
أقاموا طواحن لحنطتهم على ضفاف النهر؛ وغدَت أشجار التمور، والكروم، والتين، والرمان، تغطي الوادي الذي أصبح شريطا مخضرا يخترق جوف البيداء على هيئة سكين.
"ايت بوﮔـمّاز" هو اسم أولئك الساكنة الذين يعلم الكلّ بأنها أمُّهم جميعا. هناك، بحُليـّـها النُحاسي على جبينها، وبنجمتها الموشومة على أرنبة أنفها، وبوردتها المصغرة على ذقنها، كانت تجلس منهمكة على تحضير أمزجة أعشابها الطبيّة، وهي تهمس همسا. إنها تزيل آلام الرأس وأوجاع البطن، وتطرد الأرواح الشريرة، والجن، والشياطين. ذاع صيتها عبر كل بلدات الأطلس. كانت في باب مغارتها بمثابة إلهة. فالأشجار تغدق ثمارها دانية على صدرها؛ والدواجن تضع بيضها بين قدميها؛ والينبوع القريب يصبّ على الدوام من مائه الزلال في جوف الجُرَر؛ والنهر يردد ألحانه العذبة على الدوام.
ذات ليلة، وبينما هي مستلقيّة في وحدتها على مطرفها، وعيناها شاخصتان، إذا بها تبصر ثعبانا وقد ظهر فجأة في فضاء مخدعها. كان أسود قاتم اللون ضخما. نظر إليها وزحف نحوها، وذنبه لجهة الباب، بينما كان رأسه الضخم بعينيه المتوقّدتين شررا لجهة رأسها. زغرد بلسانه ورحْرَح بفحيح من حولها يكاد يدغدغ أذنيها. لم تكد أن تستشعر أي فزع أو أن تستوعب ما حصل، حتى رأته زاحفا في تثاقل نحو الخارج ذاهبا كما كان قد أقبل.
من ذلك الحين، وقبل أن تهيأ فراش نومها، كانت تفقس بيضتين طريّتين في صحن من فخار، فتضعه على الأرض لجهة رأسها؛ فكان الثعبان يأتي فيحتلب مفقوس البيضتين ويطوف بمضجعها سبع مرات مُرحرحا بفحيحه حول جسدها ثم ينصرف. في بعض الأحيان، كان يتراءى لها عبر منسوج منامها متلألئا مفتول الخلقة. فهي تعلم أن هناك أناسا يتلفّعون بثعابين على أجسادهم، يعانقونها ويلاطفونها ويقبلونها. إلا أنها كانت لا تجرؤ على أن تقرَبه أو يقرَبها. كانت تمضي ليال كاملة، وناظِراهما متواجهان، إلى أن يغض هو طرْفه أولا ثم ينصرف.
انتشر خبر كون تودا تعيش مع ثعبان؛ ولكن لا أحد كان يعرف كيف ذلك، بالرغم من أن هناك من رووا أنهم قد سمعوا عبر جدران المغارة أصواتَ فحيح وآهات عِشق مُستعِر! بل إن هناك من حكوا لا أقل ولا أكثر من أنهم شاهدوا الكاهنة وهي مختلية بالثعبان كاشفة أمامه عن نهديها. ومنذ أن تيقّـن الجميع من أن تودا، من بنات "ايت بوﮔــمّاز"، إن هي إلا إلهة وأنها ليست مجرد كائنة قاتلة بجمالها، أخذ القوم يؤُمّونها حُجّاجا: صرعاء، وعُرج، وعُور، ومشلولون محمولون على أكتاف ذويهم، يرابطون جميعا في طوابير قرب المغارة، ثم يعودون سعداء إلى بيوتهم. ...
كانت تودا آخر من سمع وقعَ خطى المسيح. لقد جاءها طفلان من أبناء أخواتها يبشرانها بأن المسيح قد حل بقريتهم. ...
تركت تودا وراءها وجبة الكسكس تتبخر بالفوار على القدر، فمضت مهرولة خلفهما حافية القدمين نحو القرية، تلك القرية التي أضحت بكاملها مُوَسّقة على أظهر الحمير. فقط، بعض المتأخرين كانوا ما يزالون منهمكين على انتزاع المزّوزات من سواكف الأبواب،[1] أو على لفّ أسفار التوراة وربطها بحبال على ظهور الدواب. خرجت من القرية قافلة من الحمير محمّلة بالصبايا وأسفار التوراة فانضمت إلى قوافل أخرى كانت قد غادرت قرى أخرى، ثم اختفت في غمرتها. كان الجيران المسلمون مصطفّين على جانبي الطريق، يعانقون مَن هم طريق المنفى، وهم يُرَقرقون دموعهم.
***
وهكذا، وبقميصها الوحيد على جسدها، يزيّـنه رسمٌ لذلك الوادي المخضر، وصلت تودا إلى موشاف "لاقيس".[2] هناك في قلب الصحراء، لا من نبات ينبت، ولا من كائن حيّ يَـلوح في المحيط؛ لا نحلة، ولا فراشة، ولا عصفور، ولا ثعبان. غير أن مرشدي "وكالة الهجرة" قد بسطوا صورة للمنطقة القاحلة؛ وبفعل سحري - نصفه بقرة ونصفه حصان - صيّروا المنطقة من مقاما زاهرا. لقد عبأت التعاونية حتى النسوة والصبية للعمل، ومعهم حتى كاهنة ايت بوﮔـمّاز، التي انخرطت في أشغال قطف بقول القِثاء والطماطم والبطاطس. كانت تعود كل يوم إلى بيتها بوجه مشظوف بوقع لفح الشمس المُحرقة، بيديها الحريريتين وقد طبعتهما بقع تيـبُّس البِشرة. لم يكن من السهل عليها أن تتأقلم مع المحيط الجديد. فبيوت الوكالة جميعها بيوت بيضاء اللون وذات سقوف حمراء، يشبه بعضها بعضا تمام الشبه، إلى درجة أنه كثيرا ما تجد صعوبة في الاهتداء إلى بيتها، فتلجأ إلى استرشاد الأطفال.
ذات مرة أولجت المفتاح في خصاص الباب، فإذا بشخص لا تعرفه يفتح الباب وهو يسأل في توجّس عن ماذا تريد. ومرة أخرى، فتحت باب بيتها، فجلست إلى خوان التعاونية لتناول بعض الطعام في صحن التعاونية، فإذا بشخص غريب يخرج عليها بثيابه الداخلية من الغرفة المجاورة منبها إياها بأنه يتناول وجبة طعامه.
سعِد أناسُ الموشاف لكون تودا، كاهنة الوادي، توجد بين ظهرانيهم. كان المسنون متيقّـنين من أن الازدهار السريع إنما حصل بفضل بركتها؛ أما جيل الصغار من جهتهم فقد حمَـلوا ذلك على فضل مسؤولي الوكالة وفعالية ونجاعات الجرارات. لقد كانوا يتوقّدون حماسا لمعجزات إنجازات الجرّار، فكانوا يستقلونه ويتوجهون بعيدا، يحرثون الصحراء إلى حدود منتهى الأفق. يبدو كما لو أن الجرار يبتلع الأرض أمامه وهي حَـوّاء اللون، ليخلّـفها من ورائه وهي مخضرّة اخضرارا. فهُم، الذين كان آباؤهم لحّامي زنك أو صياغي فضّة، إسكافيين أو خياطين، تحولوا فجأة إلى متمرّسين مهَرة يشغّلون آليات الحرث والحصاد، ويتحكمون في أنابيب السقي وفي المرشّات، محدّدين للغيث أين ومتى ينزل.[3] لقد أفلح مهندسو الوكالة، الشُقـر الشعَر ذوي اللباس الكاكي اللون، حتى في إنتاج طماطم ضخمة الحجم في فصل الشتاء، وفي جعل الدجاج الأبيض يبيض مرتين في اليوم، وجعل البقرة الواحدة تعطي من الحليب ما تعطيه عشرُ بقرات.
بدت لتودا خوارقهم أعظم من خوارقها. والواقع أن البيض لم يكن له طعم البيض، والحليب لم يكن بطعم الحليب، والفواكه والورود لم تكن لها لا نكهة ولا روائح. ولكن تودا كانت تحسب بأنها هي التي فقدت حاسة الشم وحاسة الذوق.
في ظرف زمن قصير كست الخضرة رقعة الفضاء. ملأ الأجواءَ صياحُ الصبية وخُوار البقر وقِوقأة الدجاج. حتى الفراشات والنحل والجنادب قد حلّت بالمكان. بل إن تودا قد صادفت يوما من الأيام ثعبانا في طريقها. كان هذا الثعبان، الذي تـنـزّى فجأة من بين تـأجُّمات النبت، أشقر اللون؛ ولم يكن بالأسود. تلـوّى على عرض الطريق واعترض سبيلها. كان نحيفا صغير الحجم أبرص، ولم يكن أسود مديدا مكتنزا كثعبانها بـ"أيت بوﮔماز" الذي كان له جلال وبهاء الأقدمين.
بقي الاثنان زمنا طويلا ينظر أحدهما إلى الآخر. كانت تنتظر أن يتنحى منسحبا، إلا أنه لم يتحرك. كان يكفي عادة أن تريد الأمرَ، فيحصل الأمر. أما هذه المرة، فقد شُـلـّت إرادتُها، فلم يحصل ما أرادت، وذلك كما لو أن قوة عزم إرادتها لا تكاد تبلغ الثعبان. تقدمت خطوة لعلها تقوي عزمها أكثر؛ لكن عوض أن ينسحب، تقدم نحوها برأسه مهددا. لم تفهم ما الذي عطل فاعلية إرادتها. قررت أن تستنهض جماع أسس قواها فلملمت بين شفتيها مرتين تعويذة "אמתלאי בת עורבתא ".[4] زغرد الثعبان بلسانه كما لو أنه يَسخَر منها. ما الذي حصل لها؟ ما الذي أصابه الفساد؟ قررت أن تتقدم نحوه من جديد، غير أنه تنزّى مندفعا نحوها، فاضطرت إلى استعمال عصاها. وجهت إليه ضربة في عنقه ودكته حتى امتزج رأسه بالتُرب.
لم يعودوا اليوم كُـثـْراً أولئك الذين هم في حاجة إلى وصفات نُصح تودا. فالناس منشغلون بتطويع الأرض وتنمية البيداء، ولم يعد لهم وقت للانشغال بالمرض. فمن يصيبه المرض يتكلف به صندوق الضمان الصحي. الطبيب هناك يعالج حتى الأمراض التي لا يتم الشعور بوجودها؛ ومسؤولو التعاونية يعالجون الحيوان والنبات باقتدار يضاهي سحر الأقدمين. وهم مع ذلك لا يفتأون يكرّرون على الدوام أنْ ليس هناك حيز للإيمان، وأنّ الآيات والتعاويذ قد قضت نحبَها منذ زمان، وأنْ ليس هناك مكان حتى للأمثال الحِكمية ولا لرُقى الزجريات، ولا للسُقـَى ولا للاستـثآبات، وأنْ ليس هناك أي شيء في السماء، إذ كل شيء إنما هو على وجه الأرض؛ فيها جُماع جنّة عدن، والله، وصندوق الضمان الصحي.
(ب)
في البداية ذاع صيت اسم تودا عبر كل أرجاء البلاد؛ وكان سكان موشاف "لاقيس" فخورين بكونها منهم. فكثير من الشخصيات المهمة في صفوف مسؤولي الوكالة، والنقابة، والحكومة، ممن كانوا يأتون ليشاهدوا بأمّ أعينهم ما تحقق من نجاحات في الموشاف، كانوا يتفقدون أحوالها كذلك ويصافحونها ويعبّرون لها عن كبير احترام وتقدير. خلال تنظيم إحدى الانتخابات، قدِم إليها ثنائي من المسؤولين يحتذي كل منهما نعلين ويرتدي بذلة كاكية اللون، ومعهما باقة كبيرة من الورد، وكانا على رأس موكب من المصورين، والصحفيين، وأنصار الحزب، ورئيس مجلس الموشاف. عملا كل شيء من أجل إقناعها، ملحّين عليها بالقول: أنت التي ستصبحين أول نائبة لنا في الكنيسيت. لم تفهم ماذا يعني ذلك بالضبط؛ لكن لم يكن بوسعها أن تقابلهما بالرفض، فوقعت على صك الترشّح ببصمة أصبعها. قاما بتصويرها وهي على الجرّار، ثم وهي تحلب بقرة، ثم وهي تعد الكسكس بجوار مبنى مجلس الموشاف؛ وبعد ذلك أصعداها إلى منصة ثم أعاداها لتتوسط ما بينهما وبين رئيس المجلس، وقدّما لها ميكروفونا؛ لم تكن تدري ماذا تقول؛ اكتفت ببسط ابتسامة عريضة باسطة ذراعيها كجريدتي نخلة. خرجت صورتها في الصفحات الأولى للصحف وإلى جانبها ذانك المسؤولان في الصف الأمامي. بعد بضعة أشهر من ذلك، يوم أو يومان بالضبط قبل الانتخابات، عاد المسؤولان بلباسهم الكاكي وطلبوا منها توقيعا إضافيا على مطبوع آخر، اتضح فقط بعد مدة من تمام الانتخابات، أن ذلك كان تصريحا منها بالتنازل عن اعتماد ترشّحها، لفائدة أحدهما.
وقد حصل أن أغرٍم أحد مسؤولي الوكالة بتودا. كان يأتي مساء كل يوم بعد العودة من العمل، فيقضي الليلة كلها في الطريق قبالة مدخل بيتها. كانت تقريبا في سن أمه؛ إلا أنها ظلت مع ذلك رشيقة فتانة. بقي كذلك ستة أشهر وهو يقضي الليل واجما أمام باب بيتها الموصد، إلى أن أقبل فصل الشتاء فتبلل يوما حتى العظام، إذ ذاك انضمت إليه أمّه فوقفت بجانبه حاملة مطريّة لوقايته. لم يعد حينئذ بإمكان تودا أن تتمادى في رفضها فخرجت إليهم.
تحرك القوم بمطرياتهم متوجهين بثنائي الخطيبين إلى مقر المجلس، حيث نظموا للزوجين حفل قرانٍ بسيطا بمشاركة رِبّي الجماعة وأعضاء المجلس. وفي طريق العودة، برز ثعبان فجأة وسط الجمع فـلذغ العريس، الذي سقط على التو فلم يقم. وبدل أن يتجه الجمع إلى بيت العرس، شيعت الجماعة جنازة الضحية إلى المقبرة.
لم يمر زمن طويل على ذلك حتى أخذت تنتاب تودا نوبات سعال متوالٍ سلبت منها كل قواها. حضرت لنفسها مختلف أنواع التحاضير، ودهنت جسدها بمختلف الزيوت النباتية التي جمعتها من الحقول، واستنشقت الكثير من أبخرة روح الزهر. إلا أن أنفاسها ما فتئت تضيق؛ وكم من مرة أشرفت على الاختناق. أخذها أحد المُجِـلّـين لشأنها، وكان من سكان بلدة سديروت، فتوجه بها إلى طبيب جد معروف من أصدقائه. وفي الطريق حكى لهما صاحب سيارة الأجرة أن ذلك الطبيب قد شفاه من مرض الربو في ظرف أسبوع.
ناولها الطبيب قوارير صغيرة بها مساحيق ملونة، ووصف لها أن تتناول المسحوق الأصفر في الواحدة والربع ليلا مع نصف كأس من الصودا، وأن تتناول المسحوق الأحمر في الثالثة والنصف مع ربع كأس من مشروب غازي، وهكذا دواليك.
عادت تودا إلى بيتها وقواها في تدهور مستمر. قالت لنفسها: إنهم أقوى فاعليّة منّي. فأنا لم يكن بوسعي يوما أن أضمن الشفاء في تاريخ موقوت. أما رئيس مسؤولي الوكالة، الذي قدّمت له مستندات الدواء، فقد ضحك ساخرا فقال لها: أكيد أنه قد كان لك شأن مع طبيب من صنف عبَدة الأصنام. فمن المعلوم أن ليس هناك دواء ضد مرض الربو؛ ولو كان دواء من ذلك القبيل متداولا لدى صندوق الضمان الصحي لكان معروفا لدينا. جلس على التو وخط رسالة تغلي غيظا إلى مدير مكتب الصحة يسرد عليه فيه الحكاية. فصل أمرَ الأدوية ثم أضاف سلسلة من الأسئلة حول ما إذا كان الطبيب طبيبا [فعلا]، وما إذا كانت الأدوية أدوية فعلا، وما إذا لم يكن الثمن مضخما، وما إذا كان مخوّلا بالفعل لطبيب الربو أن يعمل خلال الأسبوع [وليس في نهايته]. بعد مرور أيام، تسلم جوابا فقرأه عليها بينما هي تمر بنوبة اختناق، وقد جاء فيه: "الطبيب طبيب فعلا، والأدوية أدوية، والثمن موضوع فحص وبحث". وعن سؤاله عمّا إذا كان بإمكان طبيب الربو أن يعمل خلال الأسبوع كان الجواب الطبيب: "نعم، ما دام المرء مؤمنا". أخذ المسؤول يغلي غضبا قائلا لها: أفأنت قد فهمتِ الآن ؟! "ما دام المرء مؤمنا"! فحتى مدير مكتب الشؤون الصحية يصبح بدوره طبيبا مادام يؤمن إيمانا! ثم رمى بمستندات الأدوية التي كانت قد اشترتها.
***
استمر تضايق تنفّس تودا يحتدّ أسبوعا بعد آخر، واستمرت قواها تدهور، إلى أن أُلزمت الفراش؛ ومع ذلك ما زال القوم يحجون إليها. كانت تقصدها على الخصوص أولئك النسوة المُسنّات من أهل قرية مولدها، اللواتي يذكرن بأنها إلهة قديسة حقيقية استمدت قواها من الأرض والنجم والشجر والأنهار، تلك القديسة التي كان بمقدروها أن تهَب القوة والعافية لمن هو مريض مرضا عضالا من ذريتهن بمجرد لمسة يد، بكلمة واحدة، أو بنظرة عين. كنّ يجلسن إلى جانبها، وينصتن إلى أنينها، ويجففن عرقها بالعصائب، ويذقنها من الشاي المنعنع وهن ينظرن إلى عينيها الخضراوين. رأين عبرها ملوكا وأنبياء أقدمين من أزمنة المعجزات الغابرة. هنّ يعرفن أنها غصنٌ من سلالة متأصلة عريقة من القوم الربانيين، أولئك الربانيين والعارفين الذين وُجدوا منذ غابر الأزمان؛ وهنّ يعرفن أنها تعلم ما لم يعلمه آدمي آخر أبدا، وأنها المرأة التي تتحدث إلى الأنهار والأيام وإلى البِـيد بلغة سرية وبلسان مكنون لا أحد من سكان موشاف "لاقيس" ولا من أي مكان من الأرض الجديدة يفقههما ويفهمهما. لذلك بكت بكل تلك الحُرقة لما حجت إليها يوما عجوز كانت تعرفها وأصلها من وادي درعة، ومعها حفيدها في سنه السادسة وهو محموم. لقد كانت في الماضي تخلع خمارها المزيّن بالرشومات لكي تحضر "إسّـــان"،[5] فتبرم ذلك الخِمار على هيئة حبل مجدول، ثم تأخذ في قياسه طولا بمقاس شبرها ما بين الإبهام والخنصر، مشكلة سلسلة من العقد على رأس كل شبر. وحينما تهمس بقولها "ادّ يليــنت تيــليلا" ثم تأخذ في التثـاؤب،[6] كان مريضها يشرع عادة في التثاؤب معها، فيعود بعد ذلك معافى إلى بيته. لكن هذه المرة، ضم الصبي شفتيه، وأشخص عينيه ولم يغمضهما بعد ذلك ! لم تصدّق تودا احتمال كونه قد مات، فاستمرت تهدهده على صدرها طوال يوم كامل، إلى أن انتزعوه منها بقوة ليشيّعوا جنازته إلى المقبرة.
بدأت تودا تدرك تدريجيا بأن شيئا ما، في أجواء تلك الأرض، مضادٌّ لها ومعطـِّل لكراماتها وفضائلها. لم يكن قد خطر على بالها ولو مرة واحدة - ولم يُشبّه لها ذلك قط - أن لم تكن لها قدرات خاصة فريدة، وأنْ لعلّ الناس إنما كانوا يسترجعون صحتهم تلقائيا بمفعول قوة الطبيعة، فكانت هي تحمل ذلك على مفعول بركتها. قالت مع نفسها الآن: ربما لا قيمة، في الحقيقة، لكل تلك العُشـبيات والرُقَى والأفاعيل التي تلقتها من فم جدة جدتها، ولا طائل ذو فائدة من ورائها. وعلى العموم، وقبل كل شيء، كانت جدتها امرأة بسيطة لا تعرف لا القراءة ولا الكتابة. فلعل كل ذلك مجرد وهم. تخطر على بالها أحيانا خواطر بأنه قد حصل لها ما يحصل لعظماء الناس الربانيين كما حكت لها جدتها الكبرى عن ذلك؛ أي أنه لا يتأتى تقدير جلالهم إلا عندما ما يرتفعون عاليا نحو السماء الخضراء، وينفصلون عن درَك الأرض الغبراء.
يتعين إذن نسيان كل شيء وإعادة التمعّن في شأن الأمور. لم يعُد هناك أي شيء: لا وادي درعة ولا واحات النخيل، لا أشجار التين والزيتون، ولا ذلك الشريط الأخضر العظيم الذي يشق البيداء كمثل سكين. كل الرجال الذين أحبّوها فأقاموا حول خلوتها قرية، وكل النساء والولدان الذين رأوا النور بين يديها، وكلّ قطعان الماعز، وزرابي الزهور، والكواكب – كل ذلك مجرد سراب وتفاهة. فهي لم تكن إلهة خصب وعافية، وإنما كانت مجرد انثى ككل النساء. وحتى الثعبان، لم يكن له أبدا وجود، وإنما كان ذلك حُلما. لكن، وبدون أن تفكر تودا كثيرا، أخذت من جديد تفقس بيضتين طريتين وسط صحن من طين بالقرب من سريرها كما كانت تفعل من قبل. وإذ استسلمت ذات ليلة لنوم عميق، فإذا بالثعبان يظهر.
إنه عين الثعبان الأسود من ايت بوﮔماز، تسلل من الباب ساحبا التواءاته من خلفه، وهو يدنو منها منتصبا ومزغردا بلسانه. نظر إليها نظرة غاضبة كما لو أنّه يلومها على أن تخلت عنه بدون كلمة وداع. رحرح بلسانه كما لو أنه يهمس في أذنها داعيا إياها باسمها ليوقظها. وإذ فتحت عينيها بغثة، لم تصدّق: إنه هو بعينه، بدون شك ولا ريب، الثعبان الأسود القوي بعظمته. فكيف وصل؟ وكيف توصل إلى العنوان؟ كانت التواءاته الضخمة المكتنزة تحرّكه في تثاقل وهو منتصب إلى جانبها يفيض فتوّة، سديد القوام، ومرحرحا بلسانه بالقرب من أرنبة أنفها.
لم تنظر إليه فقط بدون فزع؛ بل إن ابتسامة علت مُحياها وهي تراه يلقي بنفسه بين نهديها ملتـفا على مضغة جسدها من تحت ثوبها، جيئة وذهابا على مجمل مساحة إهابها بِـلـمس لطيف آبق، وهو مرهف أثيري التكوين. لم تشعر أبدا في لحظة من اللحظات بلـُطاف غامر كهذا يعمّ كامل ذاتها دفعة واحدة، كما لو تعلق الأمر بيد عملاقة بألف أصبع. لقد أحبّت وتلذذت بأن تجد نفسها لحظة وهو يحضنها ملتفا حول ظهرها، وبطنها، وجيدها، ومحياها، وخصرها، ونهديها، وبين وركيها. يُخيل إليها تارة أنه ارتمى عليها مصارعا يعتصرها لكي يمزّقها إربا إربا، متخذا من نفسه حبلا ووثاقا مشدودا حول جسدها؛ و مرة أخرى تشعر بأنه يلاطفها بلمس ناعم مرَفرِف، ينساب على جسدها كترددات النسيم. إنه كائن إثيري الطبيعة؛ هو خفيف ووازن، حاضر وغائب في ذات الحال. يلتهم أحيازا ومساحات من جسدها الذي تقلص وتضاءل. طفق ينسحب ملتفا عليها قدُما ودبُرا، جيئة وذهابا، إلى أن لم تتبق نقطة من جسدها لم تحس بالحرارة وبالفيض، بالدغدغة وبالهمس، بالمُلاحسة وبالمُلامسة الملساء المتزلّـقة. كان ذلك كما لو أوتيَـت في ليلة واحدة مُستحقات غرام حياة بأكملها، وذلك في وجبة واحدة مركزة رُفِعت من خلالها إلى آفاق رحبة من الراحة والهدوء لم تعرفها من قبل. تجلى أمام عينيها واد درعة، وواد زيز بمياههما الخضراء، وأخذت تُجيل ناظريها ما بين واحات النخيل المثمر ممتدةً من أقصى الدنيا إلى أقصاها وبين ذلك السكين المخضر الذي يشق جوف البيداء، فهبت عليها من جديد روائح كل زهور وفواكه طفولتها وريعان شبابها، روائح الورد والسوسن، والتفاح، والإجاص، وحَبّ الملوك. وفجأة، تحسّ بما يشبه وقع مطرقة بين ورِكَـيها وامتد إلى نحرها، فانطلقت من فمها صيحة صاعقة مزاجُها تألمٌ واستمتاع، فشخصت عيناها فجأة لترى السماء وقد شرَعت أمامها أبوابَها، فحلـقـت نحوها على صهوة ثعبان مجنّح.
انـــــــــــــــــــــتــــــــهى
[1] هـ.م. المزّوزة (מזוזה) علبة مستطيلة صغيرة من فضة أو غيرها بحجم إصبع، تنقش على ظهرها أحرف الشين والدال والياء (ש.ד.י) وهي مختزلٌ بالأحرف لعبارة /شومير ديرة يسرائيل/ ("حافظُ بيتِ إسرايل"). وتحتوي بداخلها على لفيفة خُطّ فيها نص شهادة "اسمع" (رجع الهامش-12 )
[2] "الموشاف" (מושב): "تعاونية زراعية شرع اليهود المهاجرون الرواد في تأسيسها في فلسطين منذ أواخر القرن-19.
[3] هـ.م. في هذا إشارةُ مقابَلة إلى ما ورد في التوراة: {אם שמוע תשמעו אל מצותי ונתתי מטר ארצכם בעתו} ("إن تسمعوا وصايايَ سمعاً، أوتي أرضكم المطرَ في إبّانه").
[4] هـ.م تعويذة باللغة الآرامية من مرويات الربّيين، يرددها المتطيّر من سوء حال من الأحوال.
[5] هـ.م, /إســـان/ كلمة أمازيغية: جمع /إسّـــي/ أي "المشروب" (المقصود: مشروب محضّر لغرض علاجي تقليدي)
[6] هـ.م. /ادّ يلينت تيليلا/ دعاء بالأمازيغية معناه "وليأتِ الفرَج !"
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 345 autres membres