OrBinah

(EN ARABE) "L'hôtel" (nouvelle, traduite de l'hébreu)

الـفـــــنــــدق

("המלון"، ספור מאת גבריאל בן שמחון: 2002)

===

ترجمها عن العبرية:  محمد المدلاوي؛ فبراير 2012

المعهد الجامعي للبحث العلمي – الرباط

 

 

كانت حقيبةً قد أصابها البِـلى منذ زمان؛ إذ تجعّـد إهاب جلدها وتآكل، واخترقته الشقوق. كثيرا ما كنت أضطر إلى شدّها بحبال لكي لا تـتـفـكـك بين يديّ. فأنا لم أتعوّد على حمل أمتعتي باستعمال المِزوَد الظهري. لقد دأبت على استعمال تلك الحقيبة البالية غير ذات عجلات؛ ويتعيّن علي أن أتناولها كل مرة من عروتها لحملها بيدي اللتي تَـبرّح كـفُّـها بمفعول ذلك. غير أن تلك هي الكيفية التي أحب أن أسيح بها في الأرض.

أنا لا أعرف ما أسعى خلفه بالضبط من خلال أسفاري هذه التي لا تنتهي. ربما كان ذلك من أجل أن أسمع أصواتا لا عهد لي بسماعها، وأن أشتـمّ روائح وأرى وجوها جديدة. إني أبحث عن مكان لي، لم أعثر عليه بعدُ. أتنقل باستمرار من فندق إلى آخر، راجيا أن تكون الغرفة القادمة أكثر دفئا من سابقتها، وأن تكون التدفئةُ مشغّـلة، ويكون مسؤولُ الاستقبال مبتسما، وتكون المصابيحُ مضيئة فعلا، والغرفةُ غرفة ًبالفعل وليس حقيبة مثل حقيبتي.

هناك، في شفشاون، تلك المدينة الصغيرة الواقعة بين قرني جبلين بجبال الريف، لم أجد لي بعدُ فندقا. الواقع أني أتوفر في حقيبتي على خيمة صغيرة؛ إلا أنه لم يكن هناك مخيّم لنصبها؛ وأنا لا أعرف أين يُسمح وأين يمنع نصب الخيَم.

توجهت نحو المقبرة اليهودية. اليهود هم من أقاموا قرية في عمق ذلك الوادي الجميل. لقد عثروا على ذلك الموقع لما كانوا يبحثون عن مكان يشبه المكان الذي طردوا منه بعد إجلائهم من الأندلس. غير أنه لم يعُد هناك يهود. وما كان يشكل هناك، ذات يوم، مقبرة يهودية، لم يعد فيه لا شاهدُ قبر، ولا أثرٌ لحرف عبري. لقد اندثر كل شيء وانمحى بفعل جرف السيول، ولم يبق سوى علامات متناثرة من سور الحجارة الخارجي. حينئذ قلت في نفسي: باعتباري اليهودي الوحيد الآن هنا، فـلـربّما يُسمح لي أن أقيم خيمتي. شرعت إذن في الحين في فك حبال حقيبتي، إذا بسيارة تقف بغثة إلى جانبي وبداخلها فتى يبتسم مفترا عن سنّ مذهبة، وهو يقترح علي خدمة "الأوتوسطوب".

في غضون تحركنا بالسيارة، بعد هنيهه، بيّن لي ذلك الفتى بأن ليس هناك فندق بالمدينة؛ إلا أنه عرض علي استضافتي في بيته. اسمه ياسين؛ إنسان عجيب، مستقيم وطيب القلب؛ يبتسم باستمرار. ذهب بي إلى بيته، واقترح علي مِطرفَ نوم في زاوية أحدى غرف بيته الصغير. وبمعية أبنائه دائما، ناولني جُبّة بيضاء ونعلين منزليين من جلد الغنم. في صباح الغداة، دعاني لتناول الفطور في مقهاه اللصيق ببيته. أخرجت حافظة نقودي للأداء؛ إلا أنه رفض أن يسمع عن ذلك كلمة. قلت له: "لكن يتعين عليك أن تضمن معاشك"، فرد علي قائلا: "لـّي خلّا لو بوه ولّا جـدّو شي عقبة، كا يطلعها"؛ ومعنى ذلك أن كل من خلفه أبوه أو جده في عقبة من العقبات، يتعين عليه أن يقتحمها؛ أي أن لكل امرئ همومه الخاصة.

كان المقهى مقهى رحبا ومكسوا كله بالزليج، ويقع في وسط المدينة. له واجهة كبيرة منفتحة لجهة الشمس؛ لكن لا أنيس يقبل عليه، وذلك بالرغم من أن اليوم كان يوم سوق وأن الأزقة تعج بالحركة. فالفلاحون الذين يتوافدون من القرى على المدينة للتبضع يوم السوق ليسوا متعودين على ارتياد المقاهي. وبغثة، دخل أحد القرويين بجلباب بـُـنّي وقبعة من قشّ رحبة الحواشي. إلا أنه لم يجلس إلى خِوَان؛ إنما أودع عنزته لدى ياسين، وهمس له بكلمة ثم انصرف، فبقيت العنزة في عهدة ياسين إلى أن تغلق السوق أبوابها على ما يبدو. وبعد ذلك أقبل شخص آخر يشبه الأول تماما، مُسْـمَـرّ البشرة، ضامر الجسم والقسمات، وبنفس القبعة الرحبة الحواشي؛ أودع بدوره كبشا لدى ياسينَ شاكرا ثم انصرف. وبعد ذلك أقبلت إحدى القرويات، فسلمته من يدها ليده دجاحة. ربما سيعودون جميعا بعد ذلك ليتناولوا لديه كؤوسا من الشاي المنعنع، وربما لن يفعلوا إذا لم يفلحوا في بيع بضاعتهم.

كان رجل مسنّ، يعلو الشيبُ رأسه، ويرتدي بذلة أوروبية بُـنّـية اللون بالية، جالسا على كرسيه في واجهة المقهى؛ إلا أنه بدوره لم يطلب شيئا. كان على ما يبدو منشغلا بأمر العنزة. دعوت ياسين لنقف معا، إلى جانب ذلك الرجل وتلك الحيوانات، وأشرت بآلة التصوير إلى أحد العابرين الصاعدين الهابطين ليلتقط لنا صورة.

بعد ذلك انصرف الرجل المسنّ ذو البذلة البالية؛ ثم بُعيد حين، أقبل القرويون الثلاثة وأخذ كل واحد منهم وديعته. كان سائق الحافلة المهترئة يلح عليهم بالمنبه ليسرعوا بالركوب، فكان الواحد منهم يفلح بالكد في استعجاله في أن يتفوه بكلمة شكر في اتجاه ياسين.

كانت روائح الكسكس المتوبل قد بلغت خياشيمي، داعية أياي للتوجه نحو المطعم. هناك، ومن من خلال الكوة، أبصرت عيناي امرأة جميلة مسنـّة. قال لي ياسين: "إنها أمّي". كانت تعدّ طعام الغذاء للزبناء؛ لكن، في ما عداني، لم أر في المكان أي زبون. إلا أنني ترددت تحفظا من طلب الأكل هناك مخافة أن يرفض ياسين من جديد أن يتسلم مني مقابلا.

في طريق خروجي من المطعم، وفي قلب إحدى الغرف، صادفت عيناي شيئا بدا لي أول الأمر كلعبة من لعب الأطفال: إنها ماكيطة مجسّمة مصغرة لبناية من خمسة إلى ستة طوابق. وقد تم تنصيبها على إحدى الطاولات. تتألق منها عشرات الأزرار الملونة، وتزينها أجراس وورود. نطقت سائلا: "ما هذا يا ترى؟ أجابني ياسين قائلا: "إنه نزل أبي".

-- "فــلأبيك فندقٌ إذن؟"

=  "لا، أنه النزل الذي يُعدّ أبي لتشييده؛ سيكون أفخم نزل، وسيتحدث الجميع حينئذ عن 'نزل محمد المدلاوي'. سيبقى مُضاء على طول الليل كما ترى. هنا في الطابق الأول، سيُعدّ فضاء للمرطبات ومصلحة للاستقبال، وفي الطابق الثاني مطعم مجهز بمنصة للجوق، ومن الطابق الثالث فصاعدا، غرفُ النوم، وصالةٌ للحلاقة، ومختلف المصالح؛ وهناك سيهيأ نادٍ ليليّ ...".

قاطعت الفتى سائلا في فضول:

-- "لكن لمن سيُعدّ كل هذا بالضبط؟".

=  "للقرويين الذين يقدمون إلى السوق؛ فسيُشيد بالضبط قريبا من المحطة الطرقية؛ بحيث بمجرد أن ينزلوا من الحافلة، ما أن يرفعوا أعينهم حتى يجدوا النزل أمامهم."

 

وقد بين لي ياسين، أنه من أجل بناء ذلك الفندق، كان أبوه قد قرر الهجرة إلى هولندا للعمل بها، وأنه قد قضى بها الآن أربعين سنة كشغـّيل يعمل بأحد معامل النجارة ست عشرة ساعة في اليوم. كان يعود خلال عطلة الصيف بما يكون قد ادّخره خلال العام، فيقتني من مواد البناء، ويستأجر العمال، فينجز جزءا من بناية الفندق؛ وعندما ينفذ ما يكون قد ادخره من مال يعود إلى هولندا.

سألته: -- "وأين هو الآن؟"، فأجابني: = "إنه الرجل الذي رأيته قبل قليل في بهو المقهى بالقرب من العنزة والكبش والدجاجة".

-- "عجبا! كنت أعتقد أنه أحد الغرباء، نظرا لصُمته الدائم.  وهل والدتك موافقة؟"

= "لـّي خلّا لو بوه وجدّو شي عقبة كايطلعها"؛ ذلك ما ردّده ياسين من جديد على لسانه.

***

بعد مرور سنتين، عدت إلى مدينة شفشاون. ولقد أصبحت هذه المرة أحد أفراد العائلة ببيت ياسين؛ ذلك لأني أصبحت أؤدي ما يتعين من المصاريف، فلم يعد هناك إحراج ولا حرج. أخبرني ياسين بأن المجسّم قد اندثر وخفَتَ بريقُ أزراره، وأنه في النهاية قد سقط من تلقاء نفسه من على الطاولة فكنسه بعضهم مع قمامة المطعم. أما مصير مشروع الفندق نفسه، وحالة الأب، فلم أجرؤ على السؤال بشأنهما إشفاقا من أن أسمع بأن الحلم قد تهاوى من أساسه كما اندثر ذلك المجسّم.

مرت سنوات بعد ذلك فعدت من جديد إلى شفشاون. وبمجرد هبوطي من الحافلة بالمحطة الطرقية، رفعت عينيّ فإذا بي أبصر النزل. كان نسخة طبق الأصل لذلك المجسّم الذي كنت شاهدته. لقد تعالى سامقا بين مباني المدينة، متجاوزا حتى صومعة الأذان. تراءى لي فوق السطح ما يشبه والد ياسين: نفس البذلة الحائل لونها. وقد تعرف بدوره عليّ من أعلى، وربما كان ذلك بفضل حقيبتي. لوّح لي باليد، وأشار إليّ بالصعود.

ولما دخلت استقبلني معانقا ومقبّلا. يا له من بهاء! الفندق ما تزال ببعض جوانبه شوافيد الورشة؛ إلا أنه الآن قد قام بتمامه. أخذت أتجول داخله: غرف كبيرة، وأخرى صغيرة، تطل كلها على قمم الجبال وغابات الصنوبر والبلوط. وقفت معانقا الرجل الذي حقق وجسّد حلما، والذي يستطيع الآن أن يعود للاستقرار في بيته، فيجلس هناك في فضاء الاستقبال ليستقبل أناسا من أمثالي بحقائبهم، فيسجلهم، ويسلمهم المفتاح متوهّج المحيّى، ويشعل المصابيح، ويشغـّـل التدفئة، فيعطي لحقائبهم فرصة للاستراحة. أنه رجل أنهى فترة الأسفار والترحال، ليلتقي بالمسافرين في عقر داره، فيصافح الأيادي مُرحّـبا تارة بقوله "أهلا وسهلا"، ومودعا تارة أخرى قائلا "مع السلامة"، متبادلا معهم من حين لآخر بعض الكلمات: "أنتم قادمون من أين؟"؛ "إلى أين أنتم ذاهبون؟" وذلك كيفما كانت المهام التي أنجزوها أو الفرص التي خرجوا من أجل اقتناصها. فيكوّن ويدقق بذلك معلوماتٍ ثمينة حول المسالك، والطرق، والموانئ، والحافلات، ومواقيت الإقلاع، ومواقيت الوصول. عانقته من جديد وقبـّـلته، وكدت أن أتغنى بنجاحه.

 

***

 

هذه السنة، لما عدت من جديد في فصل الصيف، وجد النزل منتصبا في استقامته دون أثر لأي شافود من شوافيد الأشغال. كانت النوافذ مُضاءة، وكانت الأنوار تتلألأ كما كانت تتلألأ أزرار ذلك المجسم المصغر قبل سنوات. دخلت بحقيبتي والسعادة تغمرني إلى فضاء فخم. كله مفروش ومؤثث ومزين؛ إلا أنه فارغ. فلا أحد كان هناك ما عدا ياسين الذي كان واقفا خلف بَسط الاستقبال، والذي تعرّف عليّ فأقبل عليّ معانقا. وقد أخبرني بأنهم كانوا قد فتحوا الفندق منذ عشرة أشهر، لكن لم يدخله أحد إلى حد تلك الساعة. فقد كنت ضيفهم الأول فسرّه أن يسلـّـم إليّ مفتاح الغرفة؛ ولعله قد أخبرني بذلك كإشارة منه إلى قبول الأداء مني هذه المرة. سألته عن والده؛ فأجابني بأنه قد كلفه بإدارة الفندق وعاد إلى هولندا للعمل في معمل النجارة.

--------------------------------

نشر نص هذه الترجمة إلى جانب نصَّي ترجمة قصتين أخريين لنفس المؤلف تجري أحداثهما بمدينة صفرو (האיש שחזר "العائد" ثم האגשה שפרשה את כנפיים "المرأة التي بسطت جناحيها") في الصفحات 153-158 من المرجع الآتي:

 

المدلاوي، محمد (2012) رفعُ الحجاب عن مغمور الثقافة والآداب؛ مع صياغةٍ لعَروضَي الأمازيغية والملحون. منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي. الرباط. (جائزة المغرب للكتاب: 2012)

 

نبدة عن مؤلف القصة المترجمة

هو جبرييل بن سمحون (גבריאל בן סמחון)، كاتب قصصي ومسرحي وأستاذ للسينيما والتليفزيون متخصص في السينيما الإيطالية بجامعة تل أبيب. وهو من مواليد 1938 بمدينة صفرو المغربية التي غادرتها عائلته سنة 1948 والتي ما يزال يحج إليها إلى يومنا هذا متبركا بضريح "سيدي لحسن اليوسي"، وهو عنوان إحدى قصصه القصيرة. هو كاتب غزير الإنتج باللغة العبرية. من أهم أعماله المسرحية مسرحيتا: "1948" و מלך מרוקאי "ملك مغربي". ومن أهم أعماله القصصية המהלכים על המיים "المشاة على الماء" (1997)، הולכת עם כמון חוזרת עם סעתר "يا لغادية بالكامون، يا جّـايّـة بزّعتر" (2002)، و פנטאזיה מרוקאית "فانطازيا مغربية" (2010). شخصيات وفضاءات أعماله القصصية تتوزع ما بين صفرو، وفاس، وشفشاون، وزاكورة وغيرها جهات المغرب، وتتميز من الناحية الفنية بتداخل الواقعية والفانطاسطيقية، راصدة التداخلات الفنية والفكرية والحضارية التي كانت تخترق النسيج السوسيو-ثقافي والإثنو-ثقافي للمجتمع المغربي منذ الإربعينات من القرن العشرين الى يومنا هذا. اخترقت مسألة الهجرة والترحال كثيرا من أعماله، سواء الهجرة ذات الأبعاد المهدوية والأيديو-سياسية كما في قصص "العائد"، أو "المسيح" أو "الختان" أم الهجرة السوسيو-اقتصادية كما في قصة "الفندق". وفي كلتا الحالتين يحضر مشكل الاندماج بقوة على شكل تمزق بين تجاذبات ذاكرة وقيم هوياتية من جهة، ومعطيات المحيط الجديد من جهة ثانية. هذه التوترات هي التي تمثل وقود الحياة التي تحرك شخوص وفضاءات أعمال بن سمحون.

-----------

 

- قصتان أُخرَيان للكاتب، بن سمحون، مترجمتان إلى العربية:

 

1 "صعود تــــودة إلى السماء"

 

https://orbinah.blog4ever.com/en-arabe-traduit-de-l-hebreu-1-l-ascenssion-de-tuda

 

 

 

2 "المرأة التي بسطت جناحيها"

https://orbinah.blog4ever.com/en-arabe-la-femme-qui-deploya-ses-ailes-nouvelle-de-g-ben-simhon



07/05/2015
3 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 345 autres membres