OrBinah

(EN ARABE) 1-C'est quoi, cet arabe marocain dit Darija? 1-lexique

 

من الأسئلة المعرفية المتعلقة بتهيئة الحقل اللغوي في ارتباطه بإصلاح التعليم:

العربية المغربية الدارجة؛ ما هي، وما وظائفها؟

 

  

- المدرسة المغربية تقتل العربية الفصحى من خلال تعطيل العربية المغربية

 

 

المادة: إنشاء

 الموضوع:  "صوّر مكابدة مزارعٍ مُعوز في ضيعته خلال يوم من أيام حمارّة القيظ"

 

نص الانشاء

[كان اليوم يوما من أيّام السمايم. كان الفلاح يحفر الأرض القاسحة في صَهد القايلة وهو يـنهـَج ويعاود. كان يقرّد أحيانا على الارض وهو يكـحـَـب كحبا شديدا. وفجأة التفت فشاف حنشا طويلا بجانبه فـفرط هاربا يكحبُ وينهج ويـدفــل ويتنخم الدم. وفي الأخير، أصابته الحرقة والمرار بسبب خواء مصارينه التي تصفّـر وتـزقي زِقاء، وتغرغـر كما لو كانت تعوم فيها القراقر، حيث لم يتناول منذ الصباح سوى غرّاف من  حساء الكًــرشان. قــيّــل سويعة في ظل شجرة وجبد شقـفة من الخبز البائت مُكَردسة في صرّته وأخذ يشدّقها ويجرمشها بأضراسه المنقوبة، ثم نعس سويعة. بعد ذلك، توقـّـض وناض من نعاسه  بسبب الكـحبـة التي زيّرت ضلوعه من جديد، وتوجه إلى الحاسي اللقريب ليُعـمّـر سطـلـة من الماء ليشرب... الخ.]

 

--------------------------

 

- النص أعلاه نموذج مفبرك من نماذج إنشاءات التلاميذ التي غالبا ما يتّخذ منها المدرّس، بعد الصحيح، نموذجا للازدراء والسخرية من صاحب/ة الإنشاء أمام زملائه/ـا؛ وذلك حثّا  منه للتلاميذ على التخلص من كل ما هو دارج جار على اللسان بدعوى التفصيح (انظر نموذجا تصويريا هــنــا)، تلك النماذج التي يتم اليوم تناقلها وتقاسمها على المواقع الاجتماعية قصد التنكيت والتندّر الساخر حسب القيم التي تشبع بها الجميع في المدرسة المغربية.

لكن، ما على القارئ، مع ذلك، إلا أن يبحث في معجم عاديّ للطلاب (المنجد، مثلا) ليتحقق من أن كل مفردات هذا النص، التي أصبحت تثير الازدراء في الثقافة التنطـّع بالمدرسة المغربية، تنتمي انتماءً إلى ما اصطلح على تسميته بالفصحى تمييزا دوغمائيا له عن كل ما هو دارج على ألسن العموم (بالنسبة لـفعلـَي /كحب/، و/دفل/ يُبحَث في مادتي /قحب/ و/تفل/ على الترتيب من معجم العربية الفصحى).

 

فما الذي يعنيه البعض بـ"الدارجة" وبـ"لفصحى"؟ وما هوّ الرهان الحقيقي في الأمر؟ 

 

بمناسبة ما يتم في هذه الأيام (منتصف ماي 2015) من وضع اللمسات الأخيرة على الخطة الاستراتيجية في باب تدبير الشق اللغوي للمسألة التعليمية، أجد من المناسب التذكير بهذا النصّ المخصص للسؤال المطروح أعلاه والذي نشر في صيغته الأساسية الأولى بالتاريخ المبين أسفل النص الكامل، وذلك بعد تحيينه بمزيد من العناصر الملموسة: 

 

1- خلفية السؤال

 

في شهر سبتمبر 2013 قامت نـشـبت فجأة نوبة نقاش حامي الطيس من النقاشات الموسمية الساخنة بالمغرب، انخرطت في خضمه الصحافة والمنابر والمحافل، من خلال تصريحات المصرّحين المحترفين، وتحليلات المحللين بلا حدود، وأفكار المفكرين في كل شيء وبلا قيود، إلى درجة أن مؤرخا ومفكرا كبيرا قد اضطر إلى "الخروج من مقبعه" على حد تعبيره، ليقول القولَ الفصلَ في الموضوع، ذلك القولُ الذي أصبح على التو خلال ذلك النقاش الموسمي، بحكم الزعامة الفكرية لصاحبه وثقافة الاستشاخة عند الجمهور، قولا فصلا تناولته الأقلام الصغيرة، في المنابر والمواقع الكبيرة، بفيض من الشرح والتفسير والتذييل والتحشيّة؛ ثم انصرف القوم بعد ذلك فجأة إلى سجالات أخرى حسب ما رشحه المواسم كمادة للاستهلاك. كان قد نشب ذلك النقاش حول ما تمّ تشبيهه للناس، في تهويل كبير، كشبح غول أو دجّال يلوح في الأفق (على غرار قومة 2006 التي كانت قد شغلت بال الساسة وأقلام الكتبة لحين من الدهر). لم يكن ذلك سوى زحف مبيّت للدارِجة لتحل محل اللغة العربية الفصحى، مخطـّطٍ له من طرف الفرانكوفونيين، ويُنذر بـ"تدريج" الفكر والثقافة المغربيين وعومَـمَتهما (أي تصييرهِما عامّيين)، وبفصلهما عن عمقهما التاريخي العالِـم (انظر التفاصيل هــنــا). فما هي، يا ترى تلك الدارجة التي تبدو متغوّلة بهذا الشكل؟

 

 

 

2- ما هي العربية المغربية الدارجة (1- المعجم

 

العربية المغربية الدارجة وجهٌ حيٌّ ناطقٌ من أوجه التطور والإفضاء التاريخيين في رقعة بلاد المغرب لأوجه لهجية من عربية مُضَر (أي "العربية الشمالية"، التي تقابل "العربية الجنوبية" المعروفة لهجاتها بـ"لغة حِمير" وهي اليوم: المهرية، والشحرية والهرسوسية والسوقطرية)،(1) تلك الأوجه التي تَـشكَّـل انطلاقا منها سِجـِـلُّ "العربية الفصحى" الذي لعبَ دورا هاما في التاريخ مع ظهور الإسلام، وما يزال يفعل. فمادّة المعجم الاساسي للعربية الدارجة المغربية هي نفس مادة المعجم الاساسي للعربية الفصحى؛ كما أن نظاميها، الصرفي والتركيبي، هما نفس نظامي العربية الفصحى، في ما عدا بعض الجزئيات المترتبة عن إسقاط الحركات (حركات الصيغ الصرفية وعلامات الإعراب) في نطق العربية الدارجة المغربية نطقا حياّ يوميا.

 

 

 

3- معجم العربية المغربية الدارجة.

 

المعجم الأساسي للعربية المغربية الدارجة هو نفس معجم العربية الفصحى (من قبيل: "أرض"، "سماء"، "جبل"، "بحر"،  "رجل"، "امرأة"، "فعَلَ"، "عمِلَ"، "أكل"،  "شرب"،  "قرأ"، "كتب"،  "فكـّر"، "فهم"، "غنّى"، "فرح"، "صلّى" و"عبَد"، الخ.).

 

بل إن معجم العربية المغربية يحتفظ بعدد هائل من مفردات العربية الفصحى، التي لم تعد في حيز الاستعمال في أوساط نخبة مستعملي الفصحى، أو التي لم يعد هؤلاء يتبيّـنونها باعتبارها كذلك؛ وفي كثير من الأحيان، لا يتوفرون لها على مقابل مرادف في ما يعتبرونه "فصحى" (إذا ما كان هناك مقابل آخر مرادف) بسبب تواضع معرفتهم بالعربية إجمالا، أو بسبب كون  مفردةِ العربية المغربية مفردة تدل على حقيقة طبيعية أو براغماتية لم يغطـّها معجم الفصحى أصلا (/الكـُـبالة/، /الكبوسة/، /الماطة/، /الكـتّـة/، /الكًـلتة/،  /الخطـّارة/، /القفطان/، /البلغة/، الخ.)، وذلك بعد اطـّراحهم لألفاظ تلك المفردات لمجرد اعتبراهم اعتبارهم إياها عاميّة دراجة على ألسن العامة تنزع عن خطابهم طابعه وغايته النخبويين (انظر الفقرة-7). وفي حالة ما إذا لم يكن هناك مرادف غريب أو دفين في بطون المعاجم القديمية، أو كانت المفردة تعبر عن حقيقة لم تغطها المعاجم القديمة، فإن النخبة، ومن خلال المدرسة المغربية، تُفضل ترسيخ حالة الإرتاج الكلامي والحَبْسة المعجمية الجمعية (dyslexie collective)، كخاصة سوسيو-لغوية معمّمة، على السماح باستعمال ما هو رائج دارج على لسان العموم. وهذا بالضبط مصدر ما يعبر عنه البعض بعجز الفصحى عن مواكبة الحياة.

 

 

من بين أمثلة ذلك المهجور من العربية المغربية الموجودة مع ذلك في المعاجم القديمةن مثلا: /المشاكًة/ "المُشاقة"، /الكًـُـرشان/ "الجُراشَة، الجُرشان"، /دفـ'ـل/ "تَفَـل = بَصَق"، /الفّـُـاكًـ/ (= الهكًـُــيّة) "الفُواق"، /قــيّـل/ "أقال مِنَ الحرّ"، /هرّس/، /المهراس/ أو /المهراز/ "الهاوُن" (وهذه الكلمة الأخيرة فارسية)، /الدفة/ "دفّة الباب"، /العروة/ "العُرْوة من كل شيء"، /الكـفل/ "كَـفَـل الدابّة"، /الكًانصة/ "قانِصة الطير = معدته"، /خنـ'ـز/ أو /خناز/ فا هوّا  /خانز/ "خَـنِـزَ، أي أنتن؛ فهو خَـنِـزٌ". ومفردات هذا الباب تعد بالمئات ويمكن أن يقف عليها في معاجم الفصحى كل من له دراية بالعربية المغربية:

 

- الكُدية، السـ'ـهب، البطحة،  الرضاف، الصـ'ـهد، المـز'ن، الكًلتة، الولجة، الحاسي، الفكًـارة - "الفُجْرة"، مصرف الما، مجبد الناعورة، مجارح البير، وكح الحاسي، البحيرة،

 

- الشندكًورة، الحدجة، الطارفة، السمار، الكًتة، الماطة، النفلة، الكًـنّة/الكًناني،

 

- نقّي، صيّر، نسـ'ـف، عجـ'ـن دلـ'ـك بالمدلك، كرّص، شرمل، كًرمل، نصـ'ـب الكًـدرة/الطاجين على المناصب ("نصب القدر/الطاجن على المناصب/الأثافي")، قلى جمّر، الرفيسة، الدشيشة، المندق ("المذق، شراب") الشنين ("الشنين، شراب")

 

- الزريبة، المركًد، المدو'د، الدوابر، الرسن، الدير ديال الحلاس، المدو'د، الرسن،

 

فـ'ـرز الحيط ("إفريز الجدا"ر)، البلوعة، النقّير،

 

- الغطار ("غضارة")، الماعون، ماعون العاريّة، الصينية، الكًصعة، العولة، العوين، المزو'د، المجمر، المقبط، المزركً، المدلك، المكبّ، المدكّ، حاجة' العارية،

 

- نغز باالمنغاز، ساس بالمحتات، جبد بالمخطاف، حكًن ("حَقَن") بالمحكًـن، فرم الهبرة بالخدمي ("فرمَ الهَبرةَ بالمِخذم")، قدد القّديد بالمقدّة ("قدَّ القديدَ بالمِقدّ)

 

- الهبرة، الجفطة، الشفاق "الصِفاق"، الكًصّ (عظمة القص")، التراكًي ("التراقي، جمع ترقوّة")، الحنكًورة ("حنجرة")

 

- ود'ك الجمال، زهم النعام، كًهــم/تّكًهـم/مكًهوم ("قَهِمَ")، خناز/خانز/خـ'ـنز، الفُـاكًـ ("الفُواق")، ، طلع عليه المرار، صابته الحرقة،

 

- مراة حبلى فيها الوحم، مراة نفيسة، القابلة، توابع المراة الوالدة، سلا البهيمة الوالدة، رضع الطفل الغيال، العكًـر/العاكًرة

 

- البهكًـ "بهَقٌ"، كلف الوجـ'ـه ("كَـلـَفُ الوجه"، هبل/هبال "هبِل، حمق"، ، مشكًـّ الجليد، الدمامل، العمـش،

 

-  كًركًأ'ـت/قرقـ'ـت  الدجاجة/، الكنبس ديال الكرشة، المرّارةالكًانصة، الكراع/الكرعان، البزولة، الضرع،

 

- لوّد "طاف باحثا"، حوّ'ص (حاصَ/يَحوصُ = حام)، حوّم ("حَوّمَ)،  فـشّ الشكوة، فطـّح/فرطح ("فَطحَ/فَرطحَ")، فر'ط ("جرى بسرعة")، عيّـ'ـط ("عَيَّط، صاح")، برّح/بريح/براّح  ("البَرَاح = الإبانة والإظهار جهارا")، ملـّس بالملّاسة، تّـغاشت عيونهوم (غشيت أبصلرهم)، همد'ت النار، نهـ'ـج/نهجة ("نهج = لهث)، عكًـ'ـل الجمل ("عقلَ الجملَ")، بر'ك ("أقام؛ برك البعير: استناخ")، ونّس/وناسة، وكًـّـض/توكًـيضة ("أيقظ")،  تّـغوبش، فجّـ'ـج/مفجّــج، مفاكًم الفكّ ("أفقَمُ الفكّ")، - كفـ'ـح، كُحـ'ـب ("قحبَ أي سعل")، تّكردس/كرداس، تكرفس.

 

- فلكة' المغزل، الطعمة، السدا، الكّبة، كبّـب الغزيل، المرمّة، المجدول،  التشمير/التشامير البدعيّة، البنيقة، الحمالة، النبالة، المطبوع، الخرصة؛ تفال الرحى ("ثِفالُ الرحى")، شضاض الرحى ، قفـّال الكسكاس،

 

- الميــر ("مختلف الحبوب")، العولة، الفاكية، النوى، دشّ/دشيشة، لــكُّـ، بسّــس/بسيس، رفـ'ـس/رفيسة، عفـ'ـس، عفـ'ـط، شقّــّف، شقـ'ـم، شــدّ'كًـ/شدّ'ق، شمشــقوه ("تماشقوه")،

 

- دروة' الجمل، كفـ'ـل البغلة،

 

صهب، شهب، دهـ'ـم، بوبريص "أبو بُريص"

 

قليل المروّة ("المُروءة")، لايم/لامة (الله يتاوي اللامة) (اللامة "حفل تهنئة").

  

 

وأدُ نصيبِ العربية المغربية من أصيل المعجم العربي العامّ

 

غالب نصيب معجم الدارجة المغربية من المعجم العربي العامّ المسمّى بـ"الفصيح" قد تمّ وأده اليوم وتعطيله في هذا الجيل من طرف النخبة من خلال المادة المعجمية التي يتمّ تضمينها في الكتاب المدرسي، ولكن كذلك من خلال القيم البيداغوجية السوسيو-لغوية التي يتم ترسيخها عبر المدرسة والتي تستهجن استعمال ذلك الرصيد من طرف التلاميذ في التواصل والإنشاء (انظر نموذجا تصويريا هــنــا). وذلك ليس من باب كون بعض ذلك الرصيد من باب الغريب المعجمي النادر في معاجم الفصحى؛ إذ هذا النوع الأخير أي الغريب، يشكل بالعكس من ذلك معينا تغرف منه تلك النخبة على الدوام لاستبدال كل لفظ أصبح دارجا على الألسن بلفظ يُنفض عنه غبارُ بطون المعاجم ("تليد" أو "قُحّ" أو "كُحّ" مثلا بدل "أصيل")، وذلك حفاظا من تلك النخبة على سلطة السوسيو-لغوية؛ أي أن ذلك الوأد إنما مرده في النهاية إلى السعي إلى الحط من شأن كل ما هو دارج على ألسن العموم. ذلك أن هذه النخبة تحرص على جعل اللغة أداة للسلطة (انظر الفقرة-7) فكلما درجت مفردة على ألسن العموم، تبادر هذه النخبة إلى النبش عن غريب أو إلى ابتداع خطإ وترويجه ("التنويه" بدل "التنبيه" مؤخرا؛ وقبله "عـِــلاقة" و"عـُــلاقة"، و"نِـقاط" و"نُـقُـط" و"بُـنية" بدل "عَلاقة"، و"نُـقَـط"، "بِــنية" على الترتيب).

  

 

4- المميزات التلفظية لمعجم العربية المغربية

 

ولا يتميّز تلفيظ مواد هذا المعجم الأساسي، في جهه الدارج على اللسان (اي "الدارجة") إلا بإسقاط التنوين، وتسكين الحروف، أي إسقاط الحركات القصيرة (ــَــِــُـ) أو خطفها خطفا في النطق الحيّ، وبتحويل كلّ من المدّ وأصوات العلـّة (ــا، ــيـ، ــو-)، في مقابل ذلك، إلى جيل جديد من الحركات القصيرة (مثلا: كـَـتـَـبَ /كْــتـ'ـبْ؛ قَـوْسٌ/قوسْ؛ بَـيْـتٌ/بيتْ؛ جَـدْئٌ/جْدي؛ جِـرْوٌ/جرو؛ الخ.). وهذه التناظرات التقابلية بين وجهَي العربية (أي الفصحى والدارجة) تناظراتٌ مطـّردة. وقد تمت صياغة قواعدها التقابلية، المحصورة عدداً، صياغةً صوريةً منذ زمان في دراسات علمية أكاديمية حديثة، (2) بالرغم من أن تشخيصاتها الأولى تعود  إلى أعمال أمثال جان كانتينو على الأقل.(3) أضف إلى ذلك كون العربية المغربية تحتفظ في كثير من المفردات بالنطق القديم للقاف بصفته صوتا مجهورا (أي G اللهوية) كما وصفه ابن جني في كتاب "سر صناعة الإعراب" حيث خلـّـف لنا أدقّ وصف فونيتيكي لأصوات الفصحى كما كان يتم النطقُ بما كُتب بها في محيطه وعصره؛ وكذا كونها، أي العربية المغربية، ما تزال محتفظة بالنطق القديم لحرف الجيم (أي g الحجابية كما وصفها ابن جني نفسه) في المفردات التي تشتمل على أحرف الصفير (السين، الزاي، الصاد، الشين) كما تمّ بيان ذلك في دراسات أكاديمية حديثة.(3')

 

 

أما رصيد ما زاده وراكمه معجمُ العربية الدارجة في مسار اغتنائه - باعتباره معجمَ لغة تواصل حيّ في البيت وفي فضاءات العمل وأسواق التبادل - مما ليست له أصول في العربية الفصحى (وإن كانت لكثير منه أصولٌ سامية، آرامية، عبرية، الخ.)، فهو مقصورٌ على ما لا تتوفر لمُسمياته (المحسوسة أو المفاهيمية) مفرداتٌ مقابلةٌ في معجم الفصحى، الذي تمّ جمعه عبر قرون انطلاقا من أوجه معيّنة لواقع سوسيو-لغوي وسوسيو-مجالي تاريخي معين. وهوَ رصيد مهمّ كذلك بحكم ضرورة تأقلم أي معجم للتواصل الحيّ مع كلّ معطيات واقع التطور التاريخي والتبدّل المجالي لأحوال الواقع السوسيو-اقتصادي والأثروبو-ثقافي والمعرفي العامّ. ذلك الرصيد الإضافي، طوّرتْه العربية المغربية الدارجة، اشتقاقا أو اقتراضا (باللفظ أو بالمعنى)، بعد إخضاع مفرداته لنظاميها، الصوتي والصرفي كما تفعل جميع اللغات الحيّة المنخرطة في دوامة الممارسة. أما الاقتراض (emprunt)، لفظيا كان أم بترجمة المعنى، فإن مصادره بالنسبة للعربية المغربية الدارجة هي لغات الثقافات المحيطية المنتجة للأغراض وللمفاهيم المعنيّة الداعيةِ الحاجةُ إليها على أرض الواقع. وأهم تلك اللغات المقترَضِ منها هي اللغةُ الأمازيغية التي شكلت الأرضية والخلفية اللسانية التاريخية (substrat) لاستقبال المعجم العربي باعتبار هذا الأخير طبقة لغوية تاريخية لاحقة (adstrat)، وكذا لغات الضفة الشمالية لحوض البحر المتوسط، الذي هو المجال الحيوي التاريخي لبلاد المغرب. من ذلك مثلا، بعضُ المصطلحات التقنية (technolectes) للقواميس المهيكلة لغويا للقطاعات الحيوية التقليدية للاقتصاد غير الرعوي على الخصوص (الفلاحة والصناعات التقليدية). ففي قطاع الرعي والفلاحة، نجد مثلا مفردات (مشتقة أو مقترضة) من قبيل /النوبة/، /الدولة/، /الخُطّارة/، /الريراو/، /المجبـ'ـد/، الكًـمّون/، /الطاسة/، /القُـردية/، /المصرف/، /الربطة/، /الصرب/، /الماطة/، /الكَـتة/، /الكُبالة/، /يلاّن/، /سرغينة/، /القدمير/، الخ.). كما نجد كثيرا من مفردات المستحدثات الصناعية والتقنية والتبادلية الحديثة، التي يتم تبادلها عبر أسلوب الاقتراض والترجمة بين جميع اللغات الحية (/الطبصيل/، /تاكًـرا/، /ازلو/، /التكًشيطة/، /البالــة/، /الراطو/، /الرابوص/، /البابّور/، /الصينيّة/، /اللانبة/، /البّانس/، /الفرزة/، /الجانطة/، /البيّة/،/ الرونضيلة/، /البيس/، /التورنبيس/، /الموناضة/، /البيتزة/، الخ. انظر نموذجا حيا هــنــا). ويضاف إلى ذلك نصيب مهمّ من المصطلحات المقترضة بلفظها من اللغة الأمازيغية عبر فترات التعرّب التدريجي التامّ أو الازدواجي لأجيال من المغاربة (مثلا: /الدولة/ (من /تاوالا/) "قطيع رعْي بقَـرِ الجماعة بالتناوب"؛ /سيفط/ (يسّيفض) "بَعَث"؛ /بْـرا/ (تابرات) "رسالة"؛ /جرتيلة/ (اكًرتيل، اجرتيل)؛ /مسّاطة/ (تيمزيضت)، /مسلان/ (يمسلان)؛ /تويزة/ (تيويزي) "حملة تعاون جماعي"؛ /مْزوار/ (امزوار) "نقيب/مُـقدَّم"؛ /تامّارا/ (تامّارا) "عناءٌ/كــبَـدٌ"، الخ.). وهناك نصيب من هذا الوجه الأخير لتأثير المعجم الأمازيغي مما تَشكَّل عبر ترجمة بالمعنى لبعض المصطلحاتالأمازيغية الدالة على بعض المفاهيم السوسيولوجية و/أو السوسيو-سياسية الخاصة بتاريخ المجتمع المغربي (مثلا: /تاوالا/ => "النوبة" (في الرعي أو السقي)؛ /تيغمرت/ => "زاوْية" (كمؤسسة اجتماعية)، /اكًـادير/ => مْخزْن (كمؤسسة اجتماعية)؛ امزوار => "مْـقـدّْم" (كوظيفة اجتماعية))؛ الخ.(4)

 

بل إنه كانت المفردات الأمازيغية ترد كما هي دون تطبيع صرفي حتى في الأعمال الأدبية للنصوص الزجلية الأولى. فقد أحصينا ثلاثة عشر مفردة من ذلك القبيل في "ملعبة الكفيف الزرهوني" (عاش في العصر المريني) كما حققها الأستاذ بنشريفة،(5)، كما توضح ذلك من الأمثلة الآتية، حيث سنتبع أسفله كل كلمة أمازيغية برقم البيت الذي وردت فيه في تحقيق الأستاذ بنشريفة، ثم بترجمتها بين قوسين:

 

"ايت مرّين": 103، 278 (بدل "بني مرّين")؛  "اغيلاس": 117 ("panthère")؛ "يــيـْـسان": 116 ("الخيل")؛  "يسردان": 142 ("بغال")؛ "تيسدنان": 221 ("نساء")؛ "ينزران" (بالتفخيم): 236 ("أمطار")؛ "تاسا": 288 ("كبد")؛ "ازاغار": 182 ("سهل")؛ "ازرزي" (بالتفخيم): 345 ("إكراه")؛ "امزوار": 433 ("زعيم، قائد، نقيب")؛ الخ؟

  

 

5- دوام العلاقة العضوية بمعجم الفصحى مع استمرار الاقترض من غيرها

 

وقد ظل معجم العربية الدارجة، من جهة أخرى، يغرف على الدوام، عبر قرون، وإلى اليوم، من معجم الفصحى، ويضمن من خلال ذلك الغرف ترويجا حيّا في نفس الوقت لغميس ذلك المعجم، خصوصا عبر أجيال وأجيال من قصائد شعر الزجل والملحون الذي يشكل - إلى جانب الشعر الأمازيغي القديم - ديوان العبقرية الشعرية المغربية بلا منازع، وذلك عن طريق إجراء وتدريج على الألسن لكثير من "الغميس" "الغريب" أو "المهجور" من ذلك المعجم الفصيح، وذلك بتوظيفه كمرادفات شاعرية (/ريم/ إلى جانب /غُزال/؛ /مْدام/ إلى جانب /شْراب/؛ /رْسام/ إلى جانب /مْكان/؛ /نْجال/، أو /نْيام/ إلى جانب /عْيون؛ /بْسْتان/ إلى جانب /جْنان/، /البْدْر السامي/ إلى جانب /الكًمرة العالية/ أو /القامار العالي/، الخ.). كما استمر معجم الدارجة يغرف كذلك من موادّ معجم اللغة العربية الحديثة عبرَ المدرسة ووسائل الإعلام الناطقة، مدرّجا إياها بدورها على الألسن في الحياة اليومية (/السيّارة/ بدل /الطوموبيلة/؛ /القيطار/ بدل /التران/، /الماحطـّة/ بدل /لاكًار/، /الصاحيفة/ أو /الجاريدة/ بدل /الجورنان/؛ /الباريد/ بدل /البوسطة/؛ الخ.). [العربية الدارجة لم يعد فيها مدّ؛ ولذلك تُستعمل في كتابتها الألفُ والواوُ والياء للدلالة على الجيل الجديد من الحركات الفصار (ــــَـــِـــُـ) التي طورتها هذه اللغة].

 

كل هذا جعل من معجم العربية الدارجة أوسعَ المعاجم المتداولة لدى المغربة إحاطة بالواقع، وأكثرها اشتراكا بين المغاربة، وأكثرها حيويّة وتجذّرا في استعمالات الحياة العامة بمختلف قطاعاتها ومستوياتها (البيت، الفضاء المدرسي والجامعي، المرافق العمومية والمحافل). فهو يغرف باستمرار من ذلك المعجم ويحتوي مادته والعكس لم يعد صحيحا منذ أن توقف منهج معجميي العربية ترفعا عن الأخذ باللهجات الحيّة لإغناء معجم الفصحى؛ وعلى الأخصّ لمّا جرت عادة مناهج الكتَبَة والمدرّسين على تلقين قيم تربوية تزدري حتّى كثيرا مما تتضمنه معاجم الفصحى نفسها مما هو متداول دارج على الألسن (راجع الفقرة-1 أعلاه) فتُعـطـّـلـه تعطيلا بدعوى عدم فصاحته. وبذلك يكون أولئك قد قتلوا الفصحى خنقاً من خلال وأد العربية الدارجة على الألسن وأداً وهي حيّة. وبخنق تلك ووأد هذه، تمّ تعطيلُ استواء  الملكة اللغوية العامة الطبيعية لدى أجيال متتالية لم تعد تستطيع امتلاك ناصية أي لغة (حول التفعيل البيداغوجي والسيكو-للساني لاستواء الإرساءات الأولى لهذه الملـَـكة، انظر هــنــا).

 

 

  

6- الوحدة السوسيو-لغوية للعربية المغربية

 

وكما هو الأمر اليوم في بداياته منذ عَقدٍ بالنسبة للأمازيغية وأوجهها (الريف، فيكًـيكً، الأطلس، سوس) وكذلك بالنسبة للحسانية في علاقتها بالدارجة الشمالية، فإنه خلال الستين سنة الأخيرة (منذ الخمسينات من القرن 20)، وبفضل الحركية البشرية بين البادية والحاضرة وعبر الجهات (من هجرةٍ اجتماعية، وانتشارٍ عن طريق الوظيفة العمومية، وتوسّعِ لسوق التبادل التجاري بوتيرة مطردة وسريعة متسارعة)، وكذلك بفضل وسائل الإعلام الناطقة والمرئية الحديثة، تمّ قيامُ معجم معياري موحد للعربية المغربية الدارجة، يسمو على الخصوصيات المحلية والجهوية القديمة، سواء في عينية موادّه، أم في التلوينات الصوتية للتلفظ بها إخراجا أو نبرا (articulation et accent)؛ وهو ما يجعل ذلك المعجم الذي تمعيَر تلقائيا بمقتضى مجرد آلية سوسيو-لغوية، وليس بمقتضى تدابير مؤسسيّة، معجما يمتلكه اليوم جميع المغاربية من الذين حصلت لهم ملكة العربية الدارجة، سواء كلغة أمّ، أم عن طريق اكتسابها اجتماعيا كلغة ثانية. فالخصوصيات المحلية أو الجهوية القديمة، بدوية وحضرية (وجدة، مراكش، تارودانت، العيون، فاس، مكناس، طنجة، الداخلة، شفشاون، تيطوان، الجديدة، سطات، الخ.)، التي كانت قائمة على مستوى عينيّة بعض المواد المعجمية والتي وما يزال بعضها قائما بشكل هامشي معزول (الخيزّو/الزرودية /الجعدة؛ دابا/دروك/تابطريق؛ الخ.)، لم يعد لها اليوم من أهمية على مستوى التواصل؛ إذ لم تعد تعني إلا الأكاديمي المعنيّ بمعطيات علم اللهجاتية العربية (dialectologie arabe)، على غرار أثار التاريخ التي لا تعني إلا المؤرخ. فإذا كان هناك اليوم من لا يعرف معنى /الزرودية/ (وجدة)، أو /الجعدة/ (طنجة)، فإن الجميع، كبارا وصغارا، يعرف معنى /الخيزو/ "الجَزَر". وإذا كان هناك من لا يفهم معنى /تابطريق/ أو /دروك/ أو /دروكا/، فإن الجميع يعرف اليوم معنى /دابا/ (وقُـل نفس الشيء بالنسبة لأمثال /كًـلـ'ـس/ في مقابل / بر'ك / قرّد / ريّـ'ـح/ جمّـ'ـع). ونفسُ الشيء يُقال في التلوينات الصوتية القديمة للنطق والتلفظ، كأوجه نطق القاف مثلا ([ق] أو [كًـ] أو [ء])، أو الراء (تكرارية، كما في الإسبانية، أو معتلة كما في الإنجليزية). بل إن السلوك السوسيو-لساني الحالي العام للناطقين بالعربية المغربية الدارجة، يتجه نحو نوع من "التقويم اللغوي الذاتي" (autocorrection كما يحصل عند انبثاق كل وعي بكيان الدولة وطنية) يعملُ على محو السمات المحلية والجهوية (مفردات خاصة، نطق ونبر خاص) من اللسان، تلك السمات التي يشعر صاحبها بأنها تسجنه رمزيا في قوقعته الإثنو-جهوية (جبلي، دكُّالي، فاسي، سوسي، صحراوي، وجدي، فيلالي، مراكشي)، وتعمل تلك "الرقابة" السيكولغوية والسوسيو-لغوية، بالمقابل، على تبنى الناطقين للوجه الوطني العام للعربية المغربية الدارجة. وما يناظر ذلك جارٍ اليوم في ما بين أوجه الأمازيغية (التخلي عن كشكشة الكاف الأطلس الكبير الغربي، وعن زأزأة الدال وسأسأة التاء في منطقة أنزي بسوس، وعن رأرأة اللام وكذا عن غُنأّة المقطع الأخير للكلمة الريفية، وعن جأجأة اللام في بعض مناطق الأطلس المتوسط، وعن يأيأة الكًاف المجهورة في أماكن عدة، الخ.).

 

وفي هذا الاتجاه دائما في ما يتعلق بالعربية الدارجة، وبفضل مفعول بعض البرامج الإعلامية الناطقة، منذ ستينات القرن-20 (مسرحيات أحمد الطيب العلج والطيب الصديقي، الصحافة الرياضية، البرامج الصباحية للإرشاد الفلاحي، الخ.)، ازداد معجم العربية الدارجة اغتناء من جديد، في باب مفاهيم الحياة العصرية، ملتقيا في نفس الوقت مرة أخرى مع معجم اللغة العربية الحديثة ومطوّعا إياه بتدريجه على الألسن في خفّة متخلصة من تعقيداتِ الإعراب الكلاسيكي (مثلا: اسم وخبر "إن وأخواتها" و"كان وأخواتها"؛ الكسرة النائبة عن الفتحة في جمع المؤنث السالم؛ الفتحة النائبة عن الكسرة في الممنوع من الصرف، الخ.). وبذلك ظهرت عربية مبسطة وسطى راقية (soutenue) مُشتركة بين النخبة وغير النخبة، تسكّن أواخر الكلمات. هذه العربية الوسطى الدارجة على الألسن، حيث تلتقي الدارجة العتيقة والفصحى العتيقة، تُستعمل في المنابر والمحافل العمومية، والنقاشات العامة، وفي مجالس الوعظ بالمساجد وغير المساجد، وحتى في المدارس والمدرجات الجامعية ولو بشكل "تهريبي" غير مؤسسي. هذه العربية الوسطى الدارجة على الألسن، التي تتوفر من بين يديها ومن خلفها على ينبوعين للاغتناء، أحدهما تاريخي، والآخر حيّ معيش (أي ينبوع الدارجة العتيقة، الغنيّ بقواميسه القطاعية الحيّة في المجتمع كما هو وكما يتطور، وينبوع معجم الفصحى، الغنيّ في باب المفاهيم التجريدية)، تمثـّـل، بفضل ينبوعها الأول، فرصة تاريخية بالنسبة للفصحى نفسها كي تنخرط هذه الأخيرة في حركية التاريخ. فحركة النهضة المعجمية الاولى التي قام بها اليسوعيون في لبنان مثلا قبل قرن، والتي أخرجت الفصحى، إلى حدّ ما ولو إلى حين، من تحجّر وتكلـّـس "عصر الانحطاط"، إنما تمثلت في احتضان معاجمهم لمختلف مفردات القواميس القطاعية الحيّة (technolectes)  للهجات الشام حيث تتداخل العربية والآرامية والعبرية والتركية (أي، ما يشار إليه في معاجمهم بلفظ 'عامية' بين قوسين).

 

الخصائص البنيوية، الصوتية والصرفية والمعجمية والتركيبية، لهذا السِجِلّ اللغوي (registre linguistique) المتطوّر والدارج في نفس الوقت على الألسن باعتباره سِجِلاّ لغويا مشتركا فيه (أي تلك العربية الوسطة الراقية الدارجة على الألسن)، خصائصُ قد تمّ اليومَ تحديدها وصفياً بشكل منهجي ملموس على المستوى المعرفي الأكاديمي،(6) ولم يُحتج في ذلك لا إلى جيلين ولا إلى ألفِ شهر. ولا ينقص سوى الاعتراف المؤسسي المنهجي بالوظائف التواصلية،المرحلية أو الدائمة، التي يضطلع بها ذلك السِجلّ اللغوي فعليّا على المستوى العملي في كثير من المرافق، وأهمها على الإطلاق مرافق قطاع التربية والتعليم في بعض مراحله وأوجهه.

 

وأخيرا، فإذ اللغة العربية، بكل أوجهها وسجلاتها، الكلاسيكية منها والحديثة، ليست ملكية خاصة لأحد، ولا هي تحت وصاية أي طرف على سبيل الحصر، فإن المغرب اليومَ قد راكم من المعرفة العلمية اللسانية، ومن تجارب التخطيط والتدبير اللغوي، ما يؤهله للقيام بشكل مؤسّسي، ليس بنهضة ثانية لا تتعدى طبيعتها استفاقة من تقـلـّب في نومه ليغُطّ فيه من جديد، ولكن بثورة سوسيو-لغوية وسوسيو-تربوية تاريخية في هذا الباب، تتعدى المعجم إلى بقيّة مكونات اللغة في نطقها وكتابتها (طبقا لما رُسّم في المادة 112 من الميثاق الوطني للتربية والتعليم كـ"برنامج طموح يعانق الأبعاد الثقافية والعلمية الحديثة")؛ كل ذلك طبعا، في توازٍ وتكامل مع استمرار تكوين أكاديميين أكفاء في باب الكلاسيكيات  (études classique)، حسب حاجيات القطاعات المعرفية المعنية (آداب قديمة، علوم الدين، الخ.) للتخصص في تليد وغريب وحوشي معجم العربية الفصحى، كما يتم ذلك التخصص (وليس التعميم) في كل الأمم التي لها تراثٌ كلاسيكي (دينيا كان، أم ميثولوجيا، أم محضَ جماليّ). فلا معنى إذن لكلام من يلوّح من باب التهويل بالقطع مع العمق الثقافي التاريخي للعربية، ما عدا إذا كان المقصود عنده بالوصل يتمثل في تجنيد الناشئة قاطبة منذ الطفولة في كل جيل لحفظ المعلقات والخمريات والمقامات ومجموع المتون. لكن كلّ ذلك الذي أوصى به الميثاق لا يمكن أن يتمّ إلا بشرط خلاص العربية في مجملها من ولاية وحِجر طبقة النسّابين، الذين ينصّبون أنفسهم للتقرير في ما ينتسب وما لا ينتسب إلى تلك اللغة من مفردات.

 

إن الأمر يتعلق في نهاية المطاف بمعركة فكرية طويلة النفس لتغيير الذهنية التقليدية التي تميز في المعجم ما بين 'المفردات النبيلة' و'المفردات العامية' على غرار ما تميز في المجتمع بين الفرد النبيل والفرد العامّي. إنها المعركة الفكرية التي استمرت في أوروبا مثلا طيلة عصور الأنوار بعد أن خلـّصت حركة الأصلاح الديني الفرد من وساطة نخبة الكنسية بينه وبين السماء، وذلك بفتح الباب بشكل مؤسسي أمام السجلات اللغوية الوطنية الناشئة حينئذ بأن يُعبد بها الله بدورها بالشكل الذي يتحدثها به العموم (مارتين لوثر)؛ تلك المعركة التي امتدت إلى ميدان الإبداع الأدبي في بلد كفرنسا إلى القرن التاسع عشر حين صاح مؤلف "البؤساء"، فيكتور هوجو (الذي تسمى الفرنسية اليوم باسمه) من خلال قصيدته "ردّ على صك اتّهام" بأن "لا وجود بعد اليوم لمفردات نبيلة وأخرى سوقية (انظر هــنــا بالعربية، وهــنــا بالفرنسية) :

 

Je fis souffler un vent révolutionnaire.

 

Je mis un bonnet rouge au vieux dictionnaire.

 

Plus de mot sénateur ! plus de mot roturier !

 

 

وعلى ذكر تقاليد الوصاية والحجر من طرف بعض الطبقات التي تستمدّ نوعا من السلطة من استخدام بعض الآليات السوسيو-لغوية، فإن ذلك ليس مقصورا في التاريخ على اللغة العربية (انظر نموذج التجربة التاريخية للفرنسية هــنــا، بالفرنسية وهــنــا بالعربية). فمن اطلع على سيرة إليعازار بن يهودا، باعث اللغة العبرية الحديثة (والذي كان في بداية مشواره المهني عبارة عن صحفي يهمه التواصل)، سيقف على ما عانى منه من مضايقات طول حياته تصل إلى حد الهجوم على بيته ورميها بالحجارة ومحاولة قتله من طرف المدافيعن عن الطابع التوقيفي المقدس لتلك اللغة ولحرف وإملائية كتابتها. غير أن النتيجة اليوم هي أن ظهور العبرية الحديثة، المتداخلة بنيويا دائما مع العبرية التوراتية، لم يؤدّ إلى زوال هذه الأخيرة، بل ساعد على نشرها. أما العبرية الحديثة، فقد استمدّت حيويتها التواصلية وتجذّرها في المجتمع (البيت والمدرسة والشارع والعمل والأدب الحيّ والصحافة [التكوين والبحث العلمي المتقدم ما يزالان حكرا على الإنجليزية]) من انفتاحها على استعمال الناطقين بما في ذلك من مقترَضات جد حديثة من مختلف اللغات. ففي قطاعين راهنيين كقطاع الإعلاميات وقطاع الإعلام مثلا، نجد اليوم في القطاع الأول على سبيل المثال، كلمات جديدة من قبيل: לינק [ليـنق] (من الإنجليزية link)، أو דוקימנט [دوقيمانط].(من الإنجليزية document)؛ فيقال مثلا: לינק האתר [ليــنق هائـتار] "رابطُ الموقِع" أو يقال דוקימנט מצורף [دوقيمانط مصوراف] "وثيقة مُرفَقة". أما القطاع الثاني (قاموس الإعلام الراهن)، فإن لغة الصحافة والتحليلات السياسية لا تتردد في اقتراض ألفاظ المفاهيم المستجدة بدون أي عقدة أو وصاية (مع أن هناك أكاديمية للغة العبرية بدأت نواتها سنة 1889 استكملت وضعيتها المؤسسية القانونية سنة 1953، ويرأسها منذ سنين البروفيسور موشي بار-أشير משה בר-אשר المغربي الأصل، الذي ولد وقضى طفولته في "قصر السوق"). من ذلك مثلا:  [هائنتفاضة] "الانتفاضة"؛ [هائسلام هاسوني] "الإسلام السنّي"؛ [هائسلام هاراديقلي] "الإسلام الأصولي" (/هاراديقلي/ من radical)؛ הארהב [هائرهاب] أو הטרור [هاطيرور] (من الإنجليزية terror) "الإرهاب". (وقد ورد مؤخرا استعمال كلمة /هاطيرور/ في مانشيط رئيسي لصحيفة מבשר تعليقا على مسيرة 11 يناير 2015 الأممية بباريس يقول: נשיא ארה"ב יוזם מפגש פסגה בינלאומי בוושינגטון שיעסוק בהתמודדות מול הטרור، أي "رشيس الولايات المتحدة يعدّ لعقد ملتقى قمة أممي بواشنطن حول موضوع التصدّي للإرهاب"؛ انظر هــنــا).

 

 

7- الرهانات والدلالات الحقيقية لإشكالية العلاقة بين سجلـّي العربية

 

لقد تم تقديم إشكالية العلاقة بين الفصحى والدارجة في علاقة ذلك ببيداغوجيا التعليم كوجه من أوجه صراع لِسانوفوني بين عروبيين-إسلاميين من جهة، وفرانكوفونيين-مستغربين من جهة ثانية؛ وهذا ليس بصحيح.  فقد كانت مناسبة المهارشة التي نشبت بين الأستاذ عبد الله العروي والسيد نور الدين عيوش مناسبة لإماطة اللثام عن زيف هذا الشرخ الموجود فعلا على مستويات معينة لكن ليس على جميع المستويات. فهاهو الكاتب الفرانكوفوني الطاهر بن جلون يبدي قلقه وإشفاقه بتلك المناسبة من القطع مع العمق العربي للثقافة المغربية ("الطاهر بنجلون: التدريس بالدارجة يعني قطيعة مع العالم العربي" هو مانشيط ص-1 بيومية 'الاتحاد الاشتراكي'، 29/11/2013). وها هي الصحفية نرجس الرغاي تنشر بالمناسبة بصحيفة Libération مقالا بعنوان "Laroui donne une leçon magistrale à Ayouch. Mort directe d’un projet superflu" (انظر هــنــا). إن التعارض على مستوى الاعتراف أو عدم الاعتراف للسجلات اللغوية الحية الجارية والدارجة على الألسن بوظائف تربوية وبيداغوجية إنما يقوم على المستوى الاجتماعي بين طرفين ونمطين فكريين:

 

(1)    طرفٌ يتخذ من الأداة اللغوية، إما على شكل لغة بذاتها أو على شكل سجلّ معين من سجلات لغة معيّنة، مؤسسةً اجتماعية لتقنين توزيع اجتماعي للحق في أخذ الكلمة، ولضبط التفكير وتقعيد اتجاهاته، ضامنة بذلك لنخبة محصورة (قد تكون مختلفة اللغة حسب المعطيات السوسيو-لغوية)، في قطاع معين أو في جميع القطاعات، امتيازا معينا إن لم نقل سلطة مطلقة مستدامة ويتم إعادة إنتاجية آليات ضمانها؛

 

 (2) طرفٌ يسعى إلى تحرير الفكر والتفكير، وإلى دقرطة أخذ الكلمة والوصول إلى الملعومة والمعارف قصد ضمان تكافؤ الفرص للجميع.

 

فبخصوص مبدإ الاعتراف المؤسسي للأوجه اللغوية الدارجة على ألسن الأطفال المغاربة بوظيفة تربوية في المراحل الأولى للتنشئة التواصلية والاجتماعية في المراحل الأولى للخروج من الكنف الأسري إلى المدرسة وحاجته الماسّة إلى جسر بيداغوجي منهجي على المستوى التواصلي (انظر هــنــا)، كان المغاربة قد توافقوا قبل أكثر من عشر سنوات على وثيقة تأسيسية هي "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"، الذي تنص مادته 61 على أن من بين مرامي التعليم الأولي والابتدائي: "إكسابَ المعارف والمهارات الـتي تمكّن من إدراك اللغة العـربية والتـعبير، مع الاستئناس في البداية - إن اقتضى الأمر ذلك - باللغات واللهجات المحلية"، وذلك من أجل ["ضمان  أقصى حد من تكافؤ الفرص لجميع الأطفال المغاربة منذ سن مبكرة، للنجاح في مسارهم الدراسي وبعد ذلك في الحياة المهنية". وقد عاد دستور 2011 إلى تكريس ذلك انطلاقا من مقاصدية مبدإ "تكافؤ الفرص" الذي ورد في الدستور أربع مرات، ومن خلال دسترة اللغة الأمازيغية، فنص بشأن اللهجات والتعابير الحيّة بصفة عامة على أن من مسؤوليات الدولة العمل على [صيانة الحسانية باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية الموحدة وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب، وتسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية]. (انظر نقاشا حول المسالة على قناة فرانس-24؛ الحلقة-1 هــنــا؛ الحلقة-2 هـــنــا).

 

فالمشكل إذن ليس مشكلا دستوريا ولا مسالة ثوابت؛ إنما هو مشكل تدافعات مصالح سوسيو-سياسية لفئات اجتماعية. وإذا ما قامت مؤسسة من المؤسسات المعنية بالجوانب السوسيولوجية لمشكل التعليم بالمغرب ببحث سوسيولوجي ميداني للتوجهات التعليمية لثلاثة أجيال من النخبة المغربية لا تضحت كثير من الدلالات في باب الشرخ اللسانوفوني المزعوم على مستوى شعارات تلك النخبة بكل ألوانها فيما يتعلق بالفصحى، وذلك من حيث مقابلة تلك الشعارات والمواقف بالتوجيهات الفعلية التي تمكن من خلالها تلك النخبة لذريتها في باب اختيارات لغة التكوين من الروض إلى الجامعة. إن بحثا من هذا القبيل، إضافة إلى قيمته الأخلاقية من حيث مبدإ صدق الخطاب السياسي مع المواطنين (مهما كان المضمون السياسي)، لهو بحث من الأبحاث الاستراتيجية لأنه يتعلق بقطاع مصيري أريد له أن يكون قطاعا استراتيجيا يسمو على الحسابات لأن فشله النهائي سيكون كارثيا بالنسبة للجميع.

 

 

8- مسألة تحريك النظام التعليمي، والقطاع الخاص

 

بما أن الوجه اللغوي على الخصوص من يسن أوجه مسالة النظام التعليمي لم يُتناول قط تناولا عمليا وتشخيصيا من الوجهات السوسيولوجية والتربوية والبيداغوجية واللغوية في علاقة كل ذلك بأهداف ومقاصد بناء مجتمع حديث منتج خلاق ومبدع ومتوازن مشارك في محيطه التاريخي والجغرافي العام والخاص، بقدر ما يتم تناول تلك المسألة برمتها باعتبارها مجرد واجهة من واجهات الإعلان عن ألوان وشارات التميّزات الحزبية والايديولوجية والتدافعات السياسية بين مختلف القوى، فإن أبرز ما استقطب الخطاب خلال الضجة التي قامت حول التعارض المزعوم بين الفصحى والدارجة على أساس أن هناك خطة للتماسيح والعفاريت من أجل إحلال الثانية محل الأولى تدريجا للفكر المغربي وقطعا له مع عمق محيطه العربي تاريخيا وجغرافيا، هو دخول القطاع الخاص على الخط، كمبادر باعتباره ذراعا من اذرع تلك العفاريت وذنبا من أذناب تلك التماسيح. لقد حصل ذلك بعد شهر فقط من الخطاب الملكي 20 غشت 2013 الذي يقول بالضبط [لذا، فإنه لا ينبغي إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية]. فإذ كان من المنتظر بعد ذلك التنبيه أن تعمد القوى السياسية إلى إعداد ملفات تقنية تشخيصية وورقات تصورات تدبيرية عملية متوسطة وبعيدة المدى على ضوء توجيهات الميثاق الوطني للتربية والتعليم ومقاصد الدستور في الباب المعني، اكتفى كل طرف بالتصفيق للخطاب وشرحه وتفسيره وتحميل المسؤولية إلى غيره، مُسمّىً كان ذلك الغيرُ أم مجهول الاسم ضمن ملإ الهوامّ والعفاريت؛ ثم ركدت الأمور من جديد. وإذ المجتمع الحديث (مجتمع المعرفة والتكوين والإنتاج والخدمات والتبادل والاتصال) قد جعل مسألة التعليم والتكوين تتعدى الوظيفة التقليدية لتلقين بعض مختلف المضامين الثقافية الهويّاتية إلى إعداد الفرد للانخراط في تلك الآليات التبادلية كعامل مكوَّن وكمنتج ومستهلك للبضاعة وللخدمات وكفرد مستهدف لمختلف أوجه الاتصال (الإرشادي والإعلاني والإشهاري، الخ.) ويتعين أن تبلغه مضامين الاتصال، فمن الطبيعي، بل من الصحي أن تكون للمقاولة (إنتاجيةً كانت أم مصرفية أم اتصالاتية) همومٌ ومشاغل في باب مسألة التعليم والتكوين، خصوصا إذا ما كان هناك فراغ وغياب للمبادرات العملية المناسبة للوضع والحالة، على مستوى عمل القوى السياسية. ويتعين هنا التذكير بما حصل مع ملف الأمازيغية. فقبل سنوات من تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والشروع في معيرة هذه اللغة متنا وكتابة، قد سبقت المقاولة في القطاع الخاص (ونخص بالذكر مؤسسة مقاولة البنك المغربي للتجارة الخارجية) إلى اتخاذ المبادرة العملية في الميدان من خلال عمل "مدرستــكوم" التي عمل بها كثير من الأطر التي التحقت بعد ذلك بالمعهد المذكور. فتجربة مؤسسة "زاكورة" التي استقطبت اليوم اهتمام خطاب "المهتمين" بمجالات "الاختصاص والصلاحيات" بشكل لم يحصل مع تلك المؤسسة البنكية، تجربة مماثلة مع ذلك لتلك التي سبقتها، وذلك سواء من حيث طبيعة عملها، أم من حيث ما شكلته التجربتان معا من تحريك للأمور ومن ملء لفراغ المبادرة السياسية في باب ما يوصي به الميثاق الوطني بالأمس وما كرسه الدستور اليوم.

 

 

9- العلاقة بين مفهومي الحماية والتأهيل في باب اللغات الوطنية

 

هناك وجه آخر يتم التحويم حوله بغير علم في ما يتعلق بالعربية المغربية الدارجة، وذلك بالتهويل بقطيعة مزوعمة بينها وبين العالم الأكاديمي وصفا بنيويا وتقاليد كتابية. والواقع أن لهذا السجل اللغوي تقاليد قديمة في العلاقة بالتدوين (كنانيش ومنشورات الزجل والملحون، والنصوص النثرية التي دوّنها الإثنوغرافيون)، خصوصا في العقود الأخيرة، التي ظهرت فيها أجيال جديدة من المؤلفين المغاربة في أنواع أخرى غير الشعر (المسرحية، القصة الرواية)، وهو سجلّ غني كذلك بالدراسات اللسانية الواصفة لنشأته التاريخية ولبنياته المميزة له عن الفصحى على مستويات الأصوات والعروض، والصرف، والتركيب، والمعاجم (وهي ضخمة جامعة وعديدة)، سواء من طرف أجانب (Harris, Abdelmasih, Aguade & Benyahya, Colin, De Prémare, Harrel, Heath, Durand, Utz, etc. ) أم على يد مغاربة (Lévy, Youssi, Benhallam, Sinaceur, Sabia, Halili, Dahbi, Dell, Elmedlaoui, Ben Mamoun, Chekayri, El-Ghadi, Idrissi  )

(7) 

 

وبناء على ما تراكم من معرفة علمية بفضل تلك الدراسات، التي تمت كلها لحد الآن بلغات أجنبية بسبب عزوف ترفـّـعي قاتل لأهل العربية (أفرادا ومؤسسات أكاديمية) عن تمكين العربية من أن تكون حاملة للمعرفة في غير ما يتعلق بها كذات نرجسية، فإن أعمالا منهجية قد تم تحريرها بنفس هذا السجّل اللغوي للعربية،(6) وذلك من أجل غايتين:

 

أ- تقديم وصف بنيوي لأصوات وصرف وتركيب ومعجم العربية المغربية بشكل يجعل المربّي ومعلم العربية على بيّنة ومعرفة تقابليّة ملموسة صورية بمواطن الائتلاف والاختلاف بين سجلـّي الفصحى والدارجة، لكي يتمّ توظيف السجلـّين توظيفا عقلانيا في مسيرة التربية والتكوين سواء كان التكوين نظاميا (التعليم الأولي) أو غير نظامي (سلك الإنقاذ، أو محو الأمية)،

 

ب- إضفاء الاطراد والمنهجية - على مستوى الإملائية - على الطريقة التي يدوّن بها لحد الآن متنُ العربية المغربية، وذلك لكل غاية مفيدة تكوينية (سلك الإنقاذ أو محاربة الأمية) أو ثقافية (بما في ذلك المنشورات القيمة لأكاديمية المملكة المغربية في باب ديوان الملحون).

 

فالعربية المغربية ليست، إذن، رطانة شفهية غابوية اكتشفت على التوّ في أدغال جزيرة مجهولة، وليست لسانا مواتا أو ألسِنة قِدَدا كما يدّعي ذلك ويروّج له كلّ من لا يريد أن يُمأسَـس لذلك السجل من سجلات العربية، على مستوى التدبير العمومي، اعترافٌ بالوظائف التواصلية السوسيو-لغوية والسيكو-تربوية التي يضطلع بها فعليا على أرض الواقع، والتي أقرّها الميثاق الوطني، ودعا الدستور إلى حمايتها. فلها من التأهّل الذاتي في الميدان، ومن التأهيل الأكاديمي الموضوعي على مستوى الوصف والدراسة، ما يرشحها للقيام بالدور التربوي الذي أناطه بها نص الميثاق الوطني وروح الدستور، قياما مؤسسيا وليس بشكل تهريبي (على غرار الاقتصاد غير النظامي) كما هو جارٍ لحد الآن. أي أن الذي ينقص لحد الآن هو ما نصّت عليه النصوص المؤسِّسة من تفعيل وحماية.

 

أما العربية الفصحى، مثلها في ذلك مثل الأمازيغية، بعد ترسيمهما معا كلغتين رسميتين في دستور 2011، فإن أبرز وأهم وأعقل أوجه الحماية بشأنهما يتمثل في تأهيل وتقوية متن كل منهما ليتطور في وظائفه ويوسّعها بالكفاءة الذاتية لا بمجرد القرارات الإدارية الحمائية، سواء على مستوى السوق اللغوية الداخلية أم على مستوى الساحة اللغوية العالمية. وفي ما يتعلق بالعربية الفصحى بالذات، التي نصّبها الخطاب الأيديولوجي العمومي المشار إليه أعلاه، كطرف قطب يتعارض مبدئيا، وفي نفس الوقت، مع العربية المغربية، ومع الأمازيغية، ومع اللغات الأجنبية، فإن أرشد وأعقل وأفعلَ سبيل لحمايتها هو ما تنص عليه الدعامة 112 من "الميثاق الوطني التربية والتكوين" بما يلي:

 

[يستلزم الاستعداد لفتح شعب للبحث العلمي المتطور والتعليم العالي باللغة العربية إدراج هذا المجهود في إطار مشروع مستقبلي طموح، ذي أبعاد ثقافية وعلمية معاصرة. يرتكز على أ-  التنمية المتواصلة للنسق اللساني العربي على مستويات التركيب والتوليد والمعجم؛ ب-  تشجيع حركة رفيعة المستوى للإنتاج والترجمة بهدف استيعاب مكتسبات التطور العلمي والتكنولوجي والثقافي بلغة عربية واضحة مع تشجيع التأليف والنشر وتصدير الإنتــاج الوطني الجيد؛ ج-  تكوين صفوة من المتخصصين يتقنون مختلف مجالات المعرفة باللغة العربية و بعدة لغات أخرى، تكون من بينهم أطر تربوية عليا ومتوسطة.] (من أجل التفصيل، أنظر هــنــا).

برنامج كهذا تصوغه وتنجزه مؤسسات معنية مثل معهد الأبحاث والدراسات لللتعريب وأكاديمية محمد السادس للغة العربية في علاقتهما  الهيكلية المرتقبة بالمجلس الوطني للغات والثقافة المرتقب، هو برنامج سيضطلع بالمهام الأساسية لتأهيل اللغتين الرسميتين وذلك بتقوية القدرات التوليدية لبنيات متن كل منهما حسب وضعيته الذاتية صرفيا ومعجميا، وعن طريق تعميق المعرفة الصورية بآلياتها التركيبية وتطويعها وتبسيطها، وعن طريق التجسير بين السجلات السوسيو-لغوية لكل منهما (بالنسبة للتجسير بين الفصحى والدارجة، انظر هــنــا)، وعن طريق نقل المضامين المعرفة إلى متنها بواسطة الترجمة الرفيعة لأمهات المؤلفات العلمية والفكرية والفنية الجامعة في أبوابها، وبواسطة التأليف التيسيري للمعارف (Travaux de vulgarisation) وبواسطة  المعاجم الموسوعية الحاملة للمضاين المعرفة عن طريق تعريف المضامين  المعرفية لمفاهيم المصطلحات مع إعطاء أمثلة، بدل ما يتم إلى حد الآن من مجرد رصف لقوائم ثنائية أو ثلاثية اللغات لألفاظ عربية تقدم اعتباطيا كـ"مصطلحات" عربية مقابلة لمصطلحات غائبة مفاهيمُها المعرفية لدى المتلقّي (من أجل تفصيل أكثر في إطار تحليلي أشمل، انظر هــنــا).

 

 

10 إطار تدبير المسألة اللغوية وإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي

 

من بين مظاهر أجلى تجليات الفرق بين التفكير العقلاني الواقعي والبراغماتي من جهة، والقناعات الايديولوجية العاطفية من جهة ثانية، أن الجميع، ومهما كانت توجهاته السوسيو-اقتصادية والسياسية، يقتنع بأن رسم الخطط السياسة السوسيو-اقتصادية للمغرب محكومة أولا وقبل كل شيء بمعطيات موقعه الجغرافي في العالم، وبمعطيات الخصائص الطبيعية لأرضه (تضاريس ومناخ وتربة ومساحة)، وحجمه الديموغرافي، ونوعية البنيات الاجتماعية لموارده البشرية، وقيم الاختيارات الكبرى لنظامه السياسي والسوسيو-اقتصادي القائم و/أو المنشود، الخ.، وأن تلك المعطيات هي التي تحدد بعد ذلك وتملي كل إمكانياته التعاونية والتبادلية. كما يقتنع الجميع اليوم بأن تنفيذ أية خطة عامة من ذلك القبيل رهين بخطط فرعية للتعليم وللتكوين والبحث العلمي وأن هذه الخطط الفرعية الأخيرة مرتبطة من حيث إحدى أدواتها وروافعها الاساسية بتأهيل الأداة اللغوية، أي بتدبير شأن الحقل اللغوي في عموميته كما هو معطى ملموس من معطيات المغرب وليس عن طريق تذويبه في سديم جهوي أو أقليمي معيّن ليست له أي أوجه من أوجه التكامل مع المعطيات المغربية العامة المذكورة آنفا. غير أن البعض ممن يدرك كل أوجه هذا الارتباط يجنح مع ذلك جنوحا عاطفيا ايديولوجيا مبهما كلما طرحت مسألة التدبير الملموس للمعطى اللغوي، فلا يتصور معالجة هذه المسألة إلا في إطار سديم إقليمي غير متجانس لا طبيعيا، ولا من حيث نوعية الاقتصاد، ولا من الناحية السوسيو-ثقافية، ولا سياسيا، ولا من حيث قيم الاختيارات الدستورية الكبرى.(8)

 

ولعل الانتباه إلى ذلك الارتباط الجدلي ما بين الخصوصية المغربية للمعطيات وللاختيارات الكبرى المذكورة من جهة، وبين أي خطة لإرساء مدرسة مغربية جديدة ملائمة لتلك الاختيارات، بما في تلك المدرسة من شقّ لمتعلق بتدبير الشأن اللغوي من جهة ثانية، هو ما يترجمه ما راج مؤخرا (الأسبوع الثالث من ماي 2015) في ختام أعمال "المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي" حول الموضوع من اختيارٍ لـ"الحل المغربي" في ميدان تدبير شأن اللغات، أي الدعوة إلى اختيار "تركيبة غير شرقية وغير غربية، تعكس الرهانات التنموية للمغرب". فزيادة على الطابع العقلاني في حد ذاته لهذا الاختيار الأخير إذا ما كتب له الاعتماد، فإن من أوجه المعطيات البشرية والسوسيو-ثقافة والسياسية التي تميز بها المغرب مرة أخرى، ولا تتوفر لها خارجَه ميادين للتكامل والتعاون،  هو أن للمغرب اليوم تجربة متميزة في تدبير شأن التعدد اللغوي، وأنه يتوفر على رصيد بشري هام من الأطر العلمية الأكاديمية في ميدان اللسانيات والسوسيو-لغويات واللغويات التطبيقية بشكل لا يتوفر في كثير من دوائره المحيطية المبنية بدرجات متفاوتة على اقتصاد توزيع الريع وعلى ما يترتب عن ذلك النوع من الاقتصاد من بنيات سوسيولوجية وأنظمة سياسية خاصة مغايرة تماما لما يناظرها في المغرب، تلك الفضاءات التي لا تشكل فيها المسألة اللغوية إلا وجها من أوجه إنتاج خطاب إضفاء المشروعية على طبيعة بنياتها، وليس أداة من أدوات التنمية.

.

 

  

------------------------

(1)  لتكوين فكرة عن مدى بعد أحدى لهجات حمير سواء عن العربية الفصحى أم عن الدارجة المغربية أم عن الأمازيغيات خلافا لكل الأراجيف والأساطير المروجة في الباب، هذا نموذج من اللغة المهرية:

كوثــة ذي-با نواس: نهور طايت ذي-سيُور، و-شيه دِيــجيريت  طايت

" قصة أبي نواس كان ذات يوم سيّارا، ومعه [حبة] لوبيا واحدة"

-  تــي كـُـوسا غيجينـَـاوتين  ك-أمحيلـُـوب و-تهيجلـُـولن دِيـجير، أمُور هِيسن: "حُوم إيل-خيلـِـيط بِـيكن أدجيرايتي". أمُور أغيجُّوتين: "أدجيريتك إيل تينوفا لا؛ ويلاكين سخاوّل و-تِيه شِين".

"لمّا صادف فتيات مع أبكارهن (= صغار الإبل) [وهن] يطبخن اللوبيا، قال لهنّ: أحبّ أن أخلط معكنّ حبة لوبياي. قالت البنات: لوبياك لا تنفع [في] شيء؛ ولكن، اجلس وتناول طعاما".

(من نصوص مهرية، جمعها Harry Stroomer)

 

(2) Elmedlaoui, M. (1998) "Le substrat berbère en Arabe Marocain: un système de contraintes"; Langues et Littératures, vol. xvi-1998 (Contact et évolution historique des langues au Maroc), pp: 137-165. Publications de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines – Rabat

Elmedlaoui, M. (2000) "L'Arabe Marocain: un lexique sémitique inséré sur un fond grammatical berbère"; pp: 155-187 in Salem Chaker, éd. Etudes Berbères et Chamito-Sémitiques; mélanges offerts à Karl-G. Prasse; réunis par Salem Chaker et Andrjez Zaborski. Peeters: Paris-Louvain 2000

 

(3) Cantineau, Jean (1960) Cours de phonétique arabe. Klincksieck.

 

 

(3') - ابن جِـنّي، أبو الفتح (توفي في 1002م) سر صناعة الإعراب. الجزء الأول. دار القلم. دمشق. 1993

 

     -  المدلاوي، محمد (1998)  "المصطلح الصوتي عند ابن جني ما بين الانطباعية و الصرامة الصورية". قضية التعريف في الدراسات المصطلحية الحديثة . منشورات كلية الآداب – وجدة رقم 24 (إعداد عبد الحفيظ الهاشمي) ؛ سلسلة ندوات و مناظرات؛ رقم 8 ؛  ص 143 – 159.

 

- Elmedlaoui, Mohamed (2011) “Système, typologie et changement diachronique: le cas *g et *q dans les études chamito-sémitiques”. Etudes et Documents Berbères. 29-30 (2010-2011). Pp. 133-153.

 

 (4)  شفيق، محمد (1999) الدارجة المغربية، مجال تَوارد بين الأمازيغية والعربية. منشورات أكاديمية المملكة المغربية.

(5) بنشريفة، محمد (1987) ملعبة الكفيف الزرهوني. تقديم وتعليق وتحقيق الدكتور محمد بنشريفة. المطبعة الملكية. الرباط. طبعة أخرى منقحة لنفس المحقق ضمن كتاب تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب. الجزء الرابع. دار المناهل للطباعة و النشر. وزارة الشؤون الثقافية. الرباط

(6)  المدلاوي، محمد (2015، مرقون) العربية المغربية الدارجة. قواعد: الأصوات، الصرف، التركيب، الإملائية (كـِتَابٌ مُحَرَّرٌ بِعَرَبِيَّةٍ مَغْرِبِيَّةٍ وُسْطَى).

(7) نظرا لما تمكّن ثقافيا في شعب العربية بالجامعة المغربية من عزوف مترفّع عن تناول كل ما لا يتعلق بالعربية، كذات نرجسية مكتفية بنفسها، ومن رفض لجعل هذه اللغة كذلك لغة واصفة لغيرها من اللغات وحاملة للمعرفة العلمية بتلك اللغات، كما هو شأن كل اللغات الحيّة، فكل الباحثين اللسانيين المغاربة الذين بحثوا في العربية المغربية الدارجة، إنما هم من خريجي شعب اللغات الأجنبية و/أو الجامعات الغربية. أما مجال الدراسات الأدبية فيها، فإن رائد البحث فيه هو المرحوم محمد الفاسي على المستوى الشخصي. أما على المستوى الأكاديمي، فإن الأستاذ عباس الجيراري هو أول من ناضل في عسر وصعوبة من أجل إدخال الآداب الشعبية (عربية وأمازيغية) إلى شعب العربية في الجامعة.

 

(8)  وإذ يشكل الجهل بمعطيات الواقع على مختلف المستويات المعرفية إطارا ذهنيا لتبلور الفكر الأيديولوجي، فإن من بين الصيغ العتيقة للخطاب الأيديولوجي حول المسألة اللغوية في المغرب ما لا يزال يتردّد في ملل مفارق من أن العناية بالعربية الدارجة مثلا تكمن وراءه مدرسة فرانكوفونية، في حين أن المدرسة الإثنوغرافية واللهجاتية الفرنسية قد ولـّـت منذ عقود، وأن المدرستين الجرمانية (ألمانيا وهولندا) والأنجلو-ساكسونية هما اللتان كونتا جيلا جديدا من الباحثين والباحثات الأكفاء في الميدان؛ ومن أواخر الأعمال الأمريكية في هذا الباب أطروحتا كل من الباحثتين Melanie Automn Magidow 2013 و Jennifer Lee Hall 2015؛ انظر أطروحتيهما على الترتيب 1-  "بُعدُ تماسك التعدد الثقافي من خلال أداء شعر الملحون في المغرب" (هــنـــا) ، 2-  "النقاش حول الدارجة: الأيديولوجية اللغوية والتمثلات الكتابية للعربية المغربية في المغرب" (هـــنـــا). وانظر تقديما بالعربية لأولى الأطروحتين هــنــــا

--------------------------------

 

محمد المدلاوي (المعهد الجامعي للبحث العلمي - الرباط)

https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques

 



20/01/2015
25 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 347 autres membres