(En Ar.) Choix stratégiques du Maroc et "profondeurs civilisationnelles"
الخُطـَـط الكبرى في المغرب
ومفاهيم "الأبعاد الإستراتيجية" و"العمق الحضاري"
خطة تدبير المسألة اللغوية وإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي كمثال
في مقال سابق نشرت صيغته الأولى في شهر يناير 2015 بعنوان "العربية المغربية، ماهي وما وظائفها؟" (انظر هـــنـــا)، توالت الإضافات والتنقيحات بارتفاع وتيرة القراءات إلى أن أصبح أطول من الحجم الطبيعي للمقالة الصحفية؛ فتعين تخفيف كثافة ذلك المقال عن طريق فصل بعض فقراته وتطويرها مستقلة. وفي هذا النص تطوير للفقرة-10 من ذلك المقال.
----
من بين أجلى مظاهر المفارقة بين التفكير العقلاني والواقعي البراغماتي في نفس الوقت من جهة، والقناعات الايديولوجية ذات الشحنة العاطفية من جهة ثانية، أن الجميع في المغرب، ومهما كانت توجهاته السوسيو-اقتصادية والسياسية، يقتنع بأن رسم الخطط السياسة السوسيو-اقتصادية للمغرب محكومة أولا وقبل كل شيء بمعطيات موقعه الجغرافي في العالم في ملتقى قارتين وبحرين، وبمعطيات الخصائص الطبيعية لهذا البلد (تضاريس، مناخ، تربة، مساحة)، ومعطيات مقدراته الديموغرافية، ونمط البنيات الاجتماعية لموارده البشرية، وقيم الاختيارات الكبرى لنظامه السياسي والسوسيو-اقتصادي القائم و/أو المنشود في آفاقه التطورية، الخ.، وأن تلك المعطيات جميعا هي التي تحدد في النهاية بعد ذلك وتملي كل إمكانيات المغرب التعاونية والتبادلية في كل المجالات وعلى جميع المستويات.
كما يقتنع الجميع اليوم بأن تنفيذ أية خطة عامة من ذلك القبيل رهين بخطط فرعية للتعليم وللتكوين والبحث العلمي، وبأن هذه الخطط الفرعية الأخيرة مرتبطة، من حيث إحدى أدواتها وروافعها الأساسية، بتأهيل الأداة/الأدوات اللغوية، أي بتدبير شأن الحقل اللغوي في عموميته كما هو معطى من بين المعطيات الملموسة في المغرب مهما كانت درجة تعقدها، وليس عن طريق تذويب معالم ذلك الحقل في تمثّـلات عاطفية لسديم جهوي أو أقليمي معيّن لا يتوفر، في حد ذاته حاليا، على أيّ حد أدنى لأي اندماج عضوي، لا ماديا ولا فكريا، ولا يوفّر، باعتباره كُلّا، أيّ وجه من أوجه التكامل مع المعطيات المغربية العامة المذكورة آنفا.
غير أن الكثير ممن يدرك كلَّ أوجه هذا الارتباط ما بين المعطيات والخطط والأدوات المشار إليها يجنح مع ذلك جنوحا عاطفيا ايديولوجيا مبهما كلما طرحت مسألة التدبير الملموس لمعطى الحقل اللغوي في أفق تأهيل الأداة/الأدوات اللغوية؛ فلا يتصور معالجة هذه المسألة إلا في إطار ذلك السديم الإقليمي غير المتجانس لا طبيعيا، ولا من حيث نوعية الاقتصاد، ولا من الناحية السوسيو-ثقافية، ولا من حيث المؤسسات السياسية، ولا من حيث قيم الاختيارات الدستورية الكبرى.
وإذ يُشكّل الجهل بمعطيات الواقع على مختلف المستويات المعرفية إطارا ذهنيا لتبلور أي وجه من أوجه الفكر الأيديولوجي، فإن من بين الصيغ العتيقة للخطاب الأيديولوجي حول المسألة اللغوية في المغرب ما لا يزال يتردّد في مفارقة صارخة من أن العناية بالعربية المغربية، على سبيل المثال، سواء من الناحية اللسانية الأكايمية المحض (بنياتها، تفرعها التاريخي، أوجهها المقارنة)، او من الناحية السوسيو-لسانية والسوسيو-تربوية الميدانية في أفق إسناد أي دور سوسيو-تربوي واقعي لها بشكل مؤسسي ضمن معطيات ذلك الحقل،عناية تكمن وراءها مدرسة فرانكوفونية معروفة؛ وذلك في حين أن المدرسة الإثنوغرافية واللهجاتية الفرنسية في هذا الباب قد ولـّـت تدريجيا منذ عقود (Bruno, Colin, de Prémare)، وأن المدرستين الجرمانية (ألمانيا وهولندا) والأنجلو-ساكسونية هما اللتان كونتا جيلا جديدا من الباحثين والباحثات الأكفاء في الميدان منذ بداية الستينات مع أعمال Richard Harrel. لقد قامت اليوم على الخصوص مدرسة إثنو-لغوية وسوسيو-لغوية أمريكية جديدة متشببه شديدة الاهتمام بالحقل اللغوي المغربي في جوانبه الإثنو-لغوية والسوسيو-لغوية والسوسيو-بيداغوجية وليس هنا مجال تفصيل القول فيها (انظر مع ذلك نماذج هــــنـــا ثم هـــنــا). ومن أواخر الأعمال الأكاديمية الأمريكية في هذا الباب أطروحتا كل من الباحثتين، Melanie Automn Magidow 2013 و Jennifer Lee Hall 2015. ويمكن الاطلاع مباشرة من هنا على أطروحتيهما وهما على الترتيب:
1- "بُعــدُ تماسُك التعدّدِ الثقافي من خلال أداء شعر الملحون في المغرب" (النص هــنـــا؛ وانظر تقديما موجزا بالعربية هــنــــا.
2- "النقاش حول الدارجة: الأيديولوجية اللغوية والتمثلات الكتابية للعربية المغربية في المغرب" (انقر هـــنـــا).
وهكذا يتضح للجميع، كيفما تـلـقّـب في المحافل، ومهما كان ما يُزيّن به رأسَه قبعةً أم عمامةً، أن من لا يدرك الأمور إلا عبر عدسة أيديولوجية ذات لون معيّن، فيَحملُ مثلا كلَّ المصاعب وتعقيدات الواقع ممّا يستدعي إعمالَ التفكير العقلاني الواقعي، حَملاً منهجيا على مشجب أغوال خارجية من بين أسمائها تسمية الفرانكوفونية، فيستجير من هذه الأخيرة بترديد شعار "الإنجليزية لغة العلم الكونية"، إنما هو "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، كما يقول المثل العربي.
وهكذا يتضح أيضا أنه، حتى شعارات الخطاب الأيديولوجي (شعار البديل الإنجلوفوني مثلا بدل نفعية وظائف اللغات حسب حسب الحالات والوضعيات) شعارات تحتاج إلى تحييـنات معرفية لإعادة صياغتها كي تحوز نصيبا من الفاعلية في تمرير مضامينها الأيديولوجية. أما التفكير العقلاني، فإنه يتعامل مع السوق اللغوية العالمية تعاملا وظيفيا نفعيا ويميز ما بين نفعية لغة معينة في محيط وظرفية معينة وما بين هذه "اللوغوفونية" أو تلك مهما كانت اللغة المعنية. فإذ ليس هناك اليوم من عارف ينكر كون اللغة الإنجليزية هي الأداة الأولى للتحكم في ناصية البحث العلمي المتقدم وفي ناصية الاتصال الكوني الراهن، فإن الأنجلوفونية كما هي زاحفة اليوم لا تورث لا فلسفة أنوار، ولا نظرية في فلسفة الأخلاق السياسية، ولا ثقافة فنية وأدبية رفيعة، مثل كلّ ذلك الذي نهل منه - كلّ بطريقته الخاصة - أمثالُ علال الفاسي، وعبد الرحيم بوعبيد، ومحمد شفيق، وعبد الله إبراهيم، ومحمد الفاسي، وعبد السلام ياسين، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، ومحمد خير الدين، والطيب الصديقي، وعبد الكبير الخطيبي، وغيرهم كثيرٌ ممن ساهموا في جعل الفكر المغربي على ما هو عليه ممّا يميزه عن غيره اليوم. وإذ "لا يعادُ اختراعُ العجلة" كما يقال، وإذ الحال هي أن ذلك الفكر معروفٌ معينُه الذي فيه تـمّـت بلورتُه وصياغته تاريخيا، فإن تلك الأنجلوفونية كما هي زاحفة اليوم، إنما تورث ما يسمى بـ"الأميريكان واي أوف لايف" في أحسن الأحوال، كالدجينز، والفاستـفود، وكل المعلبات على المستوى الاستهلاكي والسوسيو-ثقافي.
وأخيرا فلعل الانتباه إلى ذلك الارتباط الجدلي المذكور أعلاه ما بين الخصوصية المغربية للمعطيات وللاختيارات الكبرى المذكورة من جهة، وبين أيّ خطة لإرساء مدرسة مغربية جديدة ملائمة لتلك الاختيارات، بما في تلك المدرسة من شقّ لمتعلق بتدبير الشأن اللغوي من جهة ثانية، هو ما يترجمه ما راج مؤخرا (الأسبوع الثالث من ماي 2015) في ختام أعمال "المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي" حول الموضوع من اختيارٍ لـ"الحل المغربي" في ميدان تدبير شأن اللغات، أي الدعوة إلى اختيار "تركيبة غير شرقية وغير غربية، تعكس الرهانات التنموية للمغرب".
فزيادة على الطابع العقلاني في حد ذاته لهذا الاختيار الأخير إذا ما كتب له الاعتماد، فإن من أوجه المعطيات البشرية والسوسيو-ثقافة والسياسية التي تميّز بها المغرب مرة أخرى، ولا تتوفر لها خارجَه ميادينُ للتكامل والتعاون، هو أن للمغرب اليوم تجربةً متميزة في مجال تدبير شأن التعدد اللغوي، وأنه يتوفر على رصيد بشري هام من الأطر العلمية الأكاديمية في ميدان اللسانيات والسوسيو-لغويات واللغويات التطبيقية بشكل لا يتوفر في كثير من دوائره المحيطية، المبنية بدرجات متفاوتة على اقتصاد توزيع الريع وعلى ما يترتب عن ذلك النوع من الاقتصاد من بنيات سوسيولوجية وأنظمة سياسية خاصة مغايرة تماما لما يناظرها كبنيات في المغرب؛ تلك الفضاءات التي لا تشكل فيها المسألة اللغوية واللغة في حد ذاتها، لحد الآن وإلى أن يثبت غير ذلك، إلا لغة عكاظية، أي مجرد وجه من أوجه مراكمة زبد خطابي إعلامي عتيق، من مدح رخيص في الاتجاه الموالي، وهجاء سجالي سليط في الاتجاه المعاكس، وغزل مرَضي مراهق في جميع الاتجاهات، لإضفاء مشروعيةٍ أيديو-أدبية و"فنية" في النهاية على طبيعة بنياتها القائمة المذكورة؛ أي أنه لا يتمّ التعاملُ في تلك الفضاءات مع معطيات اللغة (فُصحىً كانت أم عاميةً أم عجميةً أو أجنبية)، تدبيراً لحقلها وتأهيلا لمتنها، باعتباراللغة أداة من أدوات التنمية، مع ما تستلزم تلك الوظيفة من تدبير عقلاني وتأهيل معرفي. صحيح أن دائرة الكيان المغربي تتقاطع مع كثير من الدوائر بدرجات متفاوتة، ,على مستويات مختلفة. إلا من تلك الدوائر ما هو أكثر تكاملا باعتبار الأسس الملموسة لمختلف أوجه التعاون. وتمثل دائرة دول الساحل وإفريقيا الغربية وجنوب الصحراء إحدى تلك الدوائر المتكاملة عضويا مع المغرب، ليس فقط على المستوى التاريخي والجغرافي القريب والتداخلات البشرية الملموسة بوشائجها الروحية المختلفة من كًناوية وصوفية، الخ. والتي ليست مجرد منتج من منتجات خطاب موروث مكثـّـف في اتجاه واحد، بل كذلك بحكم التمرن على طريق مؤسسات الدولة الحديثة ونمط الاقتصاد المنتج للخيرات والخدمات، بل وبحكم ما هو قائم اليوم على أرض الواقع بشكل ملموس على مستوى المؤسسات المالية، ومقاولات الأشغال العمومية، والطيران المدني، وغير ذلك كثير مما ساعدت عليه كذلك بعض الموروثات في باب تدبير خارطة الحقل اللغوي تدبيرا نفعيا، رغم الغياب المفزع للحضور الثقافي والأكاديمي المغربي حيث يتعين عليه أن يحضر من باب الأولوية على غيره (انظر هـــنـــا). ومن ذلك مثلا فضاءُ الموروث الثقافي المخطوط بالعربية وبالعجمي في الساحل الإفريقي وفي مالي وتومبكتو على الأخص، بلاد أحمد بابا التومبكتي فقيه تومبكتو ومراكش (انظر هنا هــنـــا)، هذا الفضاء الذي تكفلت به اليوم أوساط أكاديمية أخرى بعيدة جغرافيا وثقافيا (جامعة ليون الفرنسية وجامعة سان-جوزيف البيروتية) خصوصا بعد المحرقة الكُتبية (autodaphée) التي قام بها المتشددون الإسلاميون بإضرامهم النار في خزانة معهد أحمد بابا التومبكتي بالضبط في يناير 2013 (انظر هـــنـــا).
****
(نص مُكمّل مضمونا وعضويا لهذا المقال (هــــنــــا -
-----
محمد المدلاوي، أستاذ باحث (نــــبــــذة)
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres