(In Arabic and English) Chomsky, linguistics, "Arab Spring" and "Western Sahara"
نوام تشومسكي
واللسانيات و"الربيع العربي" وقضية الصحراء
محمد المدلاوي المنبهي
For an English version, click Here
تشومسكي، أريسطو العصر الحديث في العلوم المعرفية والأخلاق والسياسة
باعتباره رائدا للثورة المعرفية التي انطلقت في الخمسينات من القرن العشرين في حقل العلوم اللسانية والمعرفية (ثورة مفهوم "النحو الكلي" أو "النحو الجامع")، أخذ نوام تشومسكي يجد له صدى في دائرة اكتشاف ثلة قليلة من اللغويين المغاربة مع بداية سبعينات نفس القرن. لكن الذي وسّع شعبية اسم ذلك العالم الأمريكي الكبير لدى طيف أوسع من أطياف المثقفين المغاربة وقراء العربية بصفة عامة، إنما حصل في العقد اللاحق، عقد الثمانينيات، بعد الشروع في ترجمة بعض تحليلاته السياسية والجيوسياسية من الإنجليزية إلى العربية ("حمام الدم" حول حرب فيتنام؛ كتاباته حول القضية الفلسطينية). في هذا الإطار الأخير، وزيادة على قيّامي شخصيا، في حقل اللسانيات المعرفية بترجمة الفصل الأخير "Language and unconsious knowledge" من كتابه النظري المحوري Rules and Representations إلى العربية،(1) تعود أول ترجمة لي لتحليل من تحليلاته السياسية إلى سنة 1982 (ترجمة قسم "On Politics " من كتابه 1979 Language and Responsability. Dialogue with Mitsou Ronate)، وكان ذلك بناء على ترخيص كتابي من طرفه بالبريد الكلاسيكي ما زالت أحتفظ نص رسالته.(2) وكان آخر تحيل من ذلك القبيل قمتُ بترجمته له هو مقال Al-Aqsa Intifada سنة 2000.(3)
كتابات تشومسكي السياسية، المتمحورة أساسا على مختلف أوجه ما يعتبره أساسا للبنية العميقة للسياسة الأمريكية داخليا وخارجيا (أي الأيديولوجيا)، كتابات تعكس فكرا أخلاقيا أصيلا متحررا من القوالب الأيديولوجية الكبرى الرائجة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية عبر المعمور (الرأسمالية، الماكارثية، الشيوعية، الصهيونية، إنكارية أو تقديس الهولوكوست، الخ.)؛ وامتازت تحليلاته الفكرية دائما بالعمق والتوثيق المبني على مصادر موثوق بها. لقد كان هناك، أيضا في الواقع، عالم عملاق آخر في ميدان علمي آخر، هو علم الفيزياء، ألا وهو ألبير أينشتاين، الذي ساهم كذلك بآراء أصيلة في قضايا الأخلاق والسياسة والتربية والفن، لكن بمقاربة أخرى أقل التصاقا بمُجريات الظرفية وارتهانا بها (انظر How do I see the World?).
من تحليل السياسة الأمريكية والأطلسية إلى الخوض في "الربيع العربي" وقضية الصحراء
في إطار عرض آرائه السياسية، وخلال استضافة له على بلاطو "قناة الجزيرة" للتعليق على ما أصبح معروفا بـ"الربيع العربي"، أدلى نوام تشومسكي بتصريح يؤكد من خلاله أن ذلك "الربيع العربي" لم ينطلق من تونس في 14 يناير 2011 كما يعقتقد الناس، وإنما انطلق من "الصحراء الغربية" (انظر هــنــأ) التي يعتبرها "آخر مستعمرة في إفريقيا". أنه يشير من خلال ذلك "التصويب التاريخي"، كما فصل ذلك، إلى أحداث "أكديم-إيزك" بمدينة العيون في أكتوبر 2010 كما فهم ما بلغه عنها، وفي إطار تصوره الخاص الذي يرى أن هناك "بقعتين في العالم العربي ما تزالان بالفعل تحت الاستعمار: الصحراء الغربية حيث تمّ قمع المظاهرات المطالبة بالديموقراطية بشكل عنيف، وفلسطين بطبيعة الحال" (انظر هــنــا وهــنــا).
فما دام المغرب معنيّا إذن، بخلاف أيّ بلد آخر في الفضاء الجهوي، وعلى الخصوص الجزائر التي تعتبر الانتفاضات والتمردات الشعبية موسمية فيها، فإن المقاييس الموضوعية التي بنى عليها تشومسكي تحديده الزمكاني لانطلاق "الربيع العربي" تبقى غير مفهومة في إطار فكر تشومسكي في ميدان تخصصه العلمي (اللسانيات) المبني مبدئيا وعمليا على التعليل.(4) ذلك لأنه ما دام تم تحديد المغرب بالضبط، لاعتبار من الاعتبارات غير المبيّنة، كـرحِم سوسيو-سياسي توليدي أول لتلك الصيرورة الإقليمية التي سميت بـ"الربيع العربي" والتي ما تزال تداعياتها حارية، فمن المنطقي التساؤلُ لماذا اعتبـر تشومسكي أحداث أكتوبر 2010 بمدينة العيون بالضبط كمنطلق نشوئي توليدي لذلك الحراك، وذلك بدل أحداث 2009 في مدينة سيدي إفني على بعد حوالي 200 كلم إلى الشمال من مدينة العيون، تلك المدينة التي كانت بدوره قطاعا خاضعا الاستعمار الإسباني لم يتم استرداده سنة 1969؟ بل ولماذا لم تُتّخذ لذلك المنطلق النشوئي التوليدي بقية محطات الانتفاضات الشعبية التي رشمت بصماتُها الحياةَ السوسيو-سياسية للمغرب الحديث في الدار البيضاء ومراكش وفاس والناضور، الخ.؟
أكيد إذن أن لمدينة العيون المغربية الجنوبية دلالات جيو-سياسية خاصة، تكمُن، عن وعي أو غير وعي، وراء تحليلات تشومسكى. ذلك لأن لأصداءِ أحداث مدينة العيون وقعا ودلالات جيو-سياسية خاصة بالنسبة للتصوّر والتوجيه الذي لدى قناة الجزيرة بخصوص ما سمي بـ"الربيع العربي" من جهة، وبالنسبة لبعض أوساط النشطاء الأمريكان في ميدان حقوق الإنسان خارج أمريكا من جهة ثانية. فنظرا للعمل اللوبوي المكثف للسياسة الجزائرية منذ منتصف السبعينات الماضية عبر العالم، بما في ذلك أمريكا، ونظرا للخط التحريري الخاص لقناة الجزيرة بخصوص تصور وتوجهات مسارات ما عرف بـ"الربيع العربي"، ليس هناك في الواقع ما هو أنسب من مدينة العيون كإحداثيات زمكانية لمنطلق ذلك "الحراك" بشكل يجعله ملتبسا في دلالاته الجيو-سياسية التباسا يُريح في نفس الوقت الفرقاء الخارجيين الثلاثة المهتمين بنزاع الصحراء وبـ"الربيع العربي" من منطلقات مختلفة.
الأمريكيون والمعرفية العامة بما هو خارج أمريكا وأولوياتها
إنه كثيرا ما يتم الحديث عن تواضع المعرفة العامة عند مجمل الأمريكان، خصوصا في مجالي التاريخ والجغرافيا (انظر هــنــا)، وعلى الأخص في ما يتعلق بما هو خارج أمريكا ومناطقها الحساسة الظرفية. وأتذكر، في هذا الصدد، تجربتين شخصيتين ذواتي دلالة بالنسبة للموضوع: (أ) خلال أول زيارة لي لقسم اللسانيات بمعهد الإيمايتي الشهير MIT بوبسطون حيث يعمل الثنائي اللساني الشهير، نوام تشوسكي ومورريس هالي، قدمني زميل باسمي لأحد زملائه اللسانيين المرموقين ممن لم التق به قط من قبل. وإذ كان هذا الأخير قد سمع، كما يبدو أو قرأ بعض ما كنت قد نشرت عن البنية المقطعية في اللغة الأمازيغية بصفتي ناطقا بالأمازيغية سليقة، فقد أبدى استغرابه على التو قائلا: "عجبا؛ كنت أعتقد أن الأمازيغ من السود نظرا لأني كنت قد شاهدت استطلاعا وثائقيا في التلفزة حول أولئك القوم الرحّل السود"؛ (ب) وخلال دردشة مع زميلة أمريكية أخرى في إحدى فترات الاستراحة بأحد الملتقيات بجامعة أمهارست، سألتني تلك الزميلة، بناء ربما على درجة تحدثي بالإنجليزية، عمّا إذا كنت أمريكي الجنسية فأجبت: "أنا مغربي من "موروكو"؛ هل تعرفين أين يقع؟. تحمّست الزميلة على التو قائلة "جميل؛ بالطبع؛ بل أني جدّ معجبة بمَـلكتـكُم". شرحت لها أن الذي لدينا في المغرب هو ملك، وليس ملِكة بمقتضى الدستور. ألحت قائلة: لا بل أنا متأكدة من أني رأيت ملكتكم وهي رائعة الجمال (...). تأكدنا بعد حين من أن الزميلة لم تسمع قط بـ"مروروكو"، ولا تعرف اين يقع "موروكو" على الخريطة، وأن ما كانت قد شاهدت في مجلة من مجلات النجوم والمشاهير إنما هي أميرة "موناكو"، فاختلط عليها "موروكو" بـ"موناكو".
مدى تمكن تشومسكي من المعلومات المتعلقة بقضية ليست ذات أولوية في أمريكا
لا غرابة إذن في الأمر: إذ الواقع أنه، بمقتضى نطاق المجال الخاص الذي تتمحور حوله التحاليل السياسية لنوام تشومكي (السياسة الأمريكية والأطلسية)، ليس من الجدّ أن يُـفترَض أن هذا الأخير محيط إحاطة، أو ملمّ على الأقل إلماما، بتفاصيل النشوء الجيوسياسي التاريخي لنزاع الصحراء إلى درجة أنه ربما ما يزال يحتفظ في الذهن بالفكرة السياسية السبعينية لليسار المغربي المتمثلة في تاكتيك تحويل مسلسل استكمال استرجاع بقية الأراضي التي تحتلها إسبانيا إلى "بؤرة ثورية" في الجنوب المغربي، في إطار استراتيجية ثورية لإحلال نظام ثوري ماركسي لينيني محل حكم الملك الراحل الحسن الثاني. لقد كانت تلك الفكرة منسجمة مع سياسة اليسار الماركسي الذي كان يراهن على انتفاضات "العمّـال والفلاحين" في "أولاد خليفة"، ومناجم "قطارة" ومناجم "بوكراع" تحت الاحتلال الاسباني، الخ، كما كانت تعكس ذلك نشراته الداخلية وكذا بعض المجلات المقربة مثل مجلة "أنفاس" . كما كانت فكرة البؤرة التورية منسجمة أيضا مع روح الوقت حينئذ على الصعيدين العالمي والإقليمي في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي؛ ولائحة الدول الأولى (ليبيا معمر القذافي، جزائر هواري بومدين، كوبا فيديل كاسترو، جمهورية ألمانيا الديموقراطية، إثيوبيا مانجيستو هايلي ماريام، الخ.) التي ساندت جبهة البوليساريو بعد تأسيسها في منتصف 1973 والتي اعترفت بعد ذلك بـ"الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية" بعد إعلانها انطلاقا من تيندوف سنة 1976 لهي ذاتُ دلالة في ذلك الصدد.
بل إن فكرة "البؤرة الثورية" كخطاطة كانت في الحقيقة أقدم من اليسار الماركسي اللينيني السبعيني في مسيرة التدافعات السياسية الداخلية المغربية لما بعد إعلان الاستقلال عن الحماية الفرنسية سنة 1955. فمباشرة بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من منفى الحماية الفرنسية وبداية تدافع المواقع بين مختلف القوى السياسية لإعادة تشكيل معالم الدولة المغربية الحديثة، أخذت سُبـُـل استرداد بقية الأراضي التي تحتلها إسبانيا في الجنوب تـشكل رهانا سياسيا داخليا في المغرب. فقد انتقل جيش التحرير الوطني من مواقعه بأقصى شمال المغرب بناحية الريف نحو الجنوب لمواصلة الكفاح ضد إسبانيا التي كانت ما تزال تحتل طرفاية (التي استردت سنة 1958) وسيدي إفني (الذي استرد سنة 1969) والساقية الحمراء ووادي الذهب اللذين لم يستردّا إلا ما بين 1976 و1979، فسمي بعد ذلك بـ"جيش التحرير في الجنوب المغربي" ودخل في معارك طاحنة مع التحالف الإسباني الفرنسي (انظر هــنــا)، مع ما تخلل كل ذلك من تطورات وحسابات سياسية داخلية، مع ما ينجم عن تلك الحسابات من علاقات تاكتيكية للأطراف السياسية الداخلية مع نظرائها من ذوي المصالح بالخارج (سياسة "حسن الجوار" من جهة وتعاطفات بعض أطياف المعارضة من جهة ثانية)، وبما أفضى إليه كل ذلك من تطور على مستوى الإرساءات السياسية العامة للدولة المغربية في تلك الفترة بالشكل الذي يعرفه الممارسون والمؤرخون.
وهكذا فإن التاريخ الطويل لمسلسل تحرير التراب الوطني، الذي دُشن في المغرب في بداية الخمسينات من القرن العشرين وإلى غاية 1979، قد ارتبط ارتباطا جدليا بمسلسل إعادة بناء قواعد الدولة المغربية الحديثة في مسيرتها نحو النظام الديموقراطي (انظر التفاصيل هـنــا). فمختلف التعديلات الدستورية التي تخللت ذلك المسلسل، وكذلك الإنجازات التي تمت في مجالات الممارسة السياسية والحقوقية، الفردية والجماعية (الحقوق الثقافية والاجتماعية والأحوال الشخصية)، إضافة إلى التغيير الجذري للأسس والجيوسياسية الدولية، كل ذلك قد جعل من فكرة "البؤرة الثورية" في الجنوب أو الشمال أو الوسط فكرة عفى عليها منطق الدهر. كل هذا هو ما جعل مثلا أحد أهم أوجه امتدادات الفكر المعارض واليساري الستيني والسبعيني بمختلف أطيافه، ألا وهو جمعية "اتحاد كتاب المغرب" يرد اليوم بعنف في بلاغ له، على تصورات وتحليلات تشومسكي الأخيرة بخصوص دلالات تطورات الحياة السياسية بالمغرب بالقياس إلى ما يسمى بـ"الربيع العربي" (صدر البلاغ في 22 يناير 2015؛ انظر هــنــا).
يبدو إذن في النهاية أن تشومسكي قد استُدرِج في هذه القصة نحو أرضية لا يتوفر لها على مصادر المعلومات الواقعية اللازمة له لكي يُـفعّـل من خلال تحليلاته السياسية لها قيمَه الأخلاقية ومبادئه السياسية بشكل موفّق. إنه نقص في المعلومات، وليس نكوصا أخلاقيا ولا خبثا سياسيا.
بعض الجزئيات التفصيلية الدالة حول المرحلة النشوئية لتطورات قضية الصحراء
وفي هذا الصدد الأخير، وباعتباري أحد النشطاء اليساريين السبعينيين الذين تقاطعت تجاربهم بدرجات مختلفة ولفترات متفاوتة مع التطورات السياسية الأولى التي مهدت لاسترداد المغرب للأقاليم الجنوبية من الاحتلال الإسباني، فقد قمت خلال سنوات العقد الأخير (منذ سنة 2004) بنشر سلسلة من المقالات الصحفية كنماذج وعيّنات جزئية عن التطورات السياسية بالمغرب في جيلي، مما له ارتباط مباشر بقضية الصحراء المغربية، التي كانت جميع الخرائط متفقة في السابق على تسميتها بـ"الصحراء الإسبانية" (انظر هــنــا)، قبل أن تستعيص عن ذلك بتسمية "الصحراء الغربية" بعد أن استردها المغرب. كانت كل تلك المقالات باللغة العربية، وهو مما يقلل من أهميّتها الإعلامية، ما عدا آخرها الذي نشرته مؤخرا باللغة الفرنسية (انظر هــنــا). ذلك المقال الأخير يسلط بعض الأضواء على حيثيات أول موقف تنظيمي يُتخذ في اتجاه فكرة "البؤرة الثورية". إنه أول نداء تنظيمي مصوغ من أجل "حق جماهير الصحراء في تقرير المصير". ذلك النداء لم يصدر لا في العيون، ولا في السمارة، ولا في الداخلة، ولا في الكويرة، ولا في أي بقعة أخرى من الأقاليم الجنوبية. لقد صدر، في أفق فكرة "البؤرة الثورية"، عن المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، المنعقد بكلية العلوم بالعاصمة الرباط في منتصف غشت 1972، أي في نفس اليوم الذي تم فيه الانقلاب العسكري الفاشل الثاني، وقبل بضعة أشهر من تسلل بعض المعارضين المغاربة المغامرين المسلحين إلى المغرب عبر الجزائر (أحداث مولاي بوعزة في مارس 1973) قادمين من جمهورية العقيد القدافي الذي كان يريد أن ينجح بعد عشر سنوات في ما فشل فيه "المعلم الأول" جمال عبد الناصر حينما بعث بضبّاطه لتعزيز صفوف الجيش الجزائري في حرب الرمال ضد المغرب في أكتوبر 1963 (انظر هــنــا). كل هذا يعطي فكرة ملموسة عن الظرفية السياسية التي طبعت المرحلة (= سباق بين بعض أطياف المعارضة وبعض جيوب العسكر في المغرب وفي كل مكان من العالم الثالث بمقتضى منطق صراع القطبين لذلك الوقت من جهة، و"سياسة حسن الجوار" الرسمية مع الجزائر والرسمية مع الجزائر وإسبانيا والانخراط في المعسكر الغربي من جهة ثانية). ولقد كانت قضية الصحراء قد أدرجت تقيّة ضمن أعمال "لجنة فلسطين" من بين لجن المؤتمر الطلابي المذكور؛ وكان كاتب هذه السطور هو من حرّر الصياغة التي صادقت عليها اللجنة ورفعتها إلى المؤتمر بخصوص بيان "حق الجماهير الصحراوية في تقرير المصير"، وذلك بصفته رئيسا مقررا لأعمال تلك اللجنة التي كان زميل سابق له بالمعهد الإسلامي بتارودانت، المرحوم الولي مصطفى السيّد، من بين المشاركين فيها. التحق الوالي مباشرة بعد المؤتمر بليبيا، ومنها إلى جمهورية ألمانيا الديموقراطية حيث تلقى تدريبات عسكرية لعدة أشهر استعدادا للإعلان عن تأسيس ذراع "البؤرة الثورية"، أي "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب" (وليس لـ"تحرير الصحراء الغربية") في ماي 1973، وذلك في ما يشبه نوعا من إعادة إحياء الجيل الثاني لـ"جيش التحرير في الجنوب المغربي"، أي بعد تسعة أشهر فقط من تاريخ المؤتمر الطلابي والانقلاب الثاني الفاشل، وبعد شهرين فقط من أحداث مسلحي مولاي بوعزة التي تمت في مارس 1973. وبعد ثلاث سنوات من ذلك (ربيع 1976) تعرّف نفس كاتب هذه السطور، من خلال نشرة من نشرات الأخبار بالتلفزة الجزائرية، على زميل حميم آخر له من زملاء الفصل الدراسي في نفس معهد تارودانت، السيد محمود الليلي وهو من مددينة طانطان، وذلك باعتباره، حسب تلك النشرة، وزيرا أولا لـ"الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية" التي تم الإعلان عنها انطلاقا من مخيمات تيندوف، لكن باسم آخر هذه المرة هو: محمد الأمين ولد أحمد. وما تزال هناك صورة جماعية لذلك الفصل الدراسي المذكور لسنة 1967 بمعية أستاذة اللغة الإنجليزية Miss Cunningham من ضمن عناصر بعثة السلام الأمريكية (American Peace Corps). أما الأمين العام الحالي لجبهة البوليساريو، فقد درس بدوره في كلية الطب بالرباط وعمل كمدرس مساعد بمدرسة النهضة بسلا (اسماعيل العلوي؛ المساء. 11 فبراير 2015؛ ص:24. في ما يتعلق بالإنحدارات الترابية لقادة البوليزاريو، انظر هــنــا).
[[استدراك بعد سنتين من نشر هذا المقال: حول تفاصيل هذه الظروف، هاهي شهادة أحد مؤسسي الجبهة، المحجوب السالك، مستضافا بقناة فرانس-24؛ انقر هـــنــــا)].
لا يعتقد أن نوام تشومسكي قد مكنته مصادره، مما هو متوفر بالإنجليزية، بنصاب أدنى من هذا القبيل من المعطيات. ولذلك قمت قبل أسبوع بتحرير صيغة بالإنجليزية لنفس هذا المقال وأشهرته في مدونة وبعثت إليه وإلى زميله، موريس هالي، وكثير من معارفي الآخرين من المهتمين الأنجلوفونيين برابط نحو تلك الصيغة الإنجليزية (انظر هــنــا).
إنتاج المعرفة العلمية وإنتاج الآراء؛ أية علاقة؟
وفي الختام، وعلى المستوى الإبيستيمولوجي هذه المرة، يبدو أن هذه القصة، الهامشية بالنسبة للإسهام العلمي العام لنوام تشومسكي، تطرح أسئلة فكرية ومعرفية جديّة؛ وهي أسئلة كلاسيكية منذ أن ميّز روني ديكارت، بوضوحه الكارتيزي في "خطاب المنهج"، ما بين العلم والرأي (science vs. opinion). فالجهاز الصوري لنظرية تشومسكي الأصيلة حول النحو الكلي (Universal Grammar) ولتطبيقاتها الوصفية والتفسيرية على اللغات البشرية الطبيعية جهاز صعب التحصيل على الجمهور من عموم الناس؛ غير أنّ (وبسبب أن) مقولات ومبادئ تلك النظرية تمتاز بالصرامة الصورية، وأن فرضياتها الإجرائية والعملية تخضع لمبدإ قابلية الدحض (Refutability) بناء على مِحـكّ معطيات موضوعها الذي هو اللغات البشرية الطبيعية المختلفة، المستـَـقرَأ منها وما لم يستقرأ بعد. وبالمقابل تبدو التحليلات السياسية لنوام تشومسكي، التي لا تقل أصالة، في متناول "فهم" الجميع من "يا أيها الناس"، وقابلة للترجمة إلى أي لغة/ثقافة مهما كان رصيدها من المصطلحات العلمية الصورية المندمجة فعليا في حركية تراكم علمي فعلي (وليس مجرد لوائح مصطنعة). في هذا المجال الأخير (مجال الرأي والتحليل السياسي)، يبقى فكر تشومسكي في متناول مطلق الجمهور، مثله في ذلك مثل كثير من كتاب الرأي، من أمثال إدوارد سعيد، أو بيرنار هنري ليفي، أو طارق رمضان؛ وغيرهم كثير؛ وذلك بسبب انعدام أي صرامة ذهنية منطقية في مقومات الخطاب وفي الانتقال بين قضاياه (بالمفهوم المنطقي لـ"القضية").
ذلك أنه حينما يفترض تشومسكي في مجال الرأي السياسي فرضيةً من قبيل: [إنها البنية 'ب'، وليس البنية 'ج'، هي ما يشكّـل مُنطلقَ الصيرورة التوليدية للبنية 'ص'] (= الربيع العربي إنما انطلق من البنية السياسية المغربية وليس من غيرها)، فإن من شأن أيّ عارف بمنطق كتاباته اللسانية والمعرفية أن يتساءل: ما هي المزية التفسيرية (explanatory adequacy) لهذه الفرضية الوصفية (descriptive hypothesis) بالقياس إلى واقع المعطيات (facts and data) وتطوراتها؟ ما السبيل إلى التحقق من صحة تلك الفرضية على أرض الواقع؟ ما هي توقعات تلك الفرضية (the hypothesis’ predictions) بالنسبة لمستجدات استقراء و/أو تطور المعطيات؟ الخ.
لكن الشي المُفارق في الأمر هو أن هذه اللاتماثلية الفكرية لدى تشومسكي ما بين مجالي الخطاب العلمي وخطاب الرأي تبدو - على الأقل على مستوى السطح - نفعية ومفيدة براغماتيا بالنسبة لجوهر فكر تشومسكي، أي بالنسبة لإسهامه العلمي التثويري في ميدان العلوم اللسانية والمعرفية (linguistic and cognitive sciences). وذلك من حيث إن الشق الثاني المتعلق بخطاب الرأي يُكسب صاحبَ الخطاب العلمي هالة إعلامية ميدياتية لازمة لتكريس الاعتراف بالصفة العلمية لمادة من مواد الإنسانيات هي في طريقها نحو القيام كعلم صوري ذهني له قوة التفسير والتوقّع على مستوى معطيات موضوعه، ألا وهي مادة اللسانيات التوليدية الحديثة التي يتمثل موضوعها في ملـَـكة اللغة البشرية الطبيعية. وفي ما يلي مجرد مثال خاص وجد هامشي على صحة ذلك:
فـقبل أن يَسمع عنه الجمهورُ على نطاق شعبي واسع، على إثر بعض الترجمات العربية لبعض التحليلات السياسية لنوام تشومسكي مع بداية الثمانينات كما ذُكر، ظل علمُ اللسانيات الحديثة، في التصور الضبابي للأوساط الأكاديمية المغربية والناطقة بالعربية على العموم، شيئا مقرونا بالعلوم "الشيطانية" الغربية الإمبريالية، إلى جانب علوم أخرى مثل الإثنوغرافيا والإثنولوجيا والأنثروبولوجيا، وحتى السوسيولوجيا والسيكولوجيا. كان ذلك هو التصور المنسجم حينئذ مع العناصر الأيديولوجية لذلك الوقت في ذلك الفضاء الثقافي الواسع، التي كانت مزيجا من زبد خطابيات القومية العربية، وشذرات من الفكر الماركسي، مُطـَـلاّ عليها سجف ركام من مرويات أدبيات لينين وتروتسكي وروزا لوكسامبورغ، وماو تسي تونغ مُخضَعة لتقاليد منهج السيرة والحديث (أي ما قالوه، وما فعلوه، وما أقرّوه).
لقد كانت اللسانيات الحديثة تُتصوَّر حينئذ في ذلك الفضاء الثقافي كوجه من أوجه أضاليل "الفكر البورجوازي الرجعي" الذي يهدف إلى تعطيل "الفكر النقدي لجدلية المادية التاريخية" سعيا إلى "طمس وعي الصراع الطبقي" بالنسبة للبعض، و/أو إلى تشويه وتخريب صرح موروث نحو اللغة العربية بالنسبة للبعض الآخر.
لكن ما أن انتشرت أفكار تشومسكي حول الأخلاق والسياسة بفضل بعض الترجمات حتى أصبح الجميع يزيّن كتاباته حول اللغة، والخطاب، والنقد، والبلاغة، والحجاج، والتفسير، الخ. بركام من المصطلحات المزيّفة المهرَّبة من قبيل "البنية"، "التركيب"، "التوليد"، "البنية العميقة"، "البنية السطحية"، "التحويل"، "الدلالة"، "السيميائية"، "التداولية"، "الذرائعية"، "الصواتة"، "الصوتيم"، "الفونيم"، "المونيم"، "التطريز"، وبأعشاب من الرموز الجبرية، وبغابات من "البرشمانات" والتشجيرات العنكبوتية والأشكال الهندسية، ويُذيِّـل كلَّ ذلك بزوبعة من الإحالات على مجرّة من اللسانيين وأشباه اللسانيين في الغرب والشرق؛ فأصبح النص اللساني جداول تعجيزية شبيهة بجداول "الدمياطي"، وأصبح اللساني شيخا كبيرا أو متوسطا أو صغيرا يمارس ما يشبه الكهانة (بما في الأمر من اتخاذ بطانة المريدين) إلى درجة أن أطلقت على هذا الوجه المشوه للسانيات الحديثة، وعلى الأخص الوجه المشوه لـللسانيات التوليدية، أوصاف وألقابٌ في الأوساط الأكاديمية من قبيل "لسانيات هُـبَـل" (نسبة إلى الصنم الجاهلي في شبه الجزيرة العربية؛ وهو تعميم لعنوان أحد مؤلفات الأستاذ أحمد العلوي). وتلك على كل حال قصة أخرى، قصة اللسانيات بالمغرب، التي كانت لها ومضة أومَضَت ثم خبا بريقها.
---------------
(1) المدلاوي، محمد (1986) اللغة والمعرفة غير الواعية. دراسات أدبية ولسانية ؛ فاس، المغرب ع4 (1986) ص58-87 (ترجمة للفصل الأخير : 217-254 من كتاب Rules and Representations. Blackwell لتشومسكي 1980)
(2) المدلاوي، محمد (1982) "أيديولوجية الدولة في الولايات المتحدة ، أو العنف الصامت". الثقــــافة الجديــــدة، المحمدية – المغرب؛ ع23 (1982) ص4-35 (ترجمة للفصل الأول من كتاب Language and Responsibility. Pantheon Books لتشومسكي 1979)
(3) المدلاوي، محمد(2000) "انتفاضة الأقصى" (ترجمة عن الإنجليزية لنصّ لنوام تشومسكي Al-Aqsa Intifada. نشر في كل من :الأحداث المغربية 20 /11/ 2000؛ القدس العربي ع: 3588 (22 /11/ 2000).
(4) بلغ تشومسكي من التأثر بمنهج التعليل في وصف وتفسير بنيات وظواهر اللغات البشرية الطبيعية، في إطار تصوره للنحو الكلي، أنه خصص كتابا كاملا لقراءة جديدة لمدرسة "بور روايال" اللغوية القياسية والتعليلية، تحت عنوان Cartesian Linguistics "اللسانيات الكارتيزية".
---------
محمد المدلاوي
(نبذة + أهم المنشورات؛ هــــنــــا)
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres