OrBinah

(En arabe) Souvenirs nostalgiques de l’évolution socio-économique d’un village du Sous

نوسطالجياتُ تحوّلاتٍ سوسيو-اقتصادية لبلدة "إيكًودار"/المنابهة

 

(دوّار "العوينة" و"عين العوينة")

 

 

كانت "العوينة" قرية مزدهرة الحقول والبساتين، في منخفَض بين ربوتين: كُدية مقبرة "لالة العالية حماد"، حيث ترقد جدّتي من أمي، "نّـــا يامنة" زوجة الطالب "سي حْماد بن عبد الواحد يد-بنّاصر السكًتاني" إلى جانب أخي الأصغر "موحمّــ'ـد" الذي توفي في سنّه الثالثة، وكُدية "نادر بن مُاحمّـ'ــد"، الذي كان يُتّخذ كذلك مُصلّىً في العيدين. استمد الدوّار اسمَه من عينٍ ثرّة دائمة الجريان بماء عذب زلال مستخرج حسب نظامِ عيونِ أقبية "الخطّــــارت"، المنتشرة كثيرا في شرق "المنابهة"، متسلسلة إلى "تينزرت" وهي عيون جارية من الشمال نحو الجنوب، وذلك ابتداء من "تاماصت" وانتهاء بـ"يدا-وياكًمّاض" في تينزرت، عبر سلسلة الرُبى الممتدة على محور غرب-شرق ابتداء من "كُدية عزّي" بتفخيم الزاي" شرقا، تلك الرُبى التي تخترقها ثلاثة وديان من روافد واد سوس النابعة من الأطلس الكبير: "واد البرج"، "واد بوسريويل" و"واد المداد".

كان ينبوع "عين العوينة" يسمّى في الوثائق العقارية القديمة "عوينة بُّــيــه بن الفلّاح". وكان أدوم عيون المنطقة جريانا (عيون "تاماصت"، عيون "ايت-يّوب"، عيون "الجرادات"، عيون "تينزرت")؛ إذ لا ينضب بصفة نهائية حتّى في أطول فترات الجفاف مثل جفاف نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن-20. ثم إنه كان من أحسن تلك العيون هندسةً وتهيئة بفضل تهيئة مخرجه على شكل قنطرة متينة واسعة تشكل معبرا فوق أخدود العين بعد انتهاء سلسلة فوهات الخطارات، ممّا كان يمكّن من تسهيل خدمات كثيرة: جلب الماء المنزلي نقيا مستقبَلا مباشرة من الفوهة تحت القنطرة؛ وتلي الفوهة بلاطات من صفوانٍ للتصبين، ثم جابيّة تجمُّع للماء من أجل إيراد عدد كبير من المواشي، من أبقار ودواب القرية (قطعان أبقار أيت عومار، أيت إيحسّانّ، أيت سداعلال، أيت البرّحيلي) وكذا دواب المتسوقين يوم سوق ثلاثاء إيكًودار من العائدين نحو دواوير تينزرت؛ ثم بعد ذلك مصرف على طول حوالي 60 مترا لإيراد قطعان الأغنام من مختلف دواوير الجوار (ماديدة، الجرادات) ويُفضي في النهاية بانصباب ماء العين في صهريج واسع مربع متين وبديع الهندسة قصد تصريفه نحو الحقول. ذلك الصهريج البديع، كنّا، ونحن صبية، نتّـخذه مسبحا خلال الصيف قبل أن نلجأ إلى رواق كهف "أحــــــريق" في عالية الينبوع من أجل القيلولة ضد الهجير في برودة منعشة على مصطبّات مهيّأة على جانبي مجرى ماء الينبوع وأسراب أسماك الترويت تسبح فيه في شفافية على أرضية بيضاء جيرية.

تأسّست على مياه عين العوينة، في سافلتها، رقعة واسعة دائمة الخضرة، متمثلة في عرصات أشجار فواكه من برتقال وليمون وحامض وتفّاح بلدي وإجاص وتين وعنب... (عرصات "ايت سدا علال"، "ايت إيحسّانّ"، "سيدي بنفضيل"، "مولاي عبد العزيز"، "ايت وزناكًـ") وبحائر خُضَر فصلية (خصوصا القثائيات من مختلف أنواع القرع الضخم، والدلّاع والبطيخ البلديين، وأنواع البقول من بصل وجزر ولفت...) في كلّ من "المغدود" و"اكًرور"؛ إضافة إلى حقول الحبوب من شعير وقمح وذرة ومساحات أشجار الزيتون العالي والضخم المعمّر في "امارسّي"، "بن حدايدو"، "جنان بلال"، "الغراس"، وكلّ هذه أسماء أماكن.

وكان فضاء محيط فوهة ينبوع "عين العوينة" يشكل القلب النابض للتواصل الاجتماعي. يقصده ذوو/ذوات الأغراض (إيراد ماشية، تصبين ثياب، جلب الماء...) وكذلك ذوو/ذوات مجرد الفضول وتزجية الوقت والتسلية (لعبة الورق أو الضامة) أو الاستعراض الذاتي و/أو "البركًـكًة" وتبادل النكت واللغو و"أخبار الساعة". وكان يحيط بذلك الفضاء المركزي ثلاثة فضاءات ثانوية لنفس الوظائف التواصلية. ففي الضفة الغربية لمجرى العين، المسمّاة "اكًمّاضانّ" (أي "تلك الضفة" بالأمازيغية) والتي يبدو أنها طارئة التعمير (يبدو من خلال أسماء الأسر أن أغلبها منحدرون من مناطق أمازيغية اللسان)، يوجد فضاء "باب الجامع" بمصطبّتيه على جانبي مدخل المسجد، حيث تتخذ كذلك القرارات الجماعية المتعلقة بالقرية (كنس وحل الينبوع ، تنقية المقبرة من الأشواك، تنظيم حفل غنائي راقص) والذي تشكل باحته في نفس الوقت باحة للحفلات الغنائية الراقصة ("الميزان" "بوجّلود"، "تيعزا") في بعض الأعياد، ثم هناك فضاء "فُـمّ انوض" في ملتقى الأزقة الثالثة.

أما في الضفة الشرقية المسمّاة "اضوّار" والتي يبدو أنها أقدم عمرانا حيث إنها تتوفر بالقرب من مسجدها ذي المعمار العتيق على حمّام عمومي يشتغل طيلة أيام الأسبوع ويقصده المستحمّون نساء ورجال من مختلف الدواوير المجارة (المجرّدين، بوخرصة، امدّرير، الجرادات، أولاد حسّان، ماديدة، دار الشرفا، ويكون الأداء نقدا أو محاصيل: بيض، حبوب)، ففيها فضاء "يمي ن-وكًادير" (أي "باب السور" بالأمازيغية) الذي يتّخذ كذلك أحيانا باحة لرقصة "الميزان" المعروفة في قبيلتي المنابهة وهوّارة.

لا أعرف شيئا عن  تاريخ حفر عين "عوينة بّيــه بن الفلّاح" وتأسيس العمران حولها. كل ما يُحتمل هو هو أن مجموعة "إيكًـودار" ("الحصون" بالأمازيغية) حيث تقع قرية "العوينة"، كانت تشكل نقطة من نقط العبور بين سوس ومراكش عبر فجّ "تيزي نـتادست". فموكب "ركب مولاي ابراهيم بوسالم" يمرّ في عيد المولد صاعدا مع "واد "بوسريويل" ما بين ماديدة والعوينة؛ كما أن قرينة وُجودِ "كًــور" / "كركور" (ركام مخروطي من الحجارة) يسمّي "كركور مولاي احمد الهيبة" بين أشجار الزيتون في المكان المسمّى "الغراس" في حقول قرية "العوينة" قرينةٌ ترجّح أن "العوينة" كانت على الطريق التي سلكها الشيخ أحمد الهيبة في طريقه إلى مراكش عبر حصن "المغافرة" (مَربَى السيدة خناثة بنت بكّار، زوجة السلطان مولاي اسماعيل الشهيرة؛ انظر هــــــنــــــا حول حصن "المغافرة") مرورا بقـَـفْـر/غابة "أوفتوت" ثم "تافينكًولت" في السفح الجنوبي لأطلس الكبير الغربي، التي هي منبع "واد بوسريويل" الأسطوري العنيف، الذي يقال إن الولي "سيدي محند و-بوبكر" (وضريحه مقابل لسوق ثلاثاء إيكًودار) قد دعا على غمر ذلك الواد بقِصر العمر ("سير يا واد بوسريويل، الله يجعلك يلا بـتّ، ما تصبح؛ ويلا ظليت، ما تبات") لأنه كان قد جرف ذات مرة فروة/هيضورة ذلك الوليّ في مُربّعه المعلّـم مَحوطا بالحجارة، حيث كان يقضي يومه ذاكرا متعبّدا.

في بداية السبعينات، وأنا طالب بكلية الآداب بفاس، ثم بعد ذلك بقليل بعد تخرّجي، كنت أقضي عطلة الصيف في بيتنا بـ"دار الشرفا" على بعد 200م غرب العوينة، على الضفة الشرقية لواد بوسريويل الأسطوري الذي كان يمثل أبرز ظاهرة طبيعية تبهر انطباع الطفولة. وكنت أقصد خلال تلك العطل فضاءَ "الفرايشات" بقرية العوينة، المطلّ مباشرة على "عوينة بّـيه بن الفلّاح"، فأفترش على الأرض بساطا أحمله معي لقراءة كتاب من الكتب في ظل شجر الزيتون بالقرب من صهريج "عوينة بُّـيه بن الفلاح". وإذ كنت حينئذ قد قمت بجولة قراءات حرّة في مادة "الاقتصاد" و"الاقتصاد السياسي"، ليبرالِــيّه (Robert Mossé, Raymond Barre, …) وماركسِــيِّه (Ernest Mandel، في ثلاثة أجزاء 10-18 ...)، وذلك على خلفية الأرضية الفكرية التي كانت غالبة في الأوساط الطلابية في الوقت، فكثيرا ما كنت أتأمل في تلك اللحظات المصيرَ المحتمل لقرية "عوينة بُّيه بن الفلّاح" التي عذُبَ ماؤها وطاب هواؤها وفاحت بساتينها، وذلك في ظل التحوّلات السوسيو-اقتصادية المتسارعة في ذلك الوقت. أول ما كان قد صدمني قبل سنين من ذلك، ما تمّ لمّا قام "ايت إحسّانّ" بقطع شجرة "عود الماء" التي كانت تظلل الطريق نحو الينبوع، قبالة دار "ايت الكًمّاضي"، والتي كانت دالية عنب عالقة بها تتدلّى قطوف عناقيدها على الطريق، فكنت أقف منتصبا على ظهر حمار أثناء مروري لإيراد الماشية كي اختلس حبّات عنب، وتحويل خشب تلك الشجرة إلى أغراض خشبية تسويقية (أخشاب تسقيف، دفوف أبواب...)؛ ثم تلا ذلك في الستينات قيام أحد الشرفا بقطع شجرة صفصاف باسقة غيرَ بعيد عنها قبالة "دار ايت سدا علال"، وكان الناس يتخذون من ظلها مجلسا للراحة والملاغاة. تلا ذلك بشكل متسارع، في بداية السبعينات، بداية تحويل غابات شمال القرية (في "الغدران" ثم "أوفتوت")، أي في عالية "عوينة بُّـيه بن الفلاح" إلى مزارع عصرية شاسعة للحوامض والقثائيات، حفرت بها آبار عميقة بمآت الأمتار، بينما متوسط عمق البئر التقليدية في المنطقة كان حينئذ 15 مترا في السنوات العادية. هناك استشعرت - فيما يشبه رؤى مراثي أراميا على المذهب الماركسي - أن بساتين وحقول قرية العوينة وما حواليها ذاهبة إلى زوالٍ، وأن الجيل القادم من أهلها سيتحوّلون من العمل في حقول أهلهم وأسلافهم في إطار الزراعة المعاشية، إلى مجرّد شغّيلة دائمة و/أو موسميّة في المزارع "العصرية" الجديدة، أي ما كان يسمّى حينئذ في أدبيات الاقتصاد الماركسي بـ"البلترة" (prolétarisation).

كان بعض المعارف من الجيل الأكبر يستطيبون الحديث معي من حين لآخر حول بعض القضايا العامة، فيقصدني الواحد منهم بعض الأحيان في فضاء "الفرايشات" لتجاذب الأحاديث، كل حسب اهتمامه؛ وذلك باعتباري في أعينهم "قاري" (الوحيد الذي أتم دراسته في جيله). منهم مثلا "مولاي أحمد بن العربي بوعريب"، الذي لم يكن يفارقه مذياعه المحمول في فترات تجواله في القرية. كان يناقش معي مسائل فلسطين، والروس، والماريكان، وفضيحة "واتركًيت" والرئيسن الأمريكيين نيكسون و فورد... ومنهم كذلك "موحمّاد بن عومار إيحسّانّ" المذكورة عرصتهم. كان هو يهتم بالشؤون السوسيو-اقتصادية للحياة العادية؛ فكنت أفضي إليه بتوقعاتي حول مصير القرية، وذلك في نوع من الممازحة. قلت له مرارا إنه لن تمضي سنوات حتّى تيبس عرصتهم وكذا ما حواليها من عرصات وبساتين وحقول، لأن المضخات الضخمة من ذوات العمق غير المعتاد في عالية ينابيع المنطقة ("الغدران"، "تاكًاديرت"، "أوفتوت") ستنتهي بإنضاب العيون والآبار التقليدية، وأن شباب أهل العوينة سينتهون جميعا تدريجيا إلى العمل كشغيلة في المزارع الجديدة أو كتجّار صغار في الأسواق أو عمّال بناء، وأن كل شيء بعد ذلك سيُعتمد فيه على السوق بدل محاصيل الحقول...

بضغ سنوات، بعد ذلك مع نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وكلّما قمت بزيارة خاطفة، في العطل الصيفية دائما، كان محمد بن عومار لا يكلّ من أن يقول في كل مجلس وبحضوري: [لم أنس قطّ ما كان يقوله "سّي موحمّاد" قبل سنين. كان يقول "كلّشي هاذشّي غادي يــيْـبــس، والشجر غادي يدوز كُـلّه للكانون، والدراري غادي يولّيو خدّاما فالفيرمات؛ والفيرمات هوما اللي غادي يبداو يعطيو للدواور د-الخدّاما ديالهوم الما د-الشريب بالروبيني؛ ويمكن كًاع يبداو يبيعوا الما ديال شي فلاحة صغيرة للّي بقى قابط فالفلاحة دياله القديمة بعدما تيبس عين العوينة...".

في سنة 2016، وبعد حوالي ربع قرن من الانقطاع عن زيارة إيكودار، شاركت في "مهرجان إيكودار"، فاغتنمت الفرصة للقيام بزيارة خاطفة لقرية العوينة. وجدتها تحولت إلى أكوام من مربّعات الإسمنت المرقّع، في محيط أجردَ قاحل كما لو أنه حديث عهدٍ بقصف بالنابالم. وجدت فضاء "الفرايشات" وما كان يسمّى "عوينة بُّـيه بن الفلاح" فضاءً أقرعَ مُغبَـرّ قد محتْ التعريةُ تضاريسَه، بما في ذلك أخدود الينبوع الذي استوى منبسطا، ولم يعد هناك من مَعلَـم لرسوم العين سوى أطلال الصهريج الصامد والنخلةِ الباسقة على حافته (الصورة، مع النخلة في عمقها)، التي سبق لي يوما أن تسلقتها وأنا طفل رغم توفرها على "كسكاس" لكي اقتطع منها "الكًلوبا" ("السعف الطريّ في قلب تاج النخلة") قصد بيعها لصانعات الأطباق السعفية ("الطبكًـ"، "أكًنين"...). أما رواق "أحريق" الذي كان يلاذ إليه من هجير الحرّ فقد ظل قائما وأصابت التعرية شكل مدخله ولم يعد الماء ينساب فيه (الصورة الجماعية لبعض مرتاديه من الأتراب القدامى في مدخله كما أصبح اليوم).

-------------------------------

محمد المدلاوي المنبهي

https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques



27/01/2021
0 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 345 autres membres