(EN ARABE) Mémoire historique, muséograhpie et promotion socio-économique
إنعاش الذاكرة التاريخية
تشييـد ذاتي معنوي واستثمار اقتصاديّ
تقديم لا بد منه من أجل المقارنة
بِعرضٍ تحت عنوان معناه: "ترجمة يوسف ريفلين للقرآن إلى العبرية: ملاحظات حول الشكل والمضمون"، كنتُ قد شاركت في صائفة 1998 بمدينة طليطلة في المؤتمر الرباعيّ-السنوات السادس لـ"الجمعية الأوروبية للدراسات اليهودية"، الذي كان موضوعه ما ترجمته: "الدراسات اليهودية في منعطف نهاية القرن العشرين".
وكان من ضمن الأنشطة الثقافية الموازية لذلك الملتقى جولة موجَّهة، من أجل تعريف المشاركين بمعالم تلك المدينة الصغيرة الشامخة في المكان والزمان، والتي لا تتعدى، مع ذلك، أبعادُها الطوبوغرابية، أبعادَ مدينة مثل شفشاون. خلال كل زيارة إلى عُقر بيت عتيق من البيوت التي أصبحت مزارات سياحية، كان المرشد المرافق يشرح للمشاركين القادمين من كل بقاع العالم (حوالي 300 مشارك، كنت الـ"محمد" الوحيد من بينهم) تفاصيلَ توزيع الفضاء الداخلي للبيت الأندلسي، وتفاصيل دلالات الزخرفة الموشارابية، مشيرا أحيانا، في نوع من الحماس والزهو الاعتزاز، إلى نقوش بعض الأفاريز قائلا: Mira, mira el nombre de Allah ("انظر، انظر اسم الله"). وقد انتقل بنا عبر مآثر متعددة المرجعيات التاريخية الثقافية والملية؛ فهذا مسجد الموحدين، الذي يكاد يكون نسخة من نظير ببلدة تينملّ في جوف الأطلس الكبير؛ ثم هذه "دار الإغريقي"، التي أصبحت متحفا؛ ثم هذه الأزقة والساحات والأسواق، ما تزال تحمل تسمياتها الأندلو-عربية مدوّنةً بالحرف اللاتيني: Calle Alcala ("زنقة القلعة")، Calle Alcazar ("زنقة القصر")، Zoco-dover ("سوق-الدوابر"، والدوابر اسم قدحي معناه الدوابّ)، الخ.
بعض كل ذلك، قد جعلني بعدئذ أخصص لتلك المدينة التي أنسِيَت شركةُ الطيران المغربية اسمَها اليومَ فأصبحت تُكتب لديها على شكل "طوليدو" (نسخا لـ Toledo بالإسبانية) على خريطة شاشات تتبُّع رحلاتها كما تطلق على "مالقة" لفظ "مالاجا" انطلاقا من الصورة الكتابية Malaga، أقول: جعلني ذلك أخصص له فصلا بعنوان "شموخ طليطلة" في كتيّب سابق بعنوان "عن الذاكرة والهوية" (سلسلة شراع؛ ع:64؛ 1999).
أما الذي أعاد إلى الذاكرة كل هذا من جديد، فهو تبادلات إخوانية تمت أخيرا (منتصف ديسمبر 2014) على صفحات بعض المواقع الاجتماعية المهتمة بتاريخ المغرب. فقد بادر بعض الزملاء بنشر صور معلـّـق عليها لبعض المعالم والمآثر المهملة، المرتبطة، هنا وهناك في ربوع المغرب، بشخصيات بارزة في عوالم الأدب والثقافة والسياسة والديلبوماسية والاقتصاد. وقد ورد في ذلك الموقع لحد ما هو مرتبط بالسيدة إيزابيلا، دوقة أورليان (Isabelle, duchesse d’Orléans)، التي أُعلنت سنة 1926 كملكة اعتبارية لفرنسا، والتي عاشت في مدينة العرائش المغربية (انظر هــنــا وهــنــا، وهــنــا) إلى أن توفيت بها سنة 1961 (جِدار حميد بناني). كما ورد فيها ما هو مرتبط بالسيدة مانويلا ميرسيديس (Manuela de las Mercedes)، ابنة رجل الأعمال والقنصل النمساوي-هنغاري الذي عاش ما بين طنجة وتيطوان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تلك الابنة التي أعطت اسمها فيما بعد لماركة السيارات الشهيرة ميرسيديس (جِدار حميد بناني).
معلمة المغافرة الأثرية
غير أن أهم ما ميّز تلك التنـقيـبات التبادلية في حفريات الذاكرة بتلك المواقع هو شريط فيديو تقاسمه معي الباحث الأركيولوجي، عبد الله فيلي مشكورا، فقمت بتعميمه على جداري بالشبكة مع تعليق مفصل عليه. يتعلق الأمر بمعلمة تاريخية عالية الأهمية: أنها معلمة تاريخية تعود إلى عهد السلطان المولى إسماعيل، ولم يبق منها اليومَ سوى منشأة معمارية تحت-أرضية جليلة البناء ومشيدة بالآجر السميك؛ وتتمثل في أروقة مُقــبّــاة بالآجر كذلك وقوامها أساطين عددها 33 تشكل 39قوسا بديعا، ولعلـّها مخزن عولة و/او عتاد (انظر هــنــا) على غرار ما يعرف بـ"إيكًودار" أو "إكًيدار" (جمع "اكادير").(1) تلك المعلمة قد مُسِح جزؤها ما فوق-الأرضي منذ زمن، وأصبح جزءا من فضاء غابوي للرعي والزراعة البورية منذ أجيال في منطقة منسية باالمغرب العميق، أي بلدة "المغافرة" قُرب عَراءِ "أوفتوت" في جماعة إيكودار إلى الشرق من مدينة أولاد برحيل في أقصى شرق المنابهة، وذلك قبل أن تزحف في النهاية على ذلك الفضاء، بما فيه من مقابر تاريخية، وما تحت سطحه من مآثر نفيسة، استغلالياتُ الزراعة الكثيفة التصديرية الفوضوية ابتداء من منتصف الستينات من القرن العشرين.
إنه ما كان يشكل حصنَ الشيخ بكّار بن عبد الله المغافري، أب السيدة المشهورة بالعلم والسياسة، خناثة بنت بكّار المغافري، أشهر زوجات السلطان المولى اسماعيل وأم ابنه المولى عبد الله. تلك الشخصية التي صودر اسمُها الذي هو كل ما تبقى من ذكرها، وصُدّر إلى المركز ليزيّن تسميات بعض المدارس، بينما طـُـمس اسمها وذكرها كليا في ثقافة الذاكرة المحلية (التي ينص الميثاق الوطني، مع ذلك، على نصيبها من برامج التربية)، وذلك إلى درجة أنه حتى حينما يسمع القومُ عَرَضا اسم "المغافرة" أو لقب "المغافري" في نصوص ثقافة المركز، ينصرف ذهنهم توّا إلى آفاق غير معلومة، غيرَ مصدّق بأن يكون الأمر متعلقا بمدشر المغافرة المنسي في عراء أوفتوت.
فعراء "أوفتوت" و"الجبوب" الذي توجد المغافرة في امتدادهما الشرقي، كان عبارة عن مفازة كنا نرعى فيها البقر في نهاية خمسينات القرن العشرين، كمهمة من مهام الصبية المتمدرسين أيام العُطل، وما كنّا حينئذ نعلم لا معاينة ولا استفادة مدرسية أن أبقارنا كانت ترعى في مقابر وفوق مآثر تاريخية تحت-أرضية. كما كان ذلك العراء، من خلال الطريق الذي يخترقه، مفازة ٌ كان يقطعها، أيام العُطل كذلك، متمدرسون آخرون أصبحوا لنا زملاء في بداية الستينات خلال رحلاتهم على متن الدراجات الهوائية ما بين تارودانت وسكورة (300 كلم) لقضاء عطلهم مع ذويهم، ومن بين أولئك، الزميلان الطيب العاطفي ومحمد العمري (انظر محمد العمري. أشواق درعية؛ إفريقيا الشرق 2003؛ ص: 180-181).
تلك هي مفازة "أوفتوت" التي كان المُعلق الصحفي المعروف، الصدّيق معنينو، قد زفّ إلى المغاربة، في أوج حماس "المسيرة الخضراء"، أن "قطار الوحدة" الذي كان سيربط مراكش بالعيون عبر "تيزي نتاست" (/تيزي ن-تادست/)، مرورا بأولاد برحيل، سيمر منها. في تلك الفترة غمرتني الفرحة: فالفضاء الذي كُنا نرعى فيه البقر، ستمر منه السكة الحديدية كما كان يحصل في القرن التاسع عشر بالغرب الأقصى (فار-ويست) بأمريكا بكل ما يرتبط بمرور السكة الحديدية من أسباب الخير. فقلت حينئذ لعلّ القوم قد استجابوا أخير لنداء الثالث المرفوع بين قطبَي من يقولان في الأغنية القديمة: "أنا سلاوي، أنا بطل" و "أنا رباطي ولد الأصول"، وذلك لما صاح ذلك الثالث المرفوع قائلا:
"حبس آعزّنا وارتح بلاّتي؛
اجي-ياوا، نكًول ليك حديتي؛
عنداك-آوا تنساو الجانوب؛
حتّي حنا عندنا ماشاريع؛
من كًليميم لـمُّرّابيع؛
باش نخدمو الشعب المحبوب"] (اسمع هــنــا).
أما اليوم، فقد جعلني هذا الشريط السابق، الدائر وصفه حول معلمة مكان ميلادِ ومَربى "خناثة بنت بكّار"، التي صودر اسمها وصُدّر إلى كل مكان، فقد أكتشفت بأن تلك المرابع التي رعينا فيها البقر، والتي كدنا ذات يوم أن نَـنفَق فيها جماعيا بسبب العطش، كانت تخفي من تحت أقدامنا، وتحت روابع بهمنا روائع معمارية، وعمقا تاريخيا هجرَه التأريخ كما هجرت الدولة حينئذ ذلك المغرب غير النافع.
خلاصة
تساءل البعض من خلال التبادل على المواقع الاجتماعية، المشار إليه أعلاه: لماذا لا يبادر المعنيون، هنا وهناك، إلى نهج سياسية إنعاش ثقافي من قبيل "هنا عاش فلان/فلانة"، "هنا كان يوجد كذا"، وذلك على شكل تهيئة ميدانية مناسبة للمعلمة المعنيّة في محيطها، تهيئة مبنية مضمونا وشكلا على تقصّ تاريخي، ومروّج لها بإيجاز في مطويات مصوّرة تعرّف بذاكرة المكان، على غرار ما هو معمول به في كل الأمم التي لها تاريخ ناطق على المسوى الوطني والجهوي والمحلي، حيث تجد المدينة أو القرية وهي كلها مآثر تدعو الزائر إلى الغوص في ذاكرتها؛ وحتّى حينما تكون المآثر قد اندثرت، تُقام في مكانها أو بالقرب منها نُصب بلوحات رخامية جميلة على شكل "هنا كان كذا"، أو "هنا عاش فلان/فلانة"، مع إعطاء نبدة موجزة عن المقصود، ومع تضمين كل ذلك في المطويات المعرّفة بالمدينة أو القرية باللغات المناسبة. إن في كل ذلك لتشييدا وتثبيتا لمعنويات الهوية، إضافة إلى ما يشكله ذلك من أوجه الإنعاش السياحي والاقتصادي؛ وذلك بدل ترك المآثر تـتربص بأرضياتها مافيا المضاربات العقارية في انتظار تداعيها لكي تقيم في مكانها استغلاليات لزراعة التصدير أو عمارات اسمنتية أو زجاجية للكراء.
--------------------
(1) إذا ما صحّ أن الأمر يتعلق بمخزن (ومنه أصل تسمية نواة الدولة المغربية بــ"المخزن")، فإن مؤسسة "اكًادير" (وجمعه "إيكًودار" أو "إيكًيدار") المعروفة كمؤسسة سوسيو-اقتصادية وسوسيو-ساسية قديمة في الأقاليم الجنوبية والمعتقد حتى أنها تقام دائما في قمم بعض المرتفعات لغايات أمنية في المناطق الجبلية (انظر هــنــا)، قد يكون لها مقابل في المناطق المنبسطة مثل "راس الواد" شرقيَ سوس، يتميّز بإقامته تحت الأرض لنفس الغايات الأمنية. والحقيقة أن الجماعة التي تنتمي إليها المغافرة تسمي "إيكًودار"، ويقابلها على الضفة الجنوبية لواد سوس جماعة أخرى تسمى "إيكًيدار ن-تاتلت"، وبنهما في جماعة تينزرت مدشر يسمّي "تاكًاديرت" (تصغير اكًادير).
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 345 autres membres