(EN ARABE) Lorsque l'opinion profane emprunte sa forme à la science
بذل المجهود لرسم ما بين العلم والرأي من حدود (1*)
محمد المدلاوي المنبهي (أبريل 2001)
(1*) نشرت صيغة أولى لهذا المقال، غير موثقة من حيث إثباتُ المراجع، وتخريجُ الآيات، وإخراجُ الإحالات الحديثة، في يومية "الأحداث المغربية" (27 ماي 2001)؛ ثم أعيد نشر المقال سنة 2007 بموقع "الحوار المتمدن":
التمييز ما بين ثلاث حالات معرفية
كثير من اللغات، ومنها الفرنسية والانجليزية، تميز بشكل واضح وجليّ، ما بين المفاهيم الثلاثة التالية: (ا) الشخص"الجاهل" (ignorant = ignorant)، وهو مفهوم عام يفيد انعدام المعرفة موضوعيا زيادة على حمولته القدحية، (ب) والشخص "الأمي" (illiterate = analphabète) وهو مفهوم محصور ومضبوط يطلق على من لا يتوفر على مهارة تقنيّة هي مهارة القراءة والكتابة، أي مهارة التواصل اللغوي الطبيعي بغير النظام الشفهي-السمعي؛ وذلك بقطع النظر عن مضمون خطاب التواصل (إرسالا وتلقيّا) من حيث كونه إما مضمونا معرفيا أو مجرد كلام عاميّ عاديّ؛ وأخيرا هناك (ج) مفهوم الشخص "العادي" أو العادوي layman = profane))، ويطلق- في سياق الحديث عن علم معيّن - على الشخص غير الملمّ وغير العارف بأوليات ذلك العلم، أي كل من ليس له نصيب فيه نصاب من الدراية بذلك العلم، ولو كان ذلك الشخص عالما في فروع أخرى من المعرفة، كعالم الرياضيات غير العارف مثلا بقضايا الجيولوجيا أو الفيزياء أو طب الأسنان.
أسوق اليوم (أبريل 2001) هذه التمييزات والتحديدات ، التي كثيرا ما شغلني عدم التمييز بينها، وذلك على إثر اللجاجة واللغو اللذين أثيرا مؤخرا (بداية سنة 2001) بالمغرب حول تفاهتين من التفاهات، التي يحفل بها الواقع اليومي لتدافع الناس في كل مكان وزمان، واللتين انشغلت بهما النحبة المثقفة.
واقعتان نموذجيتان لانعدام التمييز بين الحالات المعرفية الثلاث
أولى التفاهتين المذكورتين كلامٌ قيل عنه إنه شعر أسند إلى الشاعرة حكيمة الشاوي؛ وثانيهما أحاجي مسلسل لرسوم كارتونية تسمى "البوكيمون" التي اتضح أنها تزعج الكبارَ في وقارهم وحكمتهم، في الوقت الذي تسلّي وثـثيـر خيال صغار هذا الجيل كما كانت تسلي صغار جيلنا وتثير خيالـَه وتشحذه أحاجي شخصية "مُّـي غويلة"، وأحابيل "الديب والقــنفود" أو"حديدّان ومديدّان"، وكذا عنف وبطش أبطال ما كان يروى في الساحات العمومية في أفنية الجوامع من الغزوات والسير، أولئك الأبطال ("سيف بن ذي يزن"، "عنترة العبسي"، "سيدنا على ورأس الغول"، الخ.) الذين يقطعون مئات الرؤوس بضربة ذات اليمين، ومئات أخرى في ضربة ذات الشمال، ويعلقون ضحاياهم من أجفار أعينهم، وكذلك كما كانت تصطادنا في طريقنا إلى المدرسة حلقاتُ رواة فنون "الزوابع والتوابع" التي تصوّر عالم الأفاعي من ذوات القرنين، وذوات المائة رأس، من خلال مقتبسات منقحة ومزيد فيها من أدبيات "دقائق الأخبار في ذكر الجنة والنار".
فأما الكلام المحمول على أنه شعر فهو قول الشاعرة حكيمة الشاوي على أمواج الإذاعة المغربية احتفالا باليوم العالمي للمرأة (8 مارس 2001) - والعهدة على من سمع ذلك وعمّمه في الصحف والمناشير - ما يلي :
"ملعون يا سيدتي من قال عنك: من ضلع أعوج خرجت" (الأحداث المغربية 22 أبريل 2001 ، ص 6، والتجديد عدد: 160)؛
وأما المسلسل فهو مسلسل فئران، وهوام، وزواحف 'بوكيمون' (Pokemon) ، أو 'أبو قيمون'، ذلك المسلسل الذي اجتاح مؤخرا شاشات العالم؛ تلك الشخصيات الكارتونية المتحركة القزمة، اليابانية الجنسية، التي تقول بعض المناشير الموزعة مؤخرا بأنها أصنام ناطقة أصلا باللغة العبرية، لغة الصهاينة !))، فحق الجهاد من أجل محاربتها دعما للانتفاضة الفلسطينية بعد ذلك الفتح المبين الآخر البعيد الذي هوت من خلاله الأصنام الصخرية الأفغانية البوذية العملاقة تحت ضربات منجنيق التوحيد على يد بعض مهربي الأفيون من "الموحّـدين" الطالبان، وذلك أمام ذهول العالمين وصُمت القيّمين خطابيا على قيم الحضارة، تماما كما كان قد حصل للنخبة حينما دكّ منجنيق أسلاف الطالبان من التتر ايام "هولاكو" و"جونكيزخان" معالمَ حضارة بغداد وخرسان، بعد أن مهّـد لأولئك الأقوام جيلٌ جِهوي محلـي من مدمني حشيـش القاط أو الأفيون ممن سُـمـّـوا بسبب ذلك الإدمان بالحشاشين؛ ومع ذلك يُعمم على الجميع قول البعض إن التاريخ لا يعيد نفسه!
تهافت الفرق والشيع بسبب انعدام الحدود بين العلم والجهل
وأما الظاهرة الجامعة بين تفاهتي ما قيل إنه شعر، وما قيل إنه أصنام صهيونة تسب الربّ، فهي ظاهرة تهافت الفِـرق، والشيع، والطوائف، عليهما وتحويلها إياهما إلى مسائل جوهرية تمس مصير الأمة وكيانها، توزَّع بشأنها المناشير، وتُلقى الخطب في الجوامع، ويُـستغاث بسلطان عاهل البلاد بشأنها؛ فأُصدِرت فتاوىً، وصاحت قبائلُ صحفية، وردّت عليها قبائل أخرى، إلى آخر ما هناك من مظاهر النزوع نحو الفتنة، التي امتدت قلاقلها من نقابات النسب (نقابات بعض الشرفاء، مثل الشرفاء الوداغير بـمدينة فيكيك) إلى النقابات المهنية، كــ"الهيأة الوطنية للعدول"، التي فضلت أن تنصّـب نفسها وصيةً على العقائد، في الوقت الذي تتجرجر فيه المشاكل المهنية لأعضائها أمام المحاكم (أنظر "الاتحاد الاشتراكي"6 ماي 2001)، مرورا بكل من لا يميز بين حدود بداية المسؤوليات وحدود نهاية الصلاحيات.
وإذ أفضل الا أفصّـل القول هُنا في ما جاءت به فتوحات المجاهدين في سبيل الله والتوحيد ضد مملكة الطاغوت، بوكيمون أو "أبو قيمون"، من كشوفات ربانية في ميدان علوم اللغة والأديان والسياسة، كالإدعاء الضمني بوجود قرابة بين اللغتين العبرية واليابانية! والادعاء الضمني بوجود قرابة أيديولوجية ومصلحية بين اليهودية والصهيونية، اللتين قيل إن المسلسل الصبياني يروّج لأفكارهما وتحمل كائناتُه أسماء لغتهما العبرية، وبين أحفاد من خسروا الحرب في محور النازية أي اليابان الذي هو منتج ومسوق تلك الكائنات؛
إذ أفضل ألا أفصّـل القول في كل هذه السُرياليات، فإني أؤجل بذلك تفصيل القول في أمر تلك المناشير التي يوزعها مَن تسللوا إلى عالم النخبة المفكرة على عامة القوم، ويوزعها بعضُ المغفّـلين من المعلمين والمعلمات على صبية المدارس ممن فتنــتهم الشخصيات الكارتونية لمسلسل "أبو قيمون" (أنظر الإتحاد الإشتراكي: 28 أبريل 2001 ص : 11)، معنـّفـيـن بخطابهم ذاك أُسُـسَ الكيان السيكو-اجتماعي للصبية بالإفزاع والتأثيم والرعب والإرهاب الفكري المبكّـر، وهو رعب ستحتفظ به وبردود فعله السيكولوجية الموتورة والمتوترة ذاكرةُ الجيل لا محالة، ليفعل فعله في الكبر محمولا في الذهنية والسيكولوجيا على جوهر الدين والعقيدة والهوية التي صيغت تلك التأثيمات باسم قيمها جميعا (انظر http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106690 )، وذلك كما احتفظت ذاكرة جيل شباب السبعينات بأصداء مناشير قيامية تيئــيسية كانت تفسد عليهم حلم الصبا في نهاية الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي بدعوتها (أي تلك المناشير) للناس للاستعداد لقيام الساعة، وظهور الدجال "بوحمارة"، ورفع القرآن، وحلول الظلام لثلاثة أيام قبل أن يغمر الطوفان الأرض، انطلاقا - كما تدعي تلك المناشير - من "أحاديث نبوية" متعلقة بالقرن الرابع عشر الهجري كموعد لقيام الساعة اعتمادا على علامات جفرية كان "المجدوبون" يهتفون بها في الأسواق والساحات العمومية في أفنية الجوامع، من قبيل قولهم في سجع كهان بالعربية المغربية الدارجة:
شتـــــــــْف هيتـْف * لكبير تلـْف ، وصّغير تلـْف
هادا قرن ربعطاش * لا هْنــــــا ، لا مــــــــــــعاش
لا معا-مْن تـّعاشـْر * ولا معا-مْـــــــن تـّــــباشْــــــر
لمْـرا زوّلـت لـّـتام * ولحمارا دارت لـّـــــجـــــــام
سّـلوكي ولاّ نبـّاح * ولفقيه دار لمضمّا ولاّ شطّاح
شتـــــــــْف هيتـْف * لكبير تلـْف ، وصّغير تلـْف
المعرفة والتهافت في مسألة "خلق المرأة من الضلع"
وبناء على إحجامي ذاك في عدم تفصيل القول في أوجه تلك السرياليات، حرصا على وحدة الموضوع الدائر حول حالات المعرفة، فإن إشاراتي وملاحظاتي ستتركز على ما دار حول ما نسب إلى الشاعرة أمينة الشاوي من سباب ومعايرة تتعلق بقصة "خلق المرأة من ضلع "، في إطار من تقصّي الأصول التناصّية المتشعّبة لما لا يرى فيه البعض بشكل حصري سوى حديثا نبويا كيفما كانت درجة صحة متنه وسنده.
إن أول ما سمعت بقصة "خلق المرأة من الضلع" كان أيام الصبا في حلقة غناء لشاعر شعبي متجول من طائفة "الروايس" الأمازيغيين، بسوق ثلاثاء المنابهة ببلاد سوس. كان الرايس يغني على نغمات ربابه السوسي الوحيد الوتر، والشجي الجرس والاثر، قصة شخصية سماها "سيدنا عقمان"، وهي قصة أدركت الآن أنها ضاربة في القدم، إذ تتداخل فيها عناصر من اليهودية، والمسيحية، والإسلام، في مزيج ثقافة شعبية خارجة عن الزمان والمكان، ومغزاها يتمحور حول تصوير خِـصل عدم الوفاء لدى النساء كما تصورها الثقافة السائدة. ومن الأبيات التي أحتفظ بها من تلك القصيدة والتي صيغ مضمونها في قصائد أخرى من نفس الغرض قوله:
ماخّ ور د اغزديس يكُــنان ا-يگان امود * اوا ن-حوّا، ياف يبليس اسمون يدوم
ومعناه :
"أليس الضلع الأعوج هو الشِتل * الذي انـبـثـقت منه حواء، فوجد إبليس أنيسه إلى الأبد؟"
لقد آمنتُ حينئذ بالقصة وبمغزاها، كما آمنت بمغازي قصص الغزوات والسيَر التي تداخلت بعد ذلك مع زادي المدرسي الأولي في تكامل وتشابك وتناصّ غني ومعقّد، لا يجرؤ على التساؤل بشأنه من تلقى تربية حسنة أساسها الطاعة والتصديق كأصل: تصديق الوالدين، وتصديق الكبار عامة، ومنهم المعلم، والفقيه، والمجدوب، والشاعر الشعبي الحكيم، صاحب ما يسمونه "علم الكرش" (اختلط على بعضهم "الباطن" بـ"البطن" فترجموا "علم الباطن" بـ"علمُ الكرش")؛ ومن تجرأ على كل هؤلاء بالتساؤل فهو "مسخوط ربّي". فبالنسبة لكثير من يا أيها الناس، لعنة الشاعرة (واللعن والسبّ والهجاء هو ما يشترك فيه كثير شعراء هذا القوم مع كثير دُعاته) لعنة شاعرة من الشعراء منصبة على كثير من المجاديب وأصحاب "علم الكرش" من أمثال الشاعر الأمازيغي المشار إليه؛ وتلك لجاجة بين الشعراء والمجاديب، وانتهى الأمر. لكن الأمر لم ينته هذه المرة؛ إذ كانت اللحظةُ لحظة "طاحت الصمعة، علقو الحجّام".
ثم إنه قد عادت قصة "خلق المرأة" عندي بعد نحو ربع قرن من سماعي لها في سوق أسبوعي، لتتقاطع مع بُعد جديد مكتسب من حيز الوعي والتصور لديّ، وذلك على إثر ما قرّرت ذات يوم أن أوسع أفق علمي بالواقع من غير وسطاء من الرواة في ميدان نصوص التنزيل، وذلك بقراءة التوارة في نصها الأصلي.
لقد توجهت، وأنا حينئذ بباريس في النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، إلى "زقاق الوَرد" (Rue des Rosiers) فأديت مبلغ 150 فرنكا فرنسيا بمكتبة 'بيبليوفان' (Bibliophane)، وهو ثمن النسخة العبرانية حينئذ من كتاب 'التناخ' (תנך)، أي التوراة والأنبياء والكتب، فاخذت أقرأه منجما مستعينا بالمعجم. ولمّا وقفت على الآية 21 من الفصل الثاني من سفر التكوين (בראשית) وجدت مايلي :
"(21) وايـيـفـيـل يـهـواه إيـلـوهـيـم تـارديـمـا عـال ها أدام وايــيـشـيـن وايـيـقّـاح أحات مـيـصّـالـعـوتـاو وايـيـسـجـور بـاسـار تـاحـتـيـنا (22) وايـيـبـيـن يـهـوا إيـلـوهـيـم إيـت هـاصيـلاع أشـيـر لاقـاح مـيـن هـاأدام لإيـشـا وايـبـيـئـها إيـل هـاأدام".(*2)
- ومعنى هتين الآيتيــــن: " (21) ثم أوقع الرب، الله، آدمَ في سبات فنام، فانتزع إحدى أضلاعه وكسا مكانها لحما.(22) ثم صوّر الرب، الله، الضلعَ التي انتزع من آدم امرأةً فعرَضَها على آدم". (قارن بمختلف الترجمات، بما فيها الترجمة العربية).
فمَن عسى أن ينصرف إليه مَرجِعُ "لعنة" الشاعرة حكيمة الشاوي في أذهان كل من لهم معرفة بوجود هذه النص الضارب في القدم؟
تقاليد العنعنة الوحيدة البعد كمصدر للمعرفة
إن توالي الوقوف على مظاهر من هذا القبيل مما يسميه الأدباء المعاصرون بـ"التناص" (intertextualité) بين قصيدة أمازيغية يغنيها مغنّ غزواتي (troubadour) سوسي بربابه في حلقة شعبية ملؤها الطرب والخشوع والاعتبار، في سوق أسبوعية من أسواق قبيلة المنابهة من بني معقل بــ"سوس العالمة"، حسب تعبير الحاج المختار السوسي، وبين إصحاحي الفصل الأول من سفر التكوين من جهة أخرى، لـمِن بين الأمور التي رسّخت لدي الشعور بمحدودية باع "معرفةٍ" قائمةٍ على مجرد عنــعنــةٍ وحيدة البُعد، وقوّت عندي الإحساس بزيف أي قناعة، وهشاشة أي شخصية فردية أو جماعية تقوم، على سبيل الحصر، على ذلك النوع من "المعرفة".
ولقد تكرّر لديّ نفس الشعور وأنا أقرأ قصة "داود والعنكبوت" الواردة في الأدبيات الهكَـادية اليهودية؛ ومفادها أن داود رأى يوما ورودا جميلة في رياض أبيه، فقال : רבונו של עולם، מה יפה עולמך ("يارب العالمين، ما أبهى خليـقـتـك!"). ثم ما لبث بعد ذلك أن رأى عنكبوتا بشعة المنظر فقال : רבונו של עולם، למה בראתה את העכביש ("يارب العالمين! [لكن] لمَ خلقت العنكبوت!؟").
ومرّت الأيام؛ لما هم شاوول قائد بني إسرائيل (المسمى "طالوت" في القرآن الكريم)، لسنوات بعد ذلك، بالإيقاع بالنبي الشاب داود، خوفا من انتقال قيادة بني إسرائل إليه بعد ما حقّقه من شعبية إثر قتله في النزال والمبارزة للقائد الفلسطيني القوي حينئذ والمدجج بأثقل السلاح، من درع وخودة ومجن، وذلك بمجرد حجارة مقلاعه باعتباره شابا راعيا، حسب ما جاء في التاناخ، أسر ابن ذلك القائد، جوناتان، الذي كان خليلا حميما صديقا وفيا لداود، الي هذا الأخير بما يخططه أبوه شاوول، ثم نصحه بالفرار والاختباء في مغارة من المغارات بالعراء.
ولما خرج جُند شاوول للبحث عن داود لقتله، لم يتركوا كهفا ولا شعبة إلا مسحوها. ولما وقفوا على مدخل المغارة المعنية وجدوا نسيج عنكبوت مضروبا عليه فانصرفوا، فنجا داود.
ولما رأى داود تلك المعجزة اعتبر في نفسه، فقال، ربطا لتجارب الحاضر بتجارب الماضي: "يارب العالمين، ما من شيء خلقته، إلا ولحكمة خلـقـته!". وبذلك كُـتب لداود – حسب ما ورد في الكتاب المقدس - أن أتم رسالته، وحقق ملكه.
لا شك أن الاطلاع على هذا السيناريو، سيناريو فرار نبيّ من الأنبياء، وتعقّبه من طرف الطغاة، ولجوءه إلى مغارة، وتدخّل العنكبوت (او الحمام)، خصوصا بالشكل الذي حُبِك به ذلك السيناريو سرديا على شكل قصة ذات مغزى حِكـَـمي يجيب عن بعض أسئلة الوجود (أسئلة داود في الروض)، وليس مجرد معجزة خارقة، اطلاع يثير لدى كل من مرّ بقسم الابتدائي الثاني من المدرسة قصةً مشابهة في باب السيَر؛ بل ربما يفسد عليه ذلك ما يحتفظ به من ذكريات انبهار الخيال الطفولي بالخطاطات الجميلة التي تختزل له التاريخ بنفس الشكل الذي يَحبك به مسلسلُ البوكيمون مغامرات حلقاتِه.
المهم في كل هذا هو إن كل مطلع على تراث أدبيات السيرة في التراث الإسلامي سيدرك لامحالة قوة التناص القائم على أساس سيناريو المغارة والعنكبوت أو الحمامتين، وليس المقام مقام تفصيل القول في أوجه هذا التناصّ. صحيح أن الكتب السماوية منظومة متناسخة، وأن اللاحق منها جاء مصدقا لما بين يديه من السابق وناسخا له، كما بين ذلك بالحجة الكلامية، والعلم المتعدد الأبعاد، العالمُ الكبير، السموءل بن يحيى بن عباس المغربي (ت570هـ) في كتابه في المناظرة "بذل المجهود في الرد على الـيهود". إلا أن الأمر بالنسبة للمغارة والعنكبوت يتعلق بتناصّ قائم في أدبيات السيرة النبوية، ليس مع نص العهد القديم، المقنن والمعترف به، من حيث المبدإ، كنص تنزيل من طرف الديانات الإبراهيمية الثلاث (من يهودية ومسيحية وإسلام)، ولكن مع مجرد الأدبيات الهكَـادية أو ما يسمى بمكتوبات الربيين المتأخرة عن مرحلة تدوين العهد القديم، أي أنه تناصّ لبعض روايات السيرة مع ما هو في اليهودية بمثابة روايات الآثار والسير في الإسلام.
صحيح كذلك أن كثيرا من أهل الكتاب كانوا قد دخلوا الإسلام في مرحلة مبكّرة من مراحل تكوّن الفكر الإسلامي، حاملين معهم زادهم المعرفي والثقافي الغني والقوي حينئذ بالقياس إلى زاد من دخل الإسلام من وثـنـيـي الجزيرة، وأن دخولهم الإسلامَ، إذا كان من شأنه أن يغيّر سلوكاتهم فيما يتعلق بفقه العبادات والمعاملات، وفيما يتعلق بأسس تصور العقيدة من الأركان، فإنه ما كان من الممكن أن يخلـّصهم ويقطعَ صلتَهم الذاكرية بزاد جيلهم من ثقافة المتخيَّل والتمثُلات التي كانت تتداخل حينئذ مع الثقافة الإسلامية الناشئة.
مفاهيم النسخ والتناصّ، وتأسيس علم مقارنة الملل
من بين الشروط الأساسية لتنسيب فهم المجموعات لأبعاد فكرها في باب الروحيات والماورائيات، ولجعل ذلك الفكر، بالتالي، مقتدرا على مسايرة حركية التاريخ والمعرفة المعرفة الكونية بدل أن يصطدم بهما على الدوام، هناك شرط تأسيس علم لمقارنة الملل تأسيسا نقديا يستفيد ما راكمته العقل البشري من مناهج التحقيق العلمي والعلوم الإنسانية الحديثة.
غير أن علوم العقيدة، والمعرفة بالصحف الأولى، وعلوم الملل والنحل، من بين كل ما ظهر في ساحة الثقافة الإسلامية، لم تفرز لحدّ الآن منهجا تحقيقيا يحوز مزية التماسك فيما يتعلق بطبيعة وبمعالم هذا القبيل من التداخل والتناص المشار إلي بعض مظاهرهما، منهجا يتضافر فيه علم تاريخ الأفكار وحركيتها، وعلوم تحقيق الكتب المقدسة، وخطوات تواريخ تقنينها وتوقيفها، والتمييز بين المقـنَّـن المُخرَج منها والمجرَّح والمستدرك (appocryphe). فكل ما أفرزه الفكر الإسلامي في هذا الصدد هو موقف قناعي مطلق يصدر عن حكم أولي بديهي، هو من قبيل أحكام علم التحقيق، ألا وهو الحكم بـ"التحريف" - بمفهومه الحرفي- على كل ما هو متداول منذ ظهور الإسلام من مصاحف التوراة والأناجيل، ومع إضافةِ نظريةٍ للمؤامرة يُجملها مفهوم فضفاض هو "الإسرائيليات" يجرّح بمقتضاه كثيرٌ مما "لا يروق" من الأحاديث أو الآثار أو التفاسير في إطار فترة معينة وفرقة معينة.
وبقي متوسط معرفة "المحققين" من الأولين والآخرين بتلك الساحة في هذا الباب لا يتعدى ما لخصه الشيخ محمد بن أحمد بن إياس الحنفي المصري (القرن العاشر الهجري) في ميثولوجيا كتابه المسمى "بدائع الزهور في غرائب الدهور"، الذي ما يزال يُعاد طبعه بآلاف النسخ إلى اليوم كأهم مصدر من مصادر تحقيق الخبر في الملل والنحل.(*3)؛ ولقد بـيـنت هذا بالتفصيل في عرض بملتقى مراكش حول 'اللغات والحضارات الشرقية' الذي نظمته كلية الآداب بالرباط ( 22-25 ماي 1997)، وقد كان عرضا بعنوان" المعرفة بالكتب والصحف الأولى، ما بين الرأي والبينة".
نموذج من "التحقيقات": عودة إلى قصة خلق المرأة
بالرجوع إلى قصة "خلق المرأة من ضلع آدم"، بما يقوم على أساسها من تناصّ غريب ما بين قصيدة "سيدنا عقمان" الأمازيغية للرايس السوسي بألحان ربابه ذات السلم الخماسي (pentatonique) وما بين "سفر التكوين" من الـتوراة العبرانية، المتواترة بالخط المهمل منذ أكثر من ألفي سنة، والموقوف ضبطُها بعد ذلك من حيث نَـقـْطي الإعراب والإعجام منذ قيام الحركة الماصورية في القرنين السابع والثامن الميلاديين، المعاصرة تقريبا لحركة ضبط الخط الكوفي المهمل، بما يعنيه كل ذلك من واقع تناصي نسجتـه القرون والحقب، وتوالي الأجيال، وتبدل الأحوال، وتناسخ الملل والنحل وتداخلها مع الثقافات المحلية في كل مكان، على شكل موروثـات ثقافـيـة متداخلة الطبقات "الجيولوجية"، مثل ذلك الكلام الموروث المتعلق بخلق المرأة والذي تـتـقاطع فيه المعرفة العالمة بالثقافة الشعبية والشعارات الشعبوية، والذي تبرّمت من بعض حمولاته "الذكورية" الشاعرةُ حكيمة الشاوي (الأحداث المغربية ، 30 أبريل 2001) من خلال ردّ فعـلِها الشتمي والسِـبـابي، الذي يرسخ على كل حال ثقافة المرأة التقليدية في حُــلة لغة الألفية الثالثة؛ بالرجوع إلى ذاك الكلام العادي الذي يمكن أن يسمع مقابلـُه بالعربية الدارجة أو بالأمازيغية في كل حلقة أو حمّـام، يقف المرء مشدوها مرتبكا وهو يقرأ في الصفحة السادسة من جريدة الأحداث المغربية ( 22 أبريل 2001) ما يلي في إطار الضجة التي أحدثها البيت الشعري غير الموفق فنيا الوارد في قصيدة الشاعرة المذكورة :
"(...) وهو التفسير الذي لا يؤيده أحمد الريسوني، أستاذ المقاصد الإسلامية بجامعة محمد الخامس ورئيس حركة التوحيد والإصلاح، حيث يرى في تصريح لتوفيق بوعشرين أن الشيء المؤكد هو أن القصيدة اقتبست عباراتٍ من أحاديث نبوية معروفة، فيها الصحيح بلا جدال مثل الحديث [القائل] : ("...")، و[مثل الحديث المروي] عن أبي هريرة أن النبي قال :" المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإنك إن أقمتها كسرتها وإن تركتها تعش بها وفيها عوج"؛ وإسناده صحيح (و) إن لم يرد في الصحيحين".
لا شك في أن مثل هذا الجنوح الآلي إلى حملٍ مقصودٍ لأمور تافهة في حد ذاتها باعتبارها أنها أصبحت زادا أنثروبو-ثقافيا للعامة متعدد المصادر، إحالة مقصودة على المرجعيات الدينية والهوياتية الحساسة بالنسبة للجمهور والسواد، وفق مِحورٍ وحيد من العنعنة أحاديّ البُعد ويدرِج تلك الأمور مباشرة على صعيد الخلافات العقدية الكبرى، هو ما جعل كثيرا من الناس - في مناخ اجتماعي وسياسي يتميز بتقاطب ثـنائي في الشارع وفي الصحافة والمؤسسات قائم اليوم حول ما يرمز إليه الثـامن من مارس من كل سنة في قاموس سيميولوجيا حرب ما سمي بــ"خطة إدماج المرأة في التنمية" بالمغرب (*4) – أقول: هو ما جعل ذلك الجمهور وذلك السواد يصرفون بسهولة قول الشاعرة، غير الموفق أدبيا على كل حال، إلى وجهة مرجعية معينة، ويحملونه محْملاً ما كان ينبغي له نظرا لما أشرنا إلى بعض أوجهه من تناص معقـد، ما كان بوسع جيل المحدّثين من واضعي أسس التحقيق من "ترجيحات المتن والسند" و "تجريحاتها" فكُّ تداخلاته في الماضي، بينما انصرف الجيل الحالي من الخاصة- الذي سخر الله له تكنولوجيا علم التوثيق ومعالجة المعطيات والمعلومات ويسرها له بفضل علوم وتقنيات أمثال كوتمبرغ (Gutemberg) ثم بيل غيط (Bill Gate) – وأحجم عن الاشتغال بالعلم بما هو "علمُ دارية" وليس ومجرد رواية أو خطابة ورأي، مكتفيا ببعض الرواية الانـتـقـائـيـة، لأنه نزّاع ميّال، بحكم تكوينه وثقافته، إلى مجرد إصدار الأحكام المغلظة، فأخذ يبثها اليوم عبر ما وفرت له تلك التقنيات من سبل للنشر والتعميم يتكلف غلاظ القفا من جيل شباب انقطع عنه سندُ العلم بتشغيلها لصالح ذلك الجيل من "الخاصة".
وهكذا، فزيادة على ما حصل من نقل نازلة "خلق المرأة من ضلع" - وماهي بنازلة - إلى منابر الجوامع، يقف المرء صدفة في ركن لتصوير الوثائق بمؤسسته الجامعية، فإذا بطائفة من الطالبات المتفاوتات درجات "السفور" أو "الاحتجاب" ينتظرن الدور للحصول على نسخة من منشور وضع في المكان عنوة رهن الإشارة، ويتم تصوير النسخة منه للعموم بعد دفع الثمن. إنه نداء واستغاثة من نوع "وامعتصماه!"، مرفوع إلى "مولانا أمير المومنين محمد السادس، على يد كل من وزير الأوقاف، ووزير العدل، ووزير الداخلية، تحت إشراف كل من رئيس المجلس العلمي ووالي الولاية" (هكذا).
إنها وثيقة صادرة عن نقابة للشرفاء بظهير تأسيس رقم 257 بتاريخ 1368هـ. لقد أصدرها محرّرها النقيب "المزوار"، ومتولي جمع توفيعاتها المفتوحة للعموم، من المنقبـيـن وغير المنقبـين، بمن فيهم من فئات سائر المواطنين غير الشرفاء، وذلك بفاتح أبريل من سنة 2001، غير مبـال بما يلصقه المغرضون بهذا اليوم من أيام الله (فاتح أبريل) من رمزية تتعلق بالصدق والكذب، خصوصا وأن الوثيقة تدعي أنها صادرة "عن الشرفاء، والأعيان، والفقهاء، والاساتذة، وكل القوى الغيورة على الدين والوطن من ساكنة المغرب الشرقي". تقول الوثيقة، من بين ما تقول، باسم الاساتذة، و ... كل الغيورين، مخاطبة عاهل البلاد:
"لقد اهتزت مشاعر المواطنين المؤمنين من رعاياكم وهم يستمعون على أمواج الإذاعة الوطنية لشعر نظمته المسماة حكيمة الشاوي بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، يوم 8 مارس، وضمنته لعنا صريحا لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألبست بذلك لنفسها عار الكفر والردة...". (راجع تصريجا بالتكفير بهذا الصدد في الموقع الآتي:
http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106690)
إن السياق إذن ليؤكد ما كان يغلب على الظن – مع أن بعض الظن إثم - من أن هذه الهرولة الـفاقدة للصواب ليس فقط فيما يتعلق بجوهر موضوع المنشور المذكور ولكن حتى في شكل صياغته كذلك من حيث بديهياتُ حقِّ النطق باسم الآخرين من هيئات أو فئات، وهذا الجنوح الاستعجالي لحمل كلام - هو إلى اللغو أقرب - محمل الأمر الجلل الذي يـُستنفر له جلالُ المُلك وهيبةُ السلطان، ولصرف ذلك الكلام في الأذهان، وبمقتضى الأحكام المرجعية المؤطرة للخطاب، إلى ما يوجب التكفير على طريقة أيام تـُـهَـم الزندقة - وهي الوجه القديم لتهمة "كل ما من شأنه"، وإلى ما يرجى من وراء ترسيخه فيها من استعداء مباشر لسواد العامة على من يتم تكفيره، إنما هي هرولةٌ مردُّها إلى حُـمّى المناخ السياسي-الاجتماعي الذي تقاطبَ مؤخرا (2000-2001) حول موضوع "مهارشة الذكر والأنثى" المدعوة رسميا بمسألـة "خطة إدماج المرأة في التنمية"، والتي ضَبطت إيـقاعـاتِـها رقصاتُ مسيرة مدينة الرباط الحداثية، وجدباتُ مسيرة البيضاء الإسلامية، في ظل واقع شلت فيه مبادرات أغلبية النخبة السياسية وعجزت فيه النخبة الفكرية من القبائل "التقليدية" و"الحدايثة"، على السواء، عن التأثير في ساحة الذهنيات من خلال إفراز "معرفة عالمة"، وفرز لتلك االمعرفة فرزا منهجيا عن "الموروث الثقافي" الشعبي للجمهور، الذي يتسلل فيروسيا إلى قوالب العِلم ليملأها، وإلى الخطاب العلمي ليتلفّع به.
--------------
القسم الثاني والأخير عبر الرابط الآتي:
https://orbinah.blog4ever.com/en-arabe-2-lorsque-l-opinion-profane-emprunte-sa-forme-a-la-science-2
-----------------------------
(*2) (21) וַיַּפֵּל יְהוָה אֱלֹהִים תַּרְדֵּמָה עַל-הָאָדָם, וַיִּישָׁן; וַיִּקַּח אַחַת מִצַּלְעֹתָיו, וַיִּסְגֹּר בָּשָׂר, תַּחְתֶּנָּה. (22) וַיִּבֶן יְהוָה אֱלֹהִים אֶת-הַצֵּלָע אֲשֶׁר-לָקַח מִן-הָאָדָם, לְאִשָּׁה; וַיְבִאֶהָ, אֶל-הָאָדָם.
(*3) آخر طبعة أعرفها هي: "بدائع الزهور في وقائع الدهور". تأليف العالم الشيخ أحمد بن محمد بن أياس الحنفي. دار الرشاد الحديثة. الدار البيضاء. المغرب. 2003
(*4) مشروع "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" مشروع كان قد تقدم به السيد سيعد السعدي، كاتب الدولة في الحماية الاجتماعية والأسرة والطفولة في حكومة "التناوب" الأولى برئاسة عبد الرحمان اليوسفي وكانت تهدف إلى مراجعة "مدونة الأحوال الشخصية" فحصل بشأنها تقاطب بين المحافظين وفي مقدمتهم حركات الإسلام السياسي التي أعطت لذلك التقاطب السوسيو-سياسي طابعا دينيا (أو ما سمي بــ "a war between believers and apostates."، حسب تعبير مقالة حول المسألة في الصفحة بموقع "الحوار المتمدن؛ 18 يونيو 2007":
http://www.rezgar.com/eng/show.art.asp?aid=387)
فقد ورد مثلا في افتتاحية جريدة "التجديد" المغربية، عدد 51 بتاريخ 12 يناير 2000 ما يلي :
(( وستكتشف بعد القراءة المتأنية أن مناط الخلاف مع واضعي الخطة والمتعصبين لها ليس هو التنمية ولا إدماج المرأة في التنمية ، وأن القضية أكبر من هؤلاء ، إذ تتعلق بمواجهة مؤامرة على الأسرة المسلمة تقف وراءها قوى دولية هي التي زرعت الكيان الصهيوني في فلسطين .. وستكتشف أن الأمر لا يعدو أن يكون بالنسبة لفئة من بني جلدتنا خضوعا لدورة جديدة من دورات الاستعمار .. وستكتشف أن المستهدف هو هدم أحكام الشريعة الإسلامية وتقويض الأركان التي تقوم عليها الأسرة المسلمة .. وسيأخذك العجب العجاب ويذهب بك إلى أقصى حد الاستغراب ، حينما ستكتشف أن الذي يقوم على تنفيذ هذه الخطة الاستعمارية المسندة أمريكيا وصهيونيا ليس هو اليمين الليبرالي ( الرجعي ) ، كما عودنا خطاب أيام الحرب الباردة ، وإنما هو اليسار الاشتراكي التقدمي ، وجمعياته وشبكاته وجبهاته )). نقلا عن سعيد الكحل؛ "الحوار المتمدن" (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106226)
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 345 autres membres