(EN ARABE) 2-Lorsque l'opinion profane emprunte sa forme à la science-2
بذل المجهود لرسم ما بين العلم والرأي من حدود
محمد المدلاوي المنبهي
(أبريل 2001)
القسم الأول عبر الرابط الآتي
https://orbinah.blog4ever.com/en-arabe-lorsque-l-opinion-profane-emprunte-sa-forme-a-la-science
تسرّب الفكر العاميّ إلى قوالب العلم، كما تتلفّع الجاهلية برداء الدين
أذكر بصدد ظاهرة تسرّب الفولكلور العامّي إلى أطر الثقافة العالِمة (لغةً ومنابر) سلسلةً من المقالات القيّمة، لكن اليتيمة، كان قد نشرها الاستاذ محمد يتيم منجّـمةَ على أعمدة جريدة "التجديد" (نوفمبر-ديسمبر1999) قبل أن يعيد نشرها مجتمعة سنةً بعد ذلك (ديسمبر 2000) في العدد 21 من سلسلة "كتاب الجيب" من "منشورات الزمن" تحت عنوان "الحركة الإسلامية بين الثقافي والسياسي"، وقبل أن تُـغمرَ أفكار تلك المقالات وتـتـيتّـم وتـُحجب روحُها في غمرة التدافع السياسوي الذي انخرط فيه محررها وصحبه فيما بعد، وينعدمَ تفعيلـُـها في التعامل مع الواقع السلوكي الملموس، الذي أصبح وقد استبدّ به نفس ذلك القبيل من الخطاب الذي سوقـته الشاعرة الشاوي، أي عبارات السبّ والشتم ولو في حق غريم غير مسمى (ولقد سبق أن قيل أن كثيرا من أهل الشعر يشتركون في الجنوح إلى التجريح مع كثير من أهل الدعوة في هذه الثقافة)! وليسمح لي الأستاذ يتيم بأن أورد مسالك من أقـوالـه، ولعلي كنت قد راسلته في ذلك الحين في هذا الشأن فلم يجب لا بأحسن من التحيّة ولا بمثلها. يقول:
"لا تزال استجابة النخبة لكثير من المواقف تتشابه في كثير من الخطوط مع استجابة الرجل العادي ورجل الشارع البسيط" ("الحركة الإسلامية..." ص5). "كما أن ظواهر مثل الاختلاف والانقسام والتجزئة وسلوك الإقصاء ومصادرة حق الآخر في التعبير والوجود...إلخ، تخترق الجسد العربي والإسلامي ومكوناته بمختلف أسمائها ومسمياتها بغض النظر عن انتماءاتها السياسية والايديولوجية. ويكمن الفرق أحيانا في (...) [مفردات قاموس] خطاب الإقصاء؛ إذ قد يكون اتهاما بـ "الرجعية" أو "الظلامية"؛ كما قد يكون اتهاما بـ "الزندقة" و"الكفر" (نفس المرجع).
- ويقول الكاتب في مكان آخر:
"فالمتأمل في الأمثلة السابقة يلاحظ أن عالم الافكار والمعرفة الذي تمثله اليوم النخبة المتعلمة، ما فتئ يتأثر بالمواقف والأحاسيس والمسبقات الجماعية والرواسب التاريخية، أي أنه لم ينجح بعد في إعادة صياغة الثقافة" (نفس المرجع،ص 10). "فإذا أخذنا مجال التفسير نجد أن بعض التفاسير القديمة ذهبت إلى أن قوله تعالى مثلا (وليس الذكر كالأنثى) تقريرٌ لأفضلية الذكر على الأنثى (...). ومعلوم أن قراءة النص الديني بتلك الطريقة لم يكن سوى تعبير عن انتفاضة "ثـقافة" لم تكن تعير المرأة اعتبارا" (التجديد 24 نوفمبر 1999).
ضرورة بذل المجهود لفرز الحدود ما بين الرأي والعلم
إن كل هذا يعود بنا إلى ما استهللت به هذا المقال من "ضرورة فرز المفاهيم" وترسيخ الغائب منها، لفظا وغاية، أي الفرز المنهجي مثلا ما بين مفهوم الفكر العادوي (opinion profane)، المقابل لمفهوم "الأمية" من جهة، باعتبار هذا الأخير مجرد عدم اكتساب مهارةٍ معينة من المهارات التقنية، هي مهارة القراءة والكتابة (على غرار مهارة السياقة أو تشغيل الحاسوب مثلا)، والمقابل من جهة ثانية لمفهوم "الـتـفـقه والعالـِمية" في ميدان محصور من الميادين، باعتبار التفقه يعني الاقتدار على الإحاطة الموضوعية، وغير العاطفية، بجوهر وعوارض موضوع معين، في الطبيعيات، أو البرهانيات، أو الانسانيات، أو الشرعيات، وذلك عن طريق بذل الجهد، والمراجعة، والمسائلة الدائمة، المنفتحة على التعديلات النسبية للأحكام، على ضوء اتساع إحاطة الاستقراء بالمعطيات، أي أنه يتعين "بذل المجهود لإعادة رسم ما بين العلم والعامية من حدود".
ذلك أن تفاهتي حشرات سلسلة "ابو قيمون"، ونازلة "خلق المرأة من ضلع آدم"، قد بينتا، بشكل كاريكاتوري وسخيف، إلى أي مدى استشرى واستفحل تداخل الفكر العامّي العادَوي، ضمن ما هو مروّج ومسوق حاليا، بما هو محسوب على التفكير العلمي، في مناخ من الكسل و من ثقافة التبرير الجبرية، "التي تعلـق دائما أخطاء الذات وسلبياتها وعجزها على معطياتٍ هي خارج الإنسان، فتُؤله بذلك حتميات اجتماعية، أو الاقتصادية، أو طبيعية، أو قوى دولية" (محمد يتيم ، "التجديد" 5 أبريل 2000). وفي مقدمة هذه القوى الدولية التي تمّ تأليهها كما يؤله العامّة قوة الشيطان، ينتصب ذلك الصنم الجديد الذي آمن به، على سبيل الشرك والإشراك في صفات القدرة المطلقة (omnipotence) والعلم المطلق (omniscience) والوجود المطلق (omniprésence) كلُّ من يعتبر هذا الصنم موجودا في كل محفل ومكان، لا نهائيَ العلم والقدرة، ويجري من الفرد ومن الجماعة مجرى الدم، ويـطّـلع على محاضر التجمعات وسرائر الافئدة - سبحانه تعالى عما يصفون، إذ ليس كمثله شيء لا من الانس ولا من الجانّ!- ألا وهو صنم الصهيونية، الذي ضبطه أصحاب الرقى والتعاويذ من الدعاة وخطباء المدرجات المنابر والأسواق والفضائيات والأقراص المدمجة يتسلل متنكرا في صور فئران وأرانب "بوكيمون" ليلقن أبناءنا، عبر لغة شيطانية هي مزيج من العبرانية واليابانية!) ) عبارات من قبيل "أنا يهودي"، "إن الله ضعيف"، "كن يهوديا"، "أمنيتي أن أكون يهوديا"، "إن الله بخيل" ، "إن الله غبي" ("الإتحاد الإشتراكي" 21 أبريل 2001).
وإذ تقول القاعدة السيميوطيقية الفقهية بأن "حاكي الكفر ليس بكافر"، فإنه لا يسع المرء إلا أن يتساءل، بجدّ، وبكل صفاء ومجرد فضول معرفي، عما عسى أن يكون عليه ضميرُ من "صاغ" هذه العبارات التجذيفية من السفهاء صياغة أولى مهما كانت نيته، تلك العبارات التي لا يُـتصور سبٌّ أو شتم أوغلُ منها في الجاهلية الجهلاء، وفي الإلحاد الشعبوي الذي يصبح معه إلحاد الفيلسوف الألماني "نيـتــشه" تصوّفا. أم أن المنشور الذي يحمل هذه العبارات والذي وقـِّع باسم "أخ في الله ناصح يرجو منكم الدعاء له" إنما هو من منشورات الصهيونية المدسوسة والرامية إلى تشوية الفكر والعقلية الإسلامية؟. إنه ما كان قد سماه السيد محمد يتيم "التفسير الـتآمري لأحداث التاريخ. فالإخفاقات تفــسر بمكر الصهيونية العالمية، والامبريالية الأمريكية، والصليبية العالمية وهلم جرا" ( محمد يتم؛ "التجديد" 5 أبريل 2000). ألا إنه يتعين "بذل المجهود لإعادة رسم ما بين العلم والدجل من حدود".
ولعل ما سهل وعمق التداخل والتلابس ما بين دجل الفكر العامي والعادوي من جهة، وبين قوالب الفكر العلمي من جهة ثانية، الأمورَ التالية، أسوقها على سبيل الظن والتخمين ورأيي الشخصي العادوي في هذه النقطة بالضبط، باعتباري غير مختص؛ وذلك كمجرد استفزازا لعلمائنا في الأنثـربولوجيا، والاجتماع، ومختلف معارف العلم بالواقع، الذين ما زلنا ننتظر أن نقرأ لهم في هذا الميدان السوسيو-معرفي، لا في ميدان طقوس الدفن، أو رمزيات طعام العزاء في المجتمعات ما-قبل-الصناعية مثلا، فأقول ما يلي:
إنه ليخيل للمرء بأن الثقافة العادوية العامية كانت لها في الأجيال السابقة فضاءات خاصة أهمها الحلقة العمومية، في الساحات والأسواق، كتلك الحلقة التي سمعت فيها لأول مرة قصة خلق المرأة من الضلع من خلال قصيدة "سيدنا عقمان" الأمازيغية؛ وقد كانت تلك الفضاءات مؤسسات اجتماعية وظيفية كانت تقوم بتصريف قيم وخطابات معيّنة، كانت لها حواملها الخاصة بها، هي الأدوات الشفهية، من عربية دراجة، وأمازيعية، وما أنتجتا من موروث على صيغة مرددات وأمثال، وغزوات، وجفريات، ورباعيات، وسير وأزليات...الخ.
وإذ توسّع استعمال مهارتي الكتابة والقراءة من جهة، والتحكم في مظهر من مظاهر العربية الفصحى من جهة أخرى، تلك اللغة التي كانت أداة المعرفة العالمة وحاملها بشكل أكسبها هالة خاصة تضفي من بريقها على كل ما صيغ وِفق غريب قاموسها ومرهفِ قواعد إعرابها؛
وإذ ضاق كل من الفضاء العمومي والزمن الاجتماعي إلى درجة اختفت معها ساحات مؤسسة "الحلقة" من دون أن تتأسس مؤسسات ثقافية بديلة، فاعلة ومؤطرة، من مسرح وأوبيرا، ونوادٍ ومقاه أدبية وغيرها، فإن المضامين والوظائف السوسيو-ثقافية التي كانت تقوم بتصريفها مؤسسة "الحلقة" قد تسربت، كما كانت عليه وبدون تهذيب، إلى فضاءات أخرى كـالكتاب والكُــتّـاب، والجريدة، والجامع، والجامعة، وذلك في حُـلّـة تحوز أبهة القلم وهيبة اللغة الفصحى، على أعمدة الصحيفة، و مدارج المدرج، و من على المنبر؛ بدل مشهد افتراش الارض الغبراء بجوار العشابين والبهلوانيين ومروّضي الثعابين.
التمشيخ "المخزني" واختزال الأحكام في الواجب والحرام
إن هذه المشروعية المزيفة التي انتحلت لباسَها الثقافةُ العاميّة والعادوية، فاقتحمت بها متنكرة محافلَ العلم، هو ما حوّل ما كان تفكيرا شعبيا له سماته الشكلية التي كان يعرف بها وينماز، وله وظائفه السوسيو-ثقافية التوازنية والوسيطة، إلى عُملة مزيّفة تمكّن قوّتها الإبرائيةُ المزيفةُ الدجالين من العامة الذين يحسنون القراءة والكتابة، من الخوض خوضا شعبويا فِتنـيا في أمور الدين والدنيا بغير علم، فيفـتون في البيداغوجيا، والدراما، والبيولوجيا، والاقتصاد، وعلم اللغة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، وفي الملل والنحل، والعقائد، والمقاصد، والأحكام، ... إلخ، مع ميل مخزني - كما جبلت على ذلك العامّة في كل زمان - إلى اختزال أحكام الشرائع الخمسة الممكنة عقليا (بحدّها الأصلي وهو "المباح"، وحدّها الأقصى الموجَب وهو "الواجب"، وحدّها الأقصى السالب وهو "الحرام" أو "الممنوع"، وحدها الأوسط الموجَب وهو "المندوب" أو "المستحب"، وحدّها الأوسط السالب وهو "المكروه") إلى مجرد حدين ثنائيين مانَويين، هما "الواجب"، الذي يـُـعاقـب على تركه، و"الحرام"، الذي يـُعاقــَب على فعله، لاغين بذلك كل المسافة العريضة التي تركتها نظرية أحكام الشرع لتدبير عالـَم أخلاق المدينة من نظم سلطانية، وتقنيات تربوية، وبيداغوجية، وتنظيمات اجتماعية مدنية ومهنية، وفنون هندامية وإبداعية ...إلخ؛ وهي المسافة الممتدة ما بين المندوب المستحب، الذي يـُـتاب على فعله ولا يعاقب على تركه، والمباح (والأصل في الأمور الإباحة) الذي لا يُـتاب ولا يعاقأَب لا على فعله ولا على تركه، والمكروه الذي يتاب على تركه - والأعمال بالنيات-، ولا يعاقب على فعله.
إن الجنوح الواعي أو غير الواعي إلى الاستثمار المخزني لصفة "التمشيخ" بالشكل الذي صوره "ابن المؤقت" في "الرحلة المراكشية" لدى شيوخ الزوايا في عصره، هو الذي يدفع إلى سيادة فكرٍ شرعيٍ أرضيته ثقافة "مخزنية" قوامها ثنائية الأمر والنهي، وتـُـلغَى فيه مسافة اليسر الممتدة ما بين المكروه والمندوب، مرورا بعالم المباح الذي هو الأصل في الأمور، إذ الأصل في الأمور الإباحة كما تقول أصول الفقه. إنه الفكر المزدكي المانوي، لكن بتبسيط بغير علم. والمقصود هنا بـ"العلم" - حينما يتعلق الأمر بنوازل من قبيل تلك التي عجلت بتحبير هذا المقال، ليس هو فقط علوم الشرع المقصودة لذاتها من حيث هي "علوم رواية وعلوم ودراية"، ولا فقط ما يرتبط بتلك العلوم من حيث توقُّفُ تحصيلِها عليه، أو ما كان يسمى بــ"علوم آلة" (من لغة، ومنطق، وأصول،)، بل المقصود كذلك، وبالخصوص، ما يسميه السيد محمد يتيم بــ"العلم بالواقع"، وذلك إذ يقول :
"فالاجتهاد ليس فقط عملية تطويع تعسفي للنص و لعُنقه حتى يتماشى مع الأمر الواقع، ولكنه عملية استكناه لأبعادٍ ما كانت لتتكشـف في عصور سابقة، ولذلك احتاج الإجتهاد إلى عنصر ثان يضاف إلى علوم الشريعة، وهو علم الواقع بابعاده المختلفة، طبيعية كانت أن إنسانية اجتماعية..." (يتيم؛ التجديد 1/12/1999).
رسالة الاستخلاف ونموذج الغياب عن أوديسا "لفائف البحر الميت"
ومن بين مظاهر العلم بالواقع، من حيث إن التاريخ عامّة، وكذلك تاريخ الأفكار خاصة، جزء من معطيات الواقع، هناك مثلا العلم بوجود قصة "المغارة والعنكبوت" في الأدبيات الهاكَـادية اليهودية، وكذلك العلم بوجود قصة "خلق المرأة من ضلع آدم" في التاناخ أو العهد القديم، وذلك قبل الشروع في التفسيرات والتأويلات، وقبل الإسراع إلى صرف الكلام وحمله على ما يُستعدى من وراءه إصدارُ الأحكام المغلظة بالكفر والزندقة و"كل ما من شأنه أن ...".
إن كثيرا من الأوجه الممكنة لهذا "العلم بالواقع" قد غيبته عجرفةٌ من بقايا ثقافة الجاهلية على مستوى أمة بكاملها - وهي الأمة التي تؤمن مع ذلك، برسالة "التكريم" و"الاستخلاف" و"الوسطية" و"ختم الرسالات" - وذلك حينما أخلـّت هذه الثقافة، على سبيل المثال مرة أخرى، إخلالا تاريخيا، بفرض، هو فرض كفاية على الأقل، من العيار التاريخي، حينما لمعت تلك الأمة بغيابها، وتقاعست عن انتداب الخبراء المحققين للمشاركة في تحقيق ودراسة مخطوطات "لـفائـف البحر الميت" (Dead Sea Scrolls)، التي تطرح اشكالات جوهرية بالنسبة لمدى تاريخانية الناسخ والمنسوخ ما بين المسيحية واليهودية، والتي لم تساهم فيها أمة ختم الرسالات إلا من خلال ما قام به بعض الرعاة الذين عثروا صدفة على جرّات اللـفـائـف الأولى أثناء بحثهم عن شياههم الضالة في بعض المغارات بفلسطين، أو من خلال ما قام في كامل الجهة بعد ذلك من شبكات مافيا المهربين الذين اتجروا بعد ذلك في تهريب ما يتم العثور عليه من تلك اللفايف، يشترون بها ثمنا قليلا خلال الاربعينات من القرن العشرين لدى "شياطين الغرب المادّيين" من ألمان وفرنسيين وانجليز وأمريكان ورواد مستوطني الحركة الصهيونية.
وتحضرني بهذا الصدد قصة "حسن ظاظا" مع اللغة العبرانية في بداية الاربعينات، كما رواها بنفسه في العدد 244 (فبراير مارس 1997) من مجلة الفيصل السعودية؛ وهي قصة ذات دلالة، انطلقت من رسالة الماجستير التي ناقشها ظاظا في الجامعة العبرية بالقدس بتقدير "ممتاز" كما يقول، وذلك حول "أثر الفكر الإسلامي في الفكر العبري في إسبانيا الإسلامية". ومما جاء في القصة ما يلي :
"... وكان من المفترض أن أكمل دراستي في الجامعة العبرية؛ ولكن حدث أن عدت إلى مصر في إجازة بعد حصولي على الماجستير بعد أن سجلت موضوع رسالة الدكتوراه، فأخبرني وزير المعارف الاستاذ عبد الرزاق السنهوري باشا، وكان مستشار الصياغة لميثاق جامعة الدول العربية، أن استمراري في الجامعة العبرية قد يمثل اعترافا بوجود علمي وأكاديمي لإسرائيل في فلسطين وهو ما يتعارض مع توصيات جامعة الدول العربية التي لم يكن قد صيغ ميثاقها بعد، وخيرني بين إكمال دراستي في مصر أو الانتظار حتى تنتهي الحرب لأسافر في بعثة إلى الخارج، ففضلت الانتظار حتى جاء التحاقي بالسربون...".
إن مختبرات الفيلولوجيا والتحقيق بتلك الجامعة العبرية (التي أسّست لعشرين سنة قبل قيام دولة إسرائيل والتي كانت من الدعائم الجدية الأولى لذلك القيام) هي التي كوّنت، لسينين أخرى بعد ذلك الموقف النضالي المشهود للجامعة العربية، أطر الخبراء الذين مكنوا إسرائيل فيما بعد من المساهمة الفعالة في فريق التحقيق الدولي، ومن توجيه مسار ما آلت إليه لـفـائـف البحر الميت بعد ذلك في إطار صراع علمي ما يزال قائما إلى اليوم بين خبراء ومحققي أطراف لاهوتية متعددة أبرزها الفاتيكان والمؤسسات الربّية الإسرائيلية،(*5) وفي غياب كلي للاطراف التي لم تنتدب عنها خبراء، إما لأنها لا تتوفر عليهم و/إو لانشغال مؤسستها "التكوينية" بتكوين مصدّري الأحكام الفضائيين ومتعقّـبي أوجه المآمرات، الحقيقية والوهمية، انشغالا تاريخيا عن العمل على تطوير العلم بالواقع، وإما لأن تلك الأطراف غير معنية، على مستوى الوعي، بمهمة الاستخلاف، أو غير مدركة لمفهومه وكـنهه عمليا من حيث أنه يعني من بين ما يعني المشاركة الفعالة في توجيه الفكر الكوني، وإما بسبب اجتماع هذه النقائص كلها.
أما اللفائـف، وما تبقى منها بعد التهريب الذي لحقها تحت وصاية السلطة الأردنية لذلك العهد (أربعينات القرن 20)، فقد كانت من بين أولى الغنائم التي بادر الضابط العسكري والخبير المحقق في نفس الوقت (!)، يكائيل يادين (Egal Yadin)، إلى اختطافها بمجرد أن دخلت وحدات اسحاق رابيـن إلى القدس سنة 1967، وهي الآن ترقد في قبة "ضريح الكتاب" (Sanctuaire du Livre) بالمتحف الوطني الإسرائيلي بمدينة القدس، ذلك الضريح ذي التصميم المعماري الموضوع وفق استراتيجية تحصينية مستلهمة من روح حصن "الماصاداه" (Massadah).
وباختصار، نقول كخلاصة، بعد هذا الاستطراد الذي كان لابد منه، بأن عنصر "العلم بالواقع" (علوم واقع المجتمع والانسان خصوصا)، الذي يتعين أن يضاف إلى برامج التكوين في الدراسات الإسلامية، حسب ما دعا إليه محمد يتيم، هو بالضيط العنصر الذي كان يـُـنتظر من ندوة "المادة الإسلامية في التعليم المغربي وقضية التنمية" التي انعقدت بمدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب بالرباط (14- 15 بريل 2001) أن تـُصدر بشأن العناية به توصية خاصة، بدل التمادي في ترديد شعارات جوفاء من قبيل قول إحدى توصيات تلك الندوة ما يلي :
"ثالثا: مراعاة خصوصيات التلميذ المغربي عند بناء برامج العلوم الطبيعية، واعتماد منهجية تربوية في التأليف تتوخى تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها" (صحيفة "التجديد"، 21 أبريل 2001، ص5).
فما عسى أن يكون المضمون الملموس لتلك المراعاة المطالب بها في التأليف التربوي لمقررات برامج العلوم الطبيعية؟ إذا كان الأمر يتعلق بمجرد تدبيج النصوص يالبسملة، وتذييل فقراتها بإضافة "والله أعلم" إلى كل جملة من جمل التعميمات والأحكام والنظريات العلمية، التي هي أمور نسبية أساسا بمقتضى تعريف طبيعة العلم الطبيعي نفسه، فيقال مثلا بأن "البترول حصيلة جيولوجية لمواد عضوية مستحاثة متحللة تنتمي إلى كذا وكذا من ملايين السنين، والله أعلم"، بشكل يجعل عبارة "والله أعلم" تتكرر في ملل إلى أن يتم اختزالها استثقالا إلى مجرد "ولعم"، فإن ذلك منتهى ابتذال القناعات الأساسية وتحويلها إلى مجرد رُقىً وتعاويذ لفظية كهنوتية؛
وإذا كان المقصود بـ"خصوصيات التلميذ المغربي عند بناء برامج العلوم الطبيعية" و بــ"اعتماد منهجية تربوية في التأليف تتوخى تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها" هو أن يهجُر النصُّ موضوعَه العلمي المعين، ويهجر الأستاذُ الموضوعَ العلمي للحصة نحو التغني بأمجاد السابقين، حقيقية كانت تلك الأمجاد أم أسطورية شعبية، ونحوَ خطابٍ بكائـي أمام مكر عدوّ غيبي مؤلــّهٍ بشكل وثني وتُـحمَل على دسائسه كل أوجه العجز الذاتي عن استعادة الدخول إلى التاريخ، فذلك منتهى مظاهر إضاعة مال الأجيال من حيث إهدار الوقت، وتزجيته، والعبث بعمر الناشئة، ومن حيث تبذير التجهيزات، وأكل لأموال الناس بالباطل من خُطب وأحاجي تذكر ببكائيات المجدوب الشعبي في الأسواق الأسبوعية مما كنا قد أوردنا منه عينة.
أم أن المقصود بتلك "المراعاة" في إعداد المادة العلمية بطريقة "تتوخى تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها" هو إخضاع معاني القرآن، البعيدة الغور والكلية المرامي بحكم تصوُّر كل تنزيل، وليُّ أعناق تلك المعاني الكلية لتتهافت وراء تقلبات التطور الطبيعي للنظريات العلمية، كما يفعل بعض تجار التفسير من المهووسين الذين يستهويهم سحر وكيمياء الرقمولوجيا (numérologie) والقبالة (kabbale קבלה) الشعبية من المنبهرون ببهلوانيات أمثال موريس بوكاي، الذين يبحثون في القرآن الكريم عن بعض الوصفات "العلمية" بنفس المنهج الذي تؤوّل به العرّافة الفرنسية، "مادام صولاي" (Madame Soleil) الرباعيات الجفرية للمجدوب الإفرنجي، نوستراداموس (Michel Nostradamus، القرن 16م)، أولئك المهووسين من أمثال من قال عنهم الاستاذ عبد الله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية في رده "أخطاء زغلول النجار في تفسير القرآن" بأنهم هجروا رباطات وثغور البحث العلمي الذي ينفع الناس، بحيث "يستبيح طبيب أو مهندس أو عالم أو باحث لنفسه أن يترك ميدان بحثه حين يستشعر أنه لن يحقق ما يطمح إليه في مجاله من ذيوع وشهرة، إلى ساحة الدعوة الإسلامية، وهو موقن أنه سوف يحقق الشهرة، بـيـسر فيها". "الأحداث المغربية"، 15 أبريل 2001).
وقد ساق عبد الله النجار أمثلة سخيفة لذلك القبيل من القبالة الهجينة، كمحاولة زغلول النجار إثبات "إعجاز القرآن" و"تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها" عن طريق السماح لنفسه بالخروج عن أسس عـدّ آي السُــوَر القرآنية لمجرد رغبته الصبيانية في الحصول على رقم يـبـني عليه تأويلا قباليا رقمولرجيا لسورة الحديد! لقد سمح النجار لنفسه باحتساب البسملة كآية، فتصبح له بذلك آياتُ سورة الحديد ستا وعشرين آية (26)، وليس خمسا وعشرين (25) كما هو العد المتعارف عليه؛ وبذلك يـثبت هذا "النيو-مفسّر" المعجزة العلمية للقرآن في ميدان الفيزياء النوويية! إذ يكون حينئذ الرقم الذري لعنصر الحديد، الذي وهو 26، حسب علم الفيزياء النووية، قد تم ترميزه في وتشفيره في عدد آيات سورة الحديد نفسها من محكم التنزيل منذ الأزل، وقبل أن يتحول الهيدروجين الأولي إلى هيليوم، ويتحوّلَ الهيليوم عبر سلسلة من الانصهارات النووية إلى بقية العناصر الطبيعيةالثقيلة! وبذلك لن يبقى سوى مهمة فك ذلك الترميز عمليا، انتظار قيام مختبرات "العلم الوضعي" لشياطين "الغرب المادي" باقتحام عالم "متناهيات الصغر"، وإقامة جداول الارقام الذرية، والأوزان الجزيـئـية، والخصائص التكافؤية، ليقوم "الروحانيون" بعد ذلك بتنبيه غفلة الشياطين الغافلين في مختبراتهم إلى أن أرقام جداولهم التي أفنت فيها العمرَ أجيالٌ منهم من أمثال "بيير" و "ماري-كوري" (Pierre et Marie Curie) أرقام كانت قد صيغت منذ الأزل في موسوعة الـتـنـزيل الذي بين أيديهم (قارن بمقال لـــ Pervez Hoodbhoy منشور بتاريخ 20 غشت 2007 في "الحوار المتمدين" http://www.rezgar.com/eng/show.art.asp?aid=420 بعنوان Science in the Islamic World – the request for rapprochement ).
ألا، لقد تفـُـهَ قولا ما يزعمون! ومن الطريف أن أورد هنا بعض المُـلح تخفيفا على القارئ، فأجلو عنه غم وضيم هذا الإسفاف، بأن اشير إلى أنه كان بإمكان زغلول النجار أن ينحت رقمه السحري بطرق أقل تمحّلا واعتسافا، وأكثر اتفاقا وأناقة وإتقانا، لو أنه كان فعلا راسخا في مهارة فن الرقمولوجيا والقبالة التي برع فيها متصوفوا اليهود من خلال كتب من قبيل كتاب "سيفير يصيرا" (ספר יצירה) المجهول صاحبُه، و كتاب "البهاء" (ספר הזהר) الذي ينسبه المحققون لـ"ابن لـيـئـون" الأندلسي، الذي نحله ورفع سنده إلى "ربي شمعون بار-يوحاي" (רבי שמעון בר יוחי).
كان بإمكان زغلول النجار، بكل بساطة، أن يستعمل "حسابَ الجُمّـل"، الذي كانت تقوم على أساسه "حمارية الحساب" المعتمدة في تحفيظ عمليات االضرب إلى حدود الستينات من القرن العشرين في المدارس العتيقة ببلاد سوس على الخصوص، حيث كانوا يقولون مثلا (بَـبْــدٍ = 10)، (بَـجْـوٍ = 6)، (بَـهْــيٌ = 10)... الخ؛ أي (4=2×2) ، (6=3×2) ، (10=5×2) ، وهلمّ جرّا، على اساس أن للأبجدية قيما حسابية تبدأ بالألف وقيمته "1" وتنتهي بالشين وقيمته "1000"، حسب نظام "أبـجـد"، "هــوز"، "حـطي"، "كلمن"...الخ.؛ وحيث أن قيمة الدال هي "4"، وأن قيمة الحاء هي "8"، وقيمة الياء هي "10"، فقد كان بإمكان الاستاذ زغلول أن يستنتج عدد "الرقم الذري" للحديد، الذي هو "26" بمجرد جمع القيم العددية لاسم السورة، أي (ح + د + ي + د)؛ وهو ما يعطي (8 + 4 + 10 + 4) = 26، فيريح الناس ويستريح. بل كان بإمكانه، لو أنه كان ملما بأوليات القبالة اليهودية التي استهوته في غير علم من حيث لم يكن يدري مصدر ما استهواه، أن يدعي بأن الحديد بنفسه، ذي البأس الشديد، والذي فيه منافع الناس، إن هو إلا ترميز للقدرة الإلهية بما أن الرقم "26" الذي هو رقمه الذري رقم مقدس في قباليات أهل الكتاب والصحف الأولى، باعتبار أنه حاصلُ جمعِ قيم الأحرف المكونة لاسم الجلال الأول في اليهودية الأولى ألا وهو الرباعي الحرفي יהוה "يـهــوه" (Le tétragramme YHWH ) الذي يكتب ولا يتلفظ به، وحاصل جمع أحرفه هو (ي=10 + هـ=5 + و=6 + هـ=5) = 26.
لو فعل ذلك العالم الداعية ذلك لكان قد أثبت للقاصرين عن إدراك الإعجاز القرآني بما عدا الكشوفات السحرية، ليس فقط "إعجاز" القرآن، ولكن أيضا "إعجاز" وقداسة اللغة العربية بالنظر إلى أنها سمّـت عنصر الحديد بأحرف (ح-د-ي-د) لقرون قبل ظهور الإسلام، أي لما كانت ما تزال لغة ثقافة وثنية في معظمها. وقصة ذلك الوجه من أوجه القداسة أغنية شعبية عربية أخرى قديمة يرددها كل من قصر بالفعل عن إدراك أسرار اللغات بصفة عامة، واللغة العربية بصفة خاصة. لو فعل ذلك المفسر "العصري جدا" ذلك لسلك أقصر سبل التهافة بنفسه وبمن ينبهر بمثل بهلوانيات ما أطلق عليه في التسعينات "البهتان الفكري" (Imposture intellectuelle) من ضعاف العقول، ومتوسطي الذكاء.(*6)
فإن كانت مثل هذه البهلوانيات هي المقصود من المطالبة بـ"منهجية تربوية في التأليف تتوخى تعزيز العقيدة الإسلامية وتقويتها"، فقد ضعف الطالب والمطلوب! ألا إنه يتعين "بذل المجهود لإعادة رسم ما بين العلم والجهالة من حدود".
ومن باب الإتفاقات، أنه في نفس الوقت الذي كانت فيه ندوة "المادة الإسلامية... وقضايا التنمية" تجري أشغالها لتختم أعمالها بمثل هذه التوصيات الشعارية، كانت هناك أصوات متعددة المشارب والمكانات والاختصاصات، ما بين عرض وتدخل، ومنها صوت العبد الضعيف، تنادي في "الملتقى الوطني للبحث العلمي والتنمية" (مركز الإستقبال والندوات -الرباط 13-14-أبريل 2001) بضرورة العناية بالبحث الأساسي، وعدم الانسياق وراء شعار المراهنة على حلم "نقل التكنولوجيا" عبر موقف الاهتمام بالبحث التطبيقي دون غيره مما تروّج له برامج مصالح التعاون الدولي، التي لا تطمح، وهذا شيء طبيعي، إلا إلى تحقيق مصالحها المباشرة المتمثلة في تأهيل سوقنا الوطنية للرفع من طاقاتها الإستيعابية (مثال علوم الإتصال وعلاقتها بتوسيع سوق الأجهزة والخدمات) وفي التخلص من الصناعات ذات التشغيل المكلـّـف عن طريق ترحيلها في إطار العولمة، بعد تأهيل يد عاملة وأدمغة عاملة أقل كلفة. كما نادت تلك الأصوات -وهذا ما يهمنا هنا- بضرورة تطعيم البحث العلمي، الأساسي منه والتطبيقي، بما يناسب كلا منهما من علوم مساعدة، كالابستيولوجيا، والفلسفية، والإلهيات، وعلوم الأخلاق، والمجتمع، مما لا تقوم نهضة علمية أصيلة في أمة من الأمم بغير توفره.
أما بعد، فإني أصرح - وعلى عاتقي العهدة، إذ كفى بنفس المرء عليه شهيدا - بأني لم أحتفل بيوم الثامن من مارس، كما لا أحتفل بكل ما له طابع طقوسي، ولم اسمع قصيدة الشاعرة حكيمة الشاوي، ولم أكتشف بأن هذه الأخيرة قد أصبحت بطلة بالرغم عنها وبالرغم عن أمثالي إلا عندما اقتحم علي منشور "الفاتح من أبريل" للشرفاء المستغيثين عقر المؤسسة التي أعمل بها وهو مرفوع على قارعة الطريق إلي عاهل البلاد! فلولا ذلك المنشور لكان الأمر بالنسبة لي ولكثيرين من أمثالي بمثابة تفاهة طـُـويتْ؛ إذ لو كان سباب الشاعرة بالفعل حكمة أو فضيلة لصدق عليه قول الشاعر :
وإذا أراد الله نشر فضيلة * طويت أتاح لها لسان حسود
ولكن بما أن الأمر بعيد عن ذلك، في ملتي واعتقادي، وانه مجرد كلام عادي و"عادوي" حُـمّل قسرا أكثر مما يحتمل، وأقحمت في "عادويته" مؤسساتُ الأمة وركائزها إقحاما شعوبيا، فإني أعوذ بالله من شياطين الإنس مرددا :"نامت الفتنة، لعن الله موقظها". انتهى؛ 27 أبريل 2001.
-----------------------
(*5) انظر :
Michael Baingent y Richard Leigh 1992 El escandalo de los manuscritos del mar Muerto; las revelaciones que hacen temblar al Vaticano. Circulo de Lectura
انظر كذلك :
Robert Eisenman et Michael Wise 1995 Les manuscrit de la mer Morte révélés. Fayard.
(*6) "البهتان الفكري" مفهوم ظهر في منتصف التسعينات لإدانة جنوح بعض المفكرين، في المدرسة الفرنسية على الخصوص (ديريدا مثلا)، نحو المبالغة في استعمال مفاهيم العلوم الطبيعية والرياضية استعمالا شرلطانيا في ميدان الخطابيات والأدبيات والعلوم الانسانية. انظر:
Alan Sokal & Jean Bricmont, (1997) Impostures intellectuelles, Paris, Odile Jacob, 1997; 2ème édition, Le Livre de Poche, 1999.
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 345 autres membres