OrBinah

(En arabe). Fin/mort de l'intellectuel traditionnel marocain

نهاية/موت المثقف المغربي

 

 

 

 

 

 

1-   الانطلاق: مقال "نهاية المثقف العربي والمغاربي!" (الكاتب الجزائري أمين الزاوي- 15 سبتمبر). https://alantologia.com/blogs/61199/

 

 

إنه مقال أريدَ له أن يشكل نشرة تشخيصية لـــمـــــــــــــوت كلينيكي لهذا الكائن المعروف في العربية الحديثة بـ"المثــــقّــــف"، أي ما يطلق عليه بعض العجم صيغ مختلفة لمفردة Intellectuel. وقد ركّـز الكاتب تشخيصه على "المثقف العربي والمغاربي" (ولهذا التمييز المحتشم بين الوصفين في حدّ ذاته دلالة ستبدو لاحقا). غير أن ذلك المقال، الذي أريد له طابعُ التشخيص، يرتدّ في النهاية إلى نفس التقاليد التي سادت منذ بداية النصف الثاني من القرن-20، أي تقاليد البكائيات المستعرضة لما يعتبره أصحابها أوجُها لانعدام العزم وضلال السبيل، كلعنة غير موصوفة، محمولة على مجهول، لعنة مصوغة من بداية المقال إلى نهايته بتكرار الكاتب للازمة "من علامات المثقف عندنا كذا وكذا" في بداية كل فقرة من الفقرات القصيرة للمقال.

 

 

2-  المثقـــــف، بالمفهوم المتعارف عليه في الرقعة التي خصّها الكاتب في مقاله، يوجد بالفعل - حسب تقديري الشخصي الذي كثيرا ما عبرت عنه بأشكال مختلفة النوع الأدبي (من المقال التحليلي إلى الكلمة الساخيرة) - في حالة احتضار موت كلينيكي بطيء وطويل. غير أن ذلك الموت موت طبيعي مثل جميع أوجه الموت، من حيث إنه كان مبرمجا في جينوم ذلك الكائن ("المثقف العربي والشمال-إفريقي") كما ظهر، وباعتبار قُدراته، كما ظهر أيضا، في التفاعل مع معطيات ومستجدات عالم "البقاء للأصلح".

 

 

3-  ظهر ذلك الكائن أول ما ظهر كمجرّد مُردّد (ظاهرة صوتية)، وفي أحسن الأحوال كخطيب ذي قضــــــــيّــــــــــة جمعيّــــــــــــة يجيّش ويُـلهـِب حولها مشاعر وجدان جمعي يعتزي إليه اعتزاء، ويتشيّع له تشيّعا (عرق، طبقة، قناعة، ... في أشكال مختلفة من أوجه التداخل)، وجدان جمعي من محض صُنع فئته من سائر "المثقفين"، صُنِـع ليس كوليدَ لتفاعلٍ فلسفي حرّ للــــــــــــــفــــــــــرد المفكّر الحـــــــــــــرّ مع الوجود بجميع أوجهه (الأنطولوجية أو الوجودية أو الإنسانية) بقدر ما هو مجرّد استدعاء/تحميض جديد لخطاطات أسطورية أهـــليّـــــــة على شكل "قضيّـــــــــــة" من القضايا أو استعارة/اقتراض لخطاطات متناسلة ظرفية مستوردة من عوالم غير عالمه الملموس (طبيعيا واجتماعيا ومعرفيا).

 

 

4-  وبما أن "عالَـم البقاء للأصلح"، في شموليته وكونيته، عالم مستـــــــقـــــــل عن الإرادات الفردية أو الجمــــــاهيريّة، أي أن له عقلا هو عــــــــــــقلُ التـــــــــاريخ (La Raison de l’Histoire) الذي له قوانين تسمو على دوافع تلك الإرادات الإرادوية التي تكون في نهاية الأمر عبارة عن وقــــــــــود (في إطار ما يعرف بـ"مكر التاريخ") لتحقيق منطق التاريخ على أرض الواقع، بالمفهوم الهيجيلي للفكرة (وهيجل، مثله مثل نيتئه وهايدغر وآخرون أفراد وليسوا "مثقفين عضويين" في حركات أو زوايا)، فإن كل ذلك هو ما يشكل كونَ نهاية/موت القبيل المشار إليه من المثقفين أمرا مبرمجا سلفا في جينوم ظهوره.

 

 

5-   لم تكن قطّ فئة من يسمّون "مثقفين" هي من يحدّد السياسة على أيّ صعيد من الأصعدة؛ لأن ذلك الأمر يحدده ميزان قوى تدافع مصالح القوى الفعلية الملموسة على أرض الواقع، وليس قبيلٌ معين من قُبل الخطابات والشعارات. إن دور خطاب ما يعرف بـ"النخبة المثقفة" ينحصر في مجرد تحقيق الحد الأدنى من أوجه السعادة، وجه إعـــــــــــطـــــــاء معـــــــــــــنى مؤقت للوجود/الحياة في كل لحظة من لحظات ذلك التـــــــــدافع، وذلك بشكل يجعل الجمهور يهتــــــــــمّ/يتــــــــــفاعل في كل لحظة مع محيطه التدافعي بدل أن يرى فيه مجرد عـــــــبـــــــــث لا يستحق الاهتمام. وحينما يعجز خطاب النخبة عن مواكبة لحظات ذلك التدافع بما يكفل ضمان تحقيق تلك الوظيفة، تموت تلك النخبة في الحين مهما كان الجيل على قيد الحياة الطبيعية. ولكي يٌعطى لهذا الكلام، الذي يراد له أن يكون تشخيصا لموت النخبة، طابعٌ ملموس على قدر الإمكان، سأقتصر، فيما يلي من بقية هذا الحديث، على حالة النخبة المثقفة المغربية في مجملها خلال العقود الخمسة الأخيرة على وجه التقريب.

 

 

6-  ظهر المثقف المغربي الحديث ونشأ مرتبطا عضويا بدرجة من الدرجات بعشيـــــــرة لها زاويتها ومنبرها وشعاراتها الطوطمية وشبكات تفاعلاتها فيما بينها في إطار دوائر يعلو بعضها بعضا ما بين درجات ما هو أممي وما هو قطري. كان ذلك هو الإطار الذي يحدد أفق ثيمات المثقف ومرمى بصره والحجم واللون الذي يبدو له به ما يبدو له من الأمور كما يحدد الأمور التي تظل محجوبة عن نظره. أي أنه لم يكن قط في صفوف النخبة المذكورة مكان للمفكر الفــــــــــــــرد الحرّ المستقل، الذي يولّد المعانى ويضفي بواسطتها، بالنسبة لمطلق لآخرين، معنى على الحياة من حولهم، وذلك على غرار مفكر وأديب مستقل/حــــرّ مثل أبي علي الحسن اليوسي (القرن-17-م؛ انظر Jaques Berque, éd. 2001. Al-Youssi. Problème de la culture marocaine au XVII siècle )، ذلك المفكر الأديب والرائد في حقل الوصف الإثنوغرافي، الذي شق طريقه الخاص به في استقلال كبير ملحوظ عن مُردّدات المشــــيخــــات الماضوية من جهة، وفي استقلال عن التيارين الكبيرين اللذين كانا يحرّكان تدافعات ظروفه الزمكانية، ألا وهما تيار حماقـــــات وسائبيّــــات البادية من جهة، وتيّار تنـــــطّعـــــات وتحكّمّـــــات الحاضرة من جهة ثانية. كان استقلالا ليس بمعنى التجاهل، ولكن بمعنى امتلاك حريّــــــــة التفكيــــــــــر لصياغة تصورات تركيبيّـــــــة غير وحيدة البُعد في باب نظرية الأخلاق انطلاقا من العناية بتفاصيل لالمعطيات الإثنوغرافية بدل الترفع عنها واعتبارها تفاهات بالقياس إلى "قضايا مصيرية كبرى نبيلة" أزليا في حدّ ذاتها.

 

 

7-  فبعد سلسلة اصطدامات خطابات/شعارات فكرٍ إرادوي وحيد البُعد مع معطيات الواقع ابتداء من منتصف ستينات القرن-20، من خلال ما عرف بـ"النكبة"، وإلى غاية نهاية السبعينات مع مفاجأة قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية (خارج إطار الخطاطات النظرية السائدة حينئذ)، وفي إطار عامّ لم تكن تشغل فيه النخبة المثقفة المغربية سوى دور السُخـــــــرة التي تقوم بها من خلال مجرد ترجيع صدى شعارات آفاقية ليست من وضعها، وإسناد/دعم تلك الشعارات بما يشبه التفكير الفلسفي، في شبه تميُّـز عن خطابة المشرق الصريحة؛ وبعد أن تُوّجَت سلسلة تلك الاصطدامات برجّة/زعزعة هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001 على بُرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، بشكل أتى على ما أبقت الثورةُ الخمينية من خطاطة قلعة القومية-اليسارية أو اليسارية-القومية  التي كانت النخبة المغربية تقوم بدور السخرة في إطارها، إلى درجة أن القومية-اليسارية أو اليسارية-القومية قد حاولت التكيف/التحوّر في صيغة "المؤتمر القومي-الإسلامي"، حصلت المفاجأة الكبرى والضربة القاضية، بالنسبة للنخبة المثقفة المغربية المنخرطة تكوينيا ووظيفيا سُخرويا في الخطاطات المذكورة، لمّا فاجأها الملك محمد السادس بخطاب أجدير (17 أكتوبر 2001) الذي أعلن من خلاله عن إصدار ظهير تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. "الصْدمة كانت قْويّة"، إلى درجة أنه قد "توقّفت لغة الكلام" في صفوفها.

 

 

8-  لقد "توقفت لغة الكلام" و"لغة الهوى" لدى النخبة المغربية بشكل مأساوي على إثر خطاب أجدير وصدور الظهير المعلَن عنه من خلاله، ليس خوفا من السلطة بسبب انعدام حرية التعبير. فتلك النخبة، ومن نفس الجيل، وعلى مختلف الأصعدة والقطاعات، قد أثبتت في أوج ما عرف بسنوات الرصاص أن لها قدرة كبيرة على مواجهة سياسة السلطة مواجَهةَ مجابَهة (بما في ذلك في حقل السياسة الثقافية واللغوية والتعليمية، حينما يتعلق الأمر بالتعريب في مقابل الفرنسية أو اللهجات التي "يجب إماتتها" على حد تعبير أحد أبرز أوجه تلك النخبة). لقد تولّد الاحتباس المذكور، الذي أفضى في النهاية إلى حالة توحُّــــــد/autisme، عن واقع وحقيقة كون تلك النخبة كان قد صرفها الانخراطُ لمدة نصف قرن في وظيفة سخرة ترجيع صدى شعارات "قضايا كبرى نبيلة" آفاقية صرفاً كلّيا عن مواكبة تطور تدافعات المجتمع المغربي كما هو، فلم تتوفر، من زاد معرفي ومن أطر في الحقول المعرفية المتعلقة بموضوع الظهير المذكور، على ما يسمح لها بالانخراط، أخذا و/أو  ردّا، في موضوع ما تمّت مفاجأتها به على حين غرة؛ زيادة على ما يشكله ذلك القبيل من الانخراط من أوجه تمزّقات "الوعي الشقيّ" باعتبار تجربة نصف قرن من شعارات القناعات الإطلاقية.

 

 

9-  تمثلَ سلوكُ تلك النخبة إذن في نوع من "الفـــــــــرّ" عن طريق الإمساك عن الكلام المباح في انتظار مناسبة لـ"الكــــرّ". ولقد تمثل ذلك الكــــــــــرّ، بعد بضع سنوات، في تعويض شعارات لطيف "الظهير البربري" وتُهَمة "حفدة اليوطي" بـتُهَمة "موالاة العدوّ الصيهيوني"، في تحويل للموضوع من الانخراط من مناقشة أوجه جوهر الظهير المذكور إلى العودة إلى كبش فداءٍ متمثل في "الحركة الأمازيغية" (انظر هــــنــــا؛ وفي آخره رابط داخلي إلى مقال أكثر تفصيلا)، هذه الحركة التي ظلت، في مجملها، في مرحلة أطروحة ردّ الفعل لم تبرحها ولم تستطع بعدُ، من جانبها وبدورها، أن تنتج فكرا/أطروحة تأليــــــــفيّــــة/synthèse تتضمن أطروحتي التناقض التقليديين وتتجاوزهما. وقد جاء وصول الحركة الإسلامية إلى الحكم على إثر حركة 20 فبراير بعد عشر سنين من صعقة خطاب أجدير ليعمق احتداد دوخة تلك النخبة بكل أطيافها، فبادرت ثلة من نجومها في انتهازية فجّة إلى توقيع بيان المراجعات، كتفعيل ميداني لروح "المؤتمر القومي-الإسلامي" السابق ذكره وكتفعيل لنظرية "الكتلة التاريخية" التي كانت قد صيغت على أعلى مستويات "الدوائر الفلسفية" المغربية كدعم وسند للشعارات الأفاقة المذكورة في تحوّراتها. كان بيانا لا هو بالشيوعي ولا هو بالشيعي، إذ أريد له أن يكون صلصة من كليهما، بيان "الحيوانات المرضى بالطاعون" يُجيب مرة أخرى عن سؤال "ما العمــــــــــل؟". وقد فتح له منبر يومية "أخبار اليوم" صفحتين كاملتين في عددي 9 و 10 أكتوبر 2012. وقد ضمّن أصحاب الشِمال بيانهم الشلّال المتدفّق نقطةً نظريةً اجتهادية مجدِّدة بعنوان: "في استدخال الشأن الديني"؛ ومن بين ما جاء فيها، ما يلي:

 

[[وقد آن أوانُ لتدارك هذا الإهمــــــــــــال الخطير لموضوع الديـــــــــن، بما هو طاقة اجتماعية ورأسمــــــــال حركـــــــي في الحياة العامة. وليس معنى ذلك أن على قوى اليسار أن تلج مجال المنافسة على استخدام الدين في السياسة؛ وإنما عليها، من أجل الحد من هذا الاستخدام المفرط، أن تنشر في أوساطها وفي الجمهور الاجتماعي الأوسع ثقافـــــــــــة عقلانيّـــــــة وتنويرية في المســـــــألة الدينيّـــــــــة]].

 

 

لكن تطوّر العالم الملموس من حول النخبة المذكورة، "عالم البقاء للأصلح"، لم يمهل تلك النخبة. فقد تميز العقدان الأخيران، على صعيد آخر لم يكن بالحسبان، بثورة كونية في باب الاتصال ودمقرطة الوصول/الولوج إلى المعلومة من جهة، ومنابر تناول الكلمة من جهة ثانية، وهو واقع جديد فاجأ النخبة بتهميش ثم تفكيك شبكة منابرها المحتكِـرة لترويج "المعلومة" ولفرص تناول الكلمة.

 

 

10-  وأخيرا، تمثل الختام ودقُّ أجراس نعي النخبة المذكورة، بعد عشرين سنة من صدور الظهير الملكي المذكور سنة 2001، في ما حصل من أبرام المغرب سنة 2021 اتفاقية ثلاثية مع كل من الولايات المتحدة الأمريكيّة وإسرائيل في إطار براغماتية مصالحه الوطنية منظورا إليها في ظل المعطيات الجيو-استراتيجية المستجدة جواريا، وجهويا وعالميا. حينئذ جفت قارورة الحبر نهائيا ورُفع القلم، وهتف هاتف: "صلاة على جنازة، جنازة مثقّف"؛ إذ على هذا المستوى كذلك، لم تكن النخبة المغربية مرة أخرى على سابق معرفة واهتمام بالتاريخ الفعلي لتطور المجتمع المغربي في محيطه الذي حدّدته الجغرافيا والتاريخ ولم توفّر لنفسها أطرا في الميدان بما يمكّنها من الانخراط، أخذا وردا، في التعامل مع معطيات الواقع على هذا المستوى بدوره، فاعتزل القوم واستقالوا، كل في مقبعه، يذم عاديات الدهر في نوع من ترفُّع موت الموتى عن تفاهات حياة الأحياء.

--------------------------

محمد المدلاوي

https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques



25/09/2022
4 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 343 autres membres