(EN ARABE, traduit de l'hébreu) 2-L’ascension de Tuda
2- صعودُ "تودا" إلى السماء
قصة "עליתה של סעדה השמימה" للكاتب جبرائيل بن سمحون 2002
ترجمة محمد المدلاوي المنبهي 6 غشت 2012
القسم الأول عبر الرابط الآتي
في البداية ذاع صيت اسم تودا عبر كل أرجاء البلاد؛ وكان سكان موشاف "لاقيس" فخورين بكونها منهم. فكثير من الشخصيات المهمة في صفوف مسؤولي الوكالة، والنقابة، والحكومة، ممن كانوا يأتون ليشاهدوا بأمّ أعينهم ما تحقق من نجاحات في الموشاف، كانوا يتفقدون أحوالها كذلك ويصافحونها ويعبرون لها عن كبير احترام وتقدير. خلال تنظيم إحدى الانتخابات، قدِم إليها ثنائي من المسؤولين يحتذي كل منهما نعلين ويرتدي بذلة كاكية اللون، ومعهما باقة كبيرة من الورد، وكانا على رأس موكب من المصورين، والصحفيين، وأنصار الحزب، ورئيس مجلس الموشاف. عملا كل شيء من أجل إقناعها، ملحين عليها بالقول: أنت التي ستصبحين أول نائبة لنا في الكنيسيت. لم تفهم ماذا يعني ذلك بالضبط؛ لكن لم يكن بوسعها أن تقابلهما بالرفض، فوقعت على صك الترشيح ببصمة أصبعها. قاما بتصويرها وهي على الجرار، ثم وهي تحلب بقرة، ثم وهي تعد الكسكس بجوار مبنى مجلس الموشاف؛ وبعد ذلك أصعداها إلى منصة ثم أعاداها لتتوسط ما بينهما وبين رئيس المجلس، وقدما لها ميكروفونا؛ لم تكن تدري ماذا تقول؛ اكتفت ببسط ابتسامة عريضة باسطة ذراعيها كجريدي نخلة. خرجت صورتها في الصفحات الأولى للصحف وإلى جانبها ذانك المسؤولان في الصف الأمامي. وبعد بضعة أشهر من ذلك، يوم أو يومان بالضبط قبل الانتخابات، عاد المسؤولان بلباسهم الكاكي وطلبوا منها توقيعا أضافيا على مطبوع آخر، اتضح فقط بعد مدة من تمام الانتخابات، بأنه كان تصريحا منها بالتنازل عن اعتماد ترشيحها، لفائدة أحدهما.
وقد حصل أن أغرم أحد مسؤولي الوكالة بتودا. كان ياتي مساء كل يوم بعد العودة من العمل، فيقضي الليلة كلها في الطريق قبالة مدخل بيتها. كانت تقريبا في سن أمه؛ إلا أنها ظلت مع ذلك رشيقة فتانة. بقي كذلك ستة أشهر وهو يقضي الليل واجما أمام باب بيتها الموصد، إلى أن أقبل فصل الشتاء فتبلل يوما حتى العظام، إذ ذاك انضمت إليه أمه فوقفت بجانبه حاملة مطرية لوقايته. لم يعد حينئذ بإمكان تودا أن تتمادى في رفضها فخرجت إليهم.
تحرك القوم بمطرياتهم متوجهين بثنائي الخطيبين إلى مقر المجلس، حيث نظموا للزوجين حفلا قرانيا بسيطا بمشاركة رِبّي الجماعة وأعضاء المجلس. وفي طريق العودة، برز ثعبان فجأة وسط الجمع فلذغ العريس، الذي سقط على التو فلم يقم. وبدل أن يتجه الجمع إلى بيت العرس، شيعت الجماعة جنازة الضحية إلى المقبرة.
لم يمر زمن طويل على ذلك حتى أخذت تنتاب تودا نوبات سعال متوال سلبت منها كل قواها. حضرت لنفسها مختلف أنواع التحاضير، ودهنت جسدها بمختلف الزيوت النباتية التي جمعتها من الحقول، واستنشقت الكثير من أبخرة روح الزهر. إلا أن أنفاسها ما فتئت تضيق؛ وكم من مرة أشرفت على الاختناق. أخذها أحد المُجِـلين لشأنها، وكان من سكان سديروت، فتوجه بها إلى طبيب جد معروف من أصدقائه. وفي الطريق حكى لهما صاحب سيارة الأجرة بأن ذلك الطبيب قد شفاه من مرض الربو في ظرف اسبوع
ناولها الطبيب قوارير صغيرة بها مساحيق ملونة، ووصف لها أن تتناول المسحوق الأصفر في الواحدة والربع ليلا مع نصف كأس من الصودا، وأن تتناول المسحوق الأحمر في الثالثة والنصف مع ربع كأس من مشروب غازي، وهكذا دواليك.
عادت تودا إلى بيتها وقواها في تدهور مستمر. قالت لنفسها: إنهم أقوى فاعلية مني. فأنا لم يكن بوسعي يوما أن أضمن الشفاء في تاريخ موقوت. أما رئيس مسؤولي الوكالة، الذي قدمت له مستندات الدواء، فقد ضحك ساخرا فقال لها: أكيد أنه قد كان لك شأن مع طبيب من صنف عبَدة الأصنام. فمن المعلوم أن ليس هناك دواء ضد مرض الربو؛ ولو كان دواء من ذلك القبيل متداولا لدى صندوق الضمان الصحي لكان معروفا لدينا. جلس على التو وخط رسالة تغلي غيظا إلى مدير مكتب الصحة يسرد عليه فيه الحكاية. فصل أمر الأدوية ثم أضاف سلسلة من الأسئلة حول ما إذا كان الطبيب طبيبا [فعلا]، وما إذا كانت الأدوية أدوية فعلا، وما إذا لم يكن الثمن مضخما، وما إذا كان مخولا بالفعل لطبيب الربو أن يعمل خلال الأسبوع [وليس في نهايته]. بعد مرور أيام، تسلم جوابا فقرأه عليها بينما هي تمر بنوبة اختناق: الطبيب طبيب فعلا، والأدوية أدوية، والثمن موضوع فحص وبحث. وعن سؤال ما إذا كان بإمكان طبيب الربو أن يعمل خلال الأسبوع كان الجواب: "نعم، ما دام المرء مؤمنا". أخذ المسؤول يغلي غضبا قائلا لها: أفأنت قد فهمتِ الآن ؟! "ما دام المرء مؤمنا"! فحتى مدير مكتب الشؤون الصحية يصبح بدوره طبيبا مادام يؤمن إيمانا. ثم رمى بمستندات الأدوية التي كانت قد تلقتها.
***
استمر تضايق تنفس تودا يزداد أسبوعا بعد آخر، واستمرت قواها في التدهور، إلى أن أُلزمت الفراش؛ ومع ذلك ما زال القوم يحجون إليها. كانت تقصدها على الخصوص أولئك النسوة المُسنّات من أهل قرية مولدها، اللواتي يذكرن بأنها إلهة قديسة حقيقية استمدت قواها من الأرض والنجم والشجر والأنهار، تلك التي كان بمقدروها أن تهَب القوة والعافية لمن هو مريض مرضا عضالا من ذريتهن بمجرد لمسة يد، بكلمة واحدة، أو بنظرة عين. كنّ يجلسن إلى جانبها، وينصتن إلى أنينها، ويجففن عرقها بالعصائب، ويذقنها من الشاي المنعنع وهن ينظرن إلى عينيها الخضراوين. رأين عبرها ملوكا وأنبياء أقدمين من أزمنة المعجزات الغابرة. هنّ يعرفن أنها غصنٌ من سلالة متأصلة عريقة من القوم الربانيين، أولئك الربانيين والعرافين الذين وُجدوا منذ غابر الأزمان، ويعرفن أنها تعلم ما لم يعلمه آدمي آخر أبدا، وأنها المرأة التي تتحدث إلى الأنهار والأيام والبيد بلغة سرية وبلسان مكنون لا أحد من سكان موشاف "لاقيس" ولا من أي مكان من الأرض الجديدة يفقههما ويفهمهما. لذلك بكت بكل تلك الحُرقة لما حجت إليها يوما عجوز كانت تعرفها وأصلها من وادي درعة، ومعها حفيدها في سنه السادسة وهو محموم. لقد كانت في الماضي تخلع خمارها المزيّن بالرشومات لكي تحضر "إسّان"، فتبرم ذلك الخمار على هيئة حبل مجدول، ثم تأخذ في قياسه طولا بمقاس شبرها ما بين الإبهم والخنصر، مشكلة سلسلة من العقد على رأس كل شبر. وحينما تهمس بقولها "ادّ يلينت تيليلا" ثم تأخذ في التثاؤب، كان المريض يشرع عادة في التثاؤب معها فيعود بعد ذلك معافى إلى بيته. لكن هذه المرة، ضم الصبي شفتيه، وأشخص عينيه ولم يغمضهما بعد ذلك. لم تصدّق تودا احتمال كونه قد مات، فاستمرت تهدهده على صدرها طوال يوم كامل، إلى أن انتزعوه منها بقوة ليشيعوا جنازته إلى المقبرة.
بدأت تودا تدرك تدريجيا بأن شيئا ما في أجواء تلك الأرض مضادٌّ لها و معطـِّل لمزاياها وفضائلها. لم يخطر على بالها ولو مرة واحدة أنه، ولربما، إنما كان يشبّه لها بأن لها قدرات خاصة فريدة، وأنْ لعلّ الناس كانوا يسترجعون صحتهم تلقائيا بمفعول قوة الطبيعة فكانت هي تحمل ذلك على مفعول بركتها. قالت في نفسها: ربما لا قيمة في الحقيقة لكل تلك العُشبيات والرُقَى والأفاعيل التي تلقتها من فم جدة جدتها، ولا طائل ذو فائدة من ورائها. وعلى العموم، وقبل كل شيء، كانت جدتها امرأة بسيطة لا تعرف لا القراءة ولا الكتابة. فلعل كل ذلك مجرد وهم. تخطر على بالها أحيانا خواطر بأنه قد حصل لها ما يحصل لعظماء الناس الربانيين كما حكت لها جدتها الكبرى عن ذلك؛ أي أنه لا يتأتى تقدير جلالهم إلا عندما ما يرتفعون عاليا نحو السماء الخضراء، وينفصلون عن درك الأرض الغبراء.
يتعين إذن نسيان كل شيء وإعادة التمعن في شأن الأمور. لم يكن هناك أي شيء؛ لا وادي درعة ولا واحات النخيل، لا أشجار التين والزيتون، ولا ذلك الشريط الأخضر العظيم الذي يشق البيداء كمثل سكين. كل الرجال الذين أحبوها فأقاموا حول خلوتها قرية، وكل النساء والولدان الذين رأوا النور بين يديها، وكل قطعان الماعز، وزرابي الزهور، والكواكب – كل ذلك مجرد سراب وتفاهة. فهي لم تكن إلهة خصب وعافية، وإنما كانت مجرد انثى ككل النساء. وحتى الثعبان، لم يكن له أبدا وجود، وإنما كان ذلك حُلما. لكن، وبدون أن تفكر تودا كثيرا، أخذت من جديد تفقس بيضتين طريتين وسط صحن بالقرب من سريرها كما كانت تفعل من قبل. وإذ استسلمت ذات ليلة لنوم عميق، فإذا بالثعبان يظهر. إنه عين الثعبان الأسود من ايت بوﮔماز، تسلل من الباب وحلقاته من خلفه، وهو يدنو منها منتصبا ومزغردا بلسانه. نظر إليها نظرة غاضبة كما لو أنه يلومها على أن تخلت عنه بدون كلمة وداع. رحرح بلسانه كما لو أنه يهمس في أذنها داعيا إياها باسمها ليوقظها. وإذ فتحت عينيها بغثة، لم تصدق: إنه هو بعينه، بدون شك ولا ريب، الثعبان الأسود القوي بعظمته. فكيف وصل؟ وكيف توصل إلى العنوان؟ كانت حلقاته الضخمة المكتنزة تحركه في تثاقل وهو منتصب إلى جانبها يفيض فتوة، سديد القوام، ومرحرحا بلسانه بالقرب من أرنبة أنفها.
لم تنظر إليه فقط بدون فزع؛ بل إن ابتسامة علت محياها وهي تراه يلقي بنفسه بين نهديها ملتـفا على مضغة جسدها من تحت ثوبها جيئة وذهابا على مجمل مساحة إهابها بِـلـمس لطيف آبق، وهو مرهف أثيري التكوين. لم تشعر أبدا في لحظة من اللحظات بلـُطاف غامر كهذا يعمّ كامل ذاتها دفعة واحدة، كما لو تعلق الأمر بيد عملاقة بألف أصبع. لقد أحبت وتلذذت بأن تجد نفسها لحظة وهو يحضنها ملتفا حول ظهرها، وبطنها، وجيدها، ومحياها، وخصرها، ونهديها، وبين وركيها. يُخيل إليها تارة بأنه ارتمى عليها مصارعا يعتصرها لكي يمزقها إربا إربا، متخذا من نفسه حبلا ووثاقا مشدودا حول جسدها؛ و مرة أخرى تشعر بأنه يلاطفها بلمس ناعم مرفرِف، ينساب على جسدها كترددات النسيم. إنه إثيري الطبيعة؛ هو خفيف ووازن، حاضر وغائب في ذات الحال. يلتهم أحيازا ومساحات من جسدها الذي تقلص وتضاءل. طفق ينسحب ملتفا عليها قدُما ودبُرا، جيئة وذهابا، إلى أن لم تتبق نقطة من جسدها لم تحس بالحرارة وبالفيض، بالدغدغة وبالهمس، بالملاحسة وبالملامسة الملساء المتزلقة. كان ذلك كما لو أوتيت في ليلة واحدة مستحقات غرام حياة كاملة، وذلك في وجبة واحدة مركزة رُفِعت من خلالها إلى آفاق رحبة من الراحة والهدوء لم تعرفها من قبل. تجلى أمام عينيها واد درعة، وواد زيز بمياههما الخصراء، وأخذت تُجيل ناظريها مابين واحات النخيل المثمر ممتدةً من أقصى الدنيا إلى أقصاها، وبين ذلك السكين المخضر الذي يشق جوف البيداء، فهبت عليها من جديد روائح كل زهور وفواكه طفولتها وريعان شبابها، روائح الورد والسوسن، والتفاح، والإجاص، وحَبّ الملوك. وفجأة، تحسّ بما يشبه وقع مطرقة بين وركيها وقد امتد إلى نحرها، فانطلقت من فمها صيحة صاعقة مزاجُها تألم واستمتاع، فشخصت عيناها فجأة لترى السماء وقد شرَعت أمامها أبوابها، فحلـقـت نحوها على صهوة ثعبان مجنّح.
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 333 autres membres