(En arabe) Requiem à un ami d'enfance, Hassan Swabni
إلى روح صديق الصبا، الأستاذ حسن الصوابني
لقطات من زمن "الخبز الحافي"
التقيت أول ما التقيت بالفقيد الراحل الأستاذ حسن الصوابني كترب وقرين من الأقران في فترة الصبا لما كان سني 12 سنة.
تعرفت عليه ذات صباح من أيام أكتوبر 1961 لمّا وجدت نفسي جليسا له بمقعد الدراسة في القسم ('حرف-ط') سنة تحضيرنا للشهادة الابتدائية بفرع تاليوين للمعهد الأسلامي لتارودانت (بإحدى إقامات الكًلاوي القديمة التي خلد ذكرَها الرايس الحاج بلعيد في أغنيته الشهيرة المعروفة بـ"تاليوين").
كان التلاميذ جميعا أفّاقين: من بلاد زاكًموزن/إسكُتان، وإمغران، والمنابهة، وسكورة، وتامكًروت، والحوز، وغيرها من بلاد سوس-ماسة درعة ووسط وغرب الأطلس الكبير والأطلس الصغير، إلى حدود كُلمين. كان كل فرد يُعرف غالبا باسمه الشخصي منسوبا إلى مكان انحداره. فكان الفقيد وهو طفل حينئذ يعرف بـ"حسن المراكشي"، وكنت أنا شخصيا أعرَف بـ"محمد المنبهي". جمَعَنا ذلك الفصل الدراسي هناك طيلة سنة كاملة درّسنا خلالها الشيخان أبو الفضل محمد الودريمي، شفاه الله وأطال عمره (علوم العربية والمحفوظات) والأستاذ البشير توفيق رحمه الله، والد الأستاذ عز الدين توفيق عضو "حركة التوحيد والإصلاح" حاليا (الفقه والحساب والعلوم الطبيعية).
كانت تحكم الجميع في وسط الأفّاقين ذاك سوسيولوجيا خاصّة، ضاربة في القدم، وإن كانت ما تزال بعض تجلياتها ثاوية إلى يومنا هذا. كان تَـشكّـل العشرة وقيام الزمالات ينبنىان على أسُس الانتسابات البشرية/المكانية للتلاميذ، التي يخترقها بُعدان اثنان يحدّدان من خلال تقاطعاتِهما سُلـّمياتِ ودرجاتِ أوجه العشرة والحميمية، ألا وهما بُعد اللسان (العربية الدارجة أو أمازيغية تاشلحيت)، وبُعد الانتساب المكاني إلى هذه الجهة أو تلك البلدة. أضف إلى ذلك بُعدَ العمْر، الذي تقتصر مع ذلك اعتباريتُه على المستوى الإداري لتسيير المؤسّـسة، إذ على أساسه كان يتم تقسيم التلاميذ، كما هو معمول به في مخيمات الكشفية، إلى فِرق لتنظيم التناوب على طاولات قاعة الأكل (كبار السن أولا ثم صغار السن في كل وجبة) وكذا توزيعهم على غُرف المبيت الأربع في الطابق العلوي (مقصورات مستطيلة تقليدية رصفت على ضلعي طولها مطارف من الحلفاء رصفا موجه الرأس نحو الحائط بحيث أن هناك من الصغار من ينام في الأخدود ما بين مطرفين). كان ذلك لأن سنّ المتمدرسين يتراوح ما بين 11 سنة وما فوق العشرين سنة (حالة أولئك الذين سبق لهم أن تخرجوا من المدارس العتيقة ومارسوا تعليم الصغار في الكتاتيب القرآنية ثم التحقوا بـ"سلك الإنقاذ" للحصول على شهادة رسمية). وبالرغم من أن لكل فرقة للصغار والكبار "رئيس" من الر اشدين يسهر على النظام، كان ما يشبه قانون الغاب هو ما كان يسود بمجرد أن يعلن الحارس المسن "سي محند" عن انتهاء فترة المراجعة الليلية في الظلام بساحة الدار في الطابق السفلي بعد صلاة المغرب ثم التلاوة الجماعية للحزب الرتيب ثم صلاة العشاء، ويأمر الجموع للالتحاق بغرف النوم الأربع الرئيسة في الطابق العلوي فيقفل على الجميع باب ذلك الطابق بمزلاج "الزكرون" ثم ينصرف منحدرا مع الدرج ليلتحق بقبو مخصص له. وكان يتعين حينئذ على كل عشيرة أن تتكتل لحماية أفرادها في فضاء لا تضيئه سوى بعض شموع من كانت لهم القدرة الشرائية على توفيرها لترتيب طقوس النوم قبل الاستيقاظ قبيل الفجر للصلاة ثم قراءة الحزب الرتيب ثم تناول وجبة الفطور (ربع رغيف ونصف ملعقة من زبدة "الماريكان" وكأس من مسحوق حليب "الماريكان" كذلك.
كان الطفل حسن المراكشي قد قدِم من مراكش، ولا يتحدث سوى الدارجة بنبرتها المراكشية، لكنه كان واثقا من قيمتها السوسيو-لغوية ومن استعمالها حتى مع من لا يفهمها من صغار المنطقة الذين لم يجولوا بعدُ بعيدا؛ بينما كان محمد المنبهي قادما من إيكَودار بالمنابهة، وكان مزدوج اللسان (عربية دارجة وتاشلحيت) منذ أن مارس ملكة الكلام، وذلك بحكم طروء استقرار أهله بسهل المنابهة، إذ أصل الأمّ من إسكُتان (سكُتانة) بالضبط والوالد كان قد نزح إمدلاون (مدلاوة)، فكانا الأبوان يتحدثان أمازيغية تاشلحيت في ما بينهما، بينما كانت الأم تخاطب أبناءها وبناتها بدارجة المنابهة بحكم اللسان الغالب في الوسط القريب؛ فكان بذلك منعتقا من حدود اللسان، لكن ذلك خلق حوله في نفس الوقت التباسا هو التباس من ينتمي إلى كل الأطراف، لكن كل طرف لا يجده فيه صفاء العُصبة بمقتضى المفهوم.
وإذْ كان الأمر كذلك، فإن كلّا من الطفلين، المراكشي والمنبهي، قد جمع بينهما أكثر من بُعدٍ (الاغتراب في سنّ مبكّر، صغر السن، لسان مشترك، المستوى الدراسي، مقعد الدرس) لنسج وتوثيق وشائج عشرةٍ وزمالة طفوليتين في ذلك الوسط العسير، تطورت بعد ذلك إلى صداقة بينهما. فالطفل المراكشي لم يجد عشيرة مراكشية يتخذها عُصبة حماية، والطفل القادم من المنابهة لم يكن منخرطا في عشيرة أبناء المنابهة الذين لا يتعدون السبعة والذين كانت لهم حظوة المبيت في غرفة مستقلة في أحد أبراج الدار نظرا لعطف المرحوم الشيخ البشير توفيق المذكور عليهم باعتبارهم جميعا من دوار "أولاد عيسى" الذي ينحدر منه هو بنفسه، وذلك بالرغم من أن ذلك الشيخ قد أوصاهم بدعوة ابن إيكًودار معهم إلى بعض الإطعامات "الإضافية" التي كان يجود بها عليهم من حين لآخر في مدخل منزله، اعتبارا منه لرسالة الوصاية خيراً بذلك الطفل التي كان قد سلمها إليه ابن إيكودار من من طرف الشريف مولاي عبد العزيز بن الحسن (أخ مولاي سعيد بن الحسن العلوي من آل بن السعيدي من دوار الشرفاء بإيكًودار).
كان الطفل المراكشي يمثل في ذلك الوسط القروي والجبلي (تاليوين) نموذج أهل الحضر، وأيّ حضَرٍ في أعين ذلك المحيط بما أن الأمر يتعلق بحاضرة مراكش التي كانت قبل اقل من ست سنوات بمثابة عاصمة أيام الحاكم الكًلاوي؛ وكان ذلك من مقويات مكانته إضافة إلى جرأته الشخصية. وكان المنبهي أقرب العناصر إليه بمقتضى الأبعاد السالفة الذكر أعلاه، ولو أنه كان يمثل نموذج البادية (بادية بدو عربِ معقِل بالمنابهة، وما يحيط بهم ويمتزج بهم من أمازيغ "راس الواد"، والأطلسين الصغير، والأطلس الكبير الغربي)، والذي كان يرى من جهته في خصال الجرأة والإقدام والوعي الحضري والثقة في النفس لدى زميله ابن حاضرة مراكش أبعادا من أبعاد الشخصية يتعيّن عليه اكتسابُها منه للاقتدار على تحصين الذات في وسط سوسيولوجي "البقاءُ فيه للأصلح" على طول الأربع والعشرين ساعة.
امتدت تلك الصداقة وترسخت بيني وبين سي حسن بعد انتقلنا إلى تارودانت إثر النجاح في الشهادة وفي "اختبار الدخول إلى الثانوي". هناك التقينا بأخيه (عُمر المراكشي) الذي قدم فيما أعتقد من فرع تيزنيت لنفس المعهد حيث حضّر الشهادة الابتدائية. ثم افترقت بنا الطرق بعد شهادة "البروفي"، ولم نلتق ثانية سوى في سنة 1972 بمقر المنظمة الطلابية أوطم بالرباط على هامش أعمال المؤتمر 15 لتلك المنظمة (أو لعله المؤتمر الاستثنائي سنة 1979 الذي دعيت للمشاركة فيه باعتباري من أعضاء المجلس الإداري السابق للمنظمة من القلة الموجودة خارج السجن؛ لا أتذكر بالضبط نظرا لأن اللقاء كان عابرا وتمّ في خضم الأشغال والسهر).
ومن ذلك الحين، لم نلتق مرة ثالثة سوى في سنة 2006 بأكادير بأحدى الندوات التي نظمتها الأكاديمية الجهوية للتعليم. في كل مرة نتعرف من جديد على لكن بسرعة على ملامح بعضنا بعد فعل تعرية السنين، ونستحضر ذكريات صعوبة تجربة تاليوين (شي كثير من البرد والجوع والخوف وغموض المصير، وغير يسير مما لا يتسع المقام لذكره).
على روحك مني السلام، يا سي حسن المراكشي. أما الإشعار الذي مثله رحيلك، بعد بضعة أيام من إشعار أول كان قد زفه إليّ رحيل صديق آخر وجار مباشر في مقر العمل باعتبار تجاور مكتبينا، ألا وهو الأستاذ علال ركًوك، فقد وصلت رسالتهما معا، وقرأتهما بكل هدوء وعناية. محمد المدلاوي المنبهي
--------------------
العناصر المرفقة
- صورة الأستاذ الفقيد حسن الصوابني
- صورة إقامة الكلاوي بمركز تاليوين التي أصبحت مقر فرع المعهد الإسلامي بتارودانت
- صورة الشيخ الأستاذ محمد فاضل الودريمي
- صورة من إجازة صادرة عن الشيخ الودريمي
- رابط نحو أغنية "تاليوين" للرايس الحاج بلعيد يصف فيها إقامة الكلاوي (من أداء ؟؟):
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres