OrBinah

(EN ARABE) 1-Que signifie le 11 Sept. 2001 aujourd'hui (2015)?

من برج بابل إلى برج مانهاتان

ومن المغول إلى الطالبان

(أي دلالات؟)

(سبتمبر 2001 بعد ميلاد المسيح، الموافق  للسنة الأولى  لخراب البرجين)

  القسم الأول

 

السيـــاق والمناسبة

 

والعالم مشرف اليوم على ذكرى الحادي عشر من سبتمبر 2001 الذي أصبح، بحجم وقعه وبعمق رمزيته، منعطفا تاريخيا سيترسخ مع السنين والعقود حتى ينافس المنعطفات التاريخية الكبرى الأخرى في التأريخ مما قبله ومما بعده، أقترح على القراء والقارئات الكرام نصا للتذكير وللتأمل وأخذ المسافة اللازمة من أجل كل فهم واعتبار، كنت قد كتبته حول الواقعة في أوج وعنف مفاجأتها التي أربكت للأفهام (أي 26 سبتمبر 2001)؛ وهو نص نشر حينئذ في كل من يومية "الأحداث المغربية" (ع: 987؛ 03  و 05 أكتوبر 2001) ثم في يومية "القدس العربي" (ع: 3866؛ 16 و 17 أكتوبر 2001). ولقد أضفت إليه، في موضعين اثنين إحالتين على أعمال سابقة بدورها لكن أعيد نشرها حديثا على الشبكة مما يسهل الاطلاع عليها لمن أراد إضافة إلى بعض الهوامش التحيينية (هذا تقديم لنشر آخر للنص نشرا إليكترونيا بـ"الحوار المتمدن" في سبتمبر 2007).

 

ما يشبه التقديم ببعض ما ورد في التنزيل

ورد في سورة الروم  (1-3) من سور القرآن الكريم ما يلي : (الــــم؛ غلبت الروم؛ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون). وهناك قراءتان اثنتان حسب بناء أحد الفعلين ("غلبت  و"يغلبون")  للمعلوم أو للمجهول، يترتب عنهما فهمان متشابهان هما إما "اندحرت الروم، وهم بعد ذلك سينتصرون" وإما  "انتصرت الروم، وهم بعد ذلك سيندحرون".

ولقد ورد في الفصل 11 من سفر التكوين (الآيات: 4- 9) أن بني آدم لعهد عشائر قوم نوح كانوا قد أعلنوها قوميّــةً واحدة، لأمّة واحدة، ذاتِ لغة واحدة؛ فأجمعوا على ذلك، وكانت كلمة واحدة، وبلغة واحدة، فقالوا:

»هيا بنا  نبنِ لنا مدينة ونشيّد بها برجا تكون هامته في كبد السماء».  فرأى رب السماوات والأرضين ما في ذلك من تطاول واستكبار، و جنوح إلى الخروج عن الحكمة من جعل الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا عن طريق الاكتشاف الدائم من طرف بعضهم للبعض الآخر، فقوّض رب السماوات ما صنعت أيديهم، ودكّ البرج  دكّا، وجلا أهله جلاءا في أصقاع الأرض شتاتا، فـــتبلبلت بذلك ألسنتهم، كما شرح ذلك السيوطي صاحب كتاب "المزهر"، وتشعب لسانهم إلى لغات لا تفاهم بين أهلها من شعوب وقبائل، فسُميت تلك المدينة، بسبب  تلك البلبلة، مدينة "بابل" كما جاء في المسلك المذكور من التوراة: (יא,ד : וַיֹּאמְרוּ הָבָה נִבְנֶה-לָּנוּ עִיר, וּמִגְדָּל וְרֹאשׁוֹ בַשָּׁמַיִם, וְנַעֲשֶׂה-לָּנוּ, שֵׁם:  פֶּן-נָפוּץ, עַל-פְּנֵי כָל-הָאָרֶץ.  יא,ה :  וַיֵּרֶד יְהוָה, לִרְאֹת אֶת-הָעִיר וְאֶת-הַמִּגְדָּל, אֲשֶׁר בָּנוּ, בְּנֵי הָאָדָם.  יא,ו :  וַיֹּאמֶר יְהוָה, הֵן עַם אֶחָד וְשָׂפָה אַחַת לְכֻלָּם, וְזֶה, הַחִלָּם לַעֲשׂוֹת; וְעַתָּה לֹא-יִבָּצֵר מֵהֶם, כֹּל אֲשֶׁר יָזְמוּ לַעֲשׂוֹת.  יא,ז :  הָבָה, נֵרְדָה, וְנָבְלָה שָׁם, שְׂפָתָם--אֲשֶׁר לֹא יִשְׁמְעוּ, אִישׁ שְׂפַת רֵעֵהוּ.  יא,ח  : וַיָּפֶץ יְהוָה אֹתָם מִשָּׁם, עַל-פְּנֵי כָל-הָאָרֶץ; וַיַּחְדְּלוּ, לִבְנֹת הָעִיר.  יא,ט  :  עַל-כֵּן קָרָא שְׁמָהּ, בָּבֶל, כִּי-שָׁם בָּלַל יְהוָה, שְׂפַת כָּל-הָאָרֶץ; וּמִשָּׁם הֱפִיצָם יְהוָה, עַל-פְּנֵי כָּל-הָאָרֶץ ).

 

تذكرت هذه القصة التوراتية وأنا أشاهد برج مركز التجارة العالمي بنيويورك، من خلال الشاشة، يتهاوى كرماد سجارة "مارلبورو" الأمريكية، التي هي "سجارة عالمية تجعل من مدخنها شخصية بارزة في العالم" على حد قول إشهار ستــّـيني من القرن الماضي، كان يذاع بلهجة حسّانية على أمواج إذاعة العيون المغربية أيام الاحتلال الاسباني؛ وهو البرج الذي كان يرمز إلى ما كان يرمز إليه، ليس بالنسبة لأمريكا وحدها، ولكن بالنسبة لسائر بني آدم لهذا الجيل المعولم، باعتبار ذلك البرج مركزا عصبيا بالنسبة للمعاملات وللرواج العالمي، وباعتباره يؤوي من البشر ما يمثل جميع الجنسيات، والأجناس، والألوان، و الأديان، والثقافات، لهذا العصر. ولو كنت من القبّاليين الذين يفسرون لضعاف العقول، برياضة الأرقام وحساب الجُـمّـل، أسرارَ السيد "التاريخ"، الذي يصبح أخرس أمام دعاوى المدعين وتُهم المتّهِمين بمجرّد أن يُجري في الكون أفعالـَه خيرا أو شرا، والذين "يكشفون" بتلك الأرقام لعامة ضعاف مكامن مفاجآت المستقبل بعد أن يصبح هذا المستقبل في ذمة الماضي ويظهر في مرآة الانعكاس الخلفي (retroviseur)، كما "يكشفون أسرار الطبيعة في السماوات والأرض بعد أن يقول فيها علمُ العلماء وتجربةُ سعي الانسان قولاً، كما فعل المفسر الحداثي زغلول النجار في تفسيره القبالي لسورة الحديد [أنظر مقالنا في الموضوع في "الحوار المتمدن" http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=107179]، لجعلت من الفصل المذكور في سفر التكوين، ليس مجرد رواية لــ"التاريخ" قصد الاعتبار، ولكن كذلك، وبالخصوص، نبوءة مشفرة بالمستقبل قصد الإنذار.

فقد وردت كلمة "بابل"، التي هي من "السبعين المفردات" (Hapax legomena  أي المفردات التي لا ترد في متن من المتون إلا مرة واحدة) في العهد القديم مرة واحدة لا غير، وقد وردت بالضبط، وعلى وجه التحديد، في الفصل 11، الأية 9، من سفر التكوين، الذي هو السفر رقم 1 من أسفار التوراة، سفر "التاريخ الكلي" الأول، أي من "بدء الخلق" (בראשית ברא אלהים את השמים ואת הארץ ...) إلى أن تحركت عجلات التاريخ لمّا طُرد آدمُ من الجنة ليكسب قوته بعرق جبينه (בזעת אפך תאכל לחם) عقابا له على اتباع رأي زوجته التي أغواها الشيطان، فأكل معها من "شجرة المعرفة" التي نهيا عنها، بما في تلك العجلات من عجلات التاريخ من "عجلة الحروب" التي دشنت حركتها الدكّاكة الأولى لما اصطدم اقتصاد الزراعة المتطور باقتصاد الرعي البدائي من خلال قتل السيد "قابل" الفلاح لآخيه السيد "هابل" الراعي.

أفليست إحداثياتُ عدِّ وترقيمِ الفصول والآيات والأسفار التوراتية على شكل (11 / 09 / 01)، في المكان الذي وردت فيه قصة تخريب برج بابل، تشفيرا لنبوءة تنذر بيوم (11 /09/ 01) أي يوم 11 09 2001، الذي فيه هوى شموخ برج مانهاتان بنيويورك في أول سنة من الألفية كما كان قد هوى برج بابل في بلاد ما بين النهرين بالعراق حسب القصص التوراتي؟

غير أن علاقة الاقتران، في الذهن، بين البرجين، برج بابل وبرج مانهاتان، قباليةً كانت أم أدبيةً تخييلية، تكاد تكون في الحقيقة علاقة عكسية فيما عدا ما يرمز إليه ذانك البرجان من جنوح الإنس للنفوذ في أقطار السماوات تجسيدا لإرادة القوة. ذلك أن ساكنة برج بابل كانوا، حسب الرواية التوراية، أمة واحدة وأُحادية، لا تعرف وجودا، لا في التصوّر ولا في العالم الخارجي، لغير "لغة واحدة"، و"هوية واحدة"؛ وسقوطُ البرج البابلي، وخرابُ مدينة بابل الأرضية بمقتضى لعنة من رب السماوات والأرضين، وما نتج عن ذلك من إجلاء لبني آدم في أصقاع الأرض شتاتا، هو ما أدى إلى ترسيخ تشعّب الشعوب والقبائل والقوميات واللغات المختلفة، حسب نفس الرواية. أما مُعـمّـروا برج مركز التجارة العالمي بمدينة نيويوركَ، الممنوعة من الصرف لعلة العُجمة، فيشكلون في الواقع عكاظا من الجنيسات والأجناس، والملل والنحل، و"اللغات الأم" المختلفات، تجمعهم، مع ذلك، مواضعتان عمليتان : مواضعة "الانجليزية-فقط" (English Only) على مستوى التواصل، وهي مواضعة تتمثل في استعمال "لغة وظيفة تعارفية" واحدة هي الإنجليزية في التواصل العام والمؤسسي مهما كانت لغة الأم أو الجماعة الفرعية، ثم مواضعة "النمط الأمريكي في العيش" (The American Way of Life) على مستوى التعامل والتدبير وقضاء الحاجات، وذلك مهما اختلفت الملل والنحل والثقافات فيما يتعلق بشؤون الحياة الشخصية للأفراد أوالجماعات الأثنية والدينية والثقافية.

وإذا كان دكُّ برج بابل لعنة ربانية من المدبر الحكيم، حسب رواية التوراة، ذلك المدبر الذي تقول حكمته من خلال التنزيل {يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا؛ إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فجعل من الاختلاف مصدر خير وغنىً وعمارة للدنيا، و سبب صلاح أهلها ودوام حالها (كما جاء في "الرسالة الجامعة" لإخوان الصفاء وخلان الوفاء)، فإن نسف برج مركز التجارة العالمي قد تم بفعل عملية إرهابية خرقاء من فعل الإنسان، حسب ما تناقلته وكالات الأنباء العالمية وفي مقدمتها CNN، نقلا عن مصادر الإدارة الأمريكية. وإذا كان قد أسفر سقوط برج بابل عن ترسيخ تشعّـب بني آدم إلى شعوب وقبائل لم تفلح في استكمال أوجه التعارف فيما بينها كما أرادته الحكمة الربانية، وأسفر ذلك السقوط عن تشعب ألسنة أولئك القوم إلى لغات لم ينجز بعد أهلها شيئا ذا بال فيما تقتضيه الحكمة من جسور التفاهم بينهم، فإن تدمير برج مركز التجارة العالمي قد جعل مختلف الشعوب والقبائل، تتحد في هذا "الأيلول الأسود" على النطاق العالمي حول خطاب واحد تُعبّر عنه مختلف اللغات، التي هي اليوم واقع قائم في المعمور؛ إنه خطاب الإدانة بصريح اللغات، مهما اختلف ما تبطنه النيات؛ إدانة فِعلـة التخريب والتدمير الأعمى والأخرق. لقد أدان الجميع الفعلة مهما اختلفت الحسابات والنيات والدوافع المباشرة الحقيقية لمُصدري تلك الإدانات بمن فيهم من أصدرها تقيّة وفرا بعد الكر. إنها المرة الأولى في تاريخ ما عرف في عصرنا هذا "بالعمل الإرهابي" يتم فيها تنفيد عملية "ناجحة" إلى حدود بهرت الألباب، فيتبرأ منها، مع ذلك جميع الأظناء كافة، بدل أن تتنازع في شأن تبني بطولتِـها أطرافٌ شتى. فلكأن الطرف أو الأطراف المدبرة والمتواطئة من قريب أو من بعيد، قد شعرت - بعد حين - كما لو أنها كانت قد سُـخّـرت من طرف كف عفريت خفي للقيام بفعل أدركت بعد فوات الأوان أن أبعاده تتعدى بشكل درامي حدود ما كانت تتصوره من آفاق.

بعد الذهول الذي أصاب الأذهان فور يوم قيّامة يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر، الذي يذكّـر بطابعه الكارثي بعض القباليين بيوم التاسع من غشت (תשע מאב) لسنتي 70 و 1945  الميلاديتين، والذي لُــقـِّب على الفور بــ"الثلاثاء الأسود" حملا له على اليوم لا على الشهر، تجنبا - فيما يبدو- للالتباس بــ"سبتمبر الأسود"، بما ميز ذلك الذهول في بعض الأحيان من ردود فعل هستيرية، بعد كل ذلك بدأ سكان القرية الصغيرة - وهم الآن شعوب وقبائل وملل ونحل، كما هو معلوم - يتساءلون عن النبإ العظيم، وعن أسباب الطاعون، المرض الملعون، كما في خرافة لافونطين.

في هذا الباب، تم تبادلٌ إليكتروني بين كاتب هذه السطور، وهو من هذه الضفة، وزميل له في مهنة البحث الأكاديمي وهو من الضفة الأخرى، نورده هنا في صيغته الحيّة مترجما إلى العربية دون تشذيب أو تهذيب، وذلك كعينة لتلك التساؤلات في ظل ما هو قائم من اختلاف الألسنة والملل والقوميات والثقافات والقناعات.

 

حوار إليكتروني بين ابني ضفتين حول الواقعة في حينها

 

---  ابن الضفة الأخرى (  14 /09/ 2001؛  01:56س):

"(...)  يؤسفني، يا محمد، أن أعلم أنك تعاني من آلام الظهر (...). أنا الآن بصدد قراءة مقال من مقالات ألان برانس Alain Prince. إنه مقال صعب القراءة؛ إلا أنه مهم، وهو بعنـــــوان "metrical forms" ("أوزان عروضية"). ويتمثل قسمه الثاني في مناقشة منهجية لأبحر العروض العربي. إنها معالجة لا تعتمد البتة نظامَ الدوائر على الطريقة الخليلية (...) إلخ. أما من جهة أخرى، فمنذ ثلاثة أيام وأنفاسنا محبوسة هنا أمام مشاهد بشاعة الرعب على الشاشة. لقد أخبرني موريس هالي (Morris Halle من معهد MIT، بوسطن) بأن والدة زميلتنا باتريسيا كيتينغ (Paricia Keating، لسانية من جامعة كاليفورنيا بـــ'لوس أنجلس') كانت ضمن ركاب إحدى الطائرات التي تم تحويلها. وعلى  الشاشة، رأينا أناسا يرقصون في أزقة فلسطين فرحا واغتباطا لما وقع! بل  إن من الصحفيين من هم مستعدون لإذكاء المزيد من نيران رعب الكراهية، وذلك حينما يتحدثون بلهجة متعطشة للرد عن طريق الحرب. لقد أورد أحدهم أمس على الشاشة إمكانية قنبلة كابول! أفلم ير ذلك الغبي أن الناس الذين ستصيبهم القنابل هناك لن يكونوا، في النهاية، مرة أخرى، سوى مستخدمي مكاتب، وأمهات، وربات بيوت؟ إلى حدود هذه الساعة تقتصر الصحافة والقنوات التلفزية على عرض مشاهد التغطية وعلى تصريف الردود العاطفية والخطابية؛ وليس هناك بالمقابل إلا النزر القليل من التحاليل والأفكار...إلخ.

 

== ابن هذه الضفة ( 15 /09/ 2001، 13:56س):

"(...) لا حدود للمظاهر الممكنة لبشاعة الرعب، بما أنه لا حدود للمظاهر الممكنة للغباء والسفاهة؛ إنما هي الأشكال والأوجه تتعدد إلى ما لا نهاية، حسب الزمان والمكان. في مقالي الذي  كنت قد حدثتك عنه في يوليوز الماضي، ونحن نتجاذب أطراف الحديث بزنقة "كلاسير" (Rue Glacière بباريس)، والمتعلق بالحملة التي كان قد قادها في الربيع الماضي بعض نشطاء الفكر الأصولي المتشدد في المشرق العربي أولا، ثم بعد ذلك في المغرب، ضد مسلسل البوكيمون (Pokemon)، باعتبار هذا المسلسل، في نظر أولئك وهؤلاء، مؤامرة صهيونية ضد القيم الإسلامية ]أنظـر جريدة "الأحداث المغربية": 27 أبريل 2001، ص3؛ و كذلك "الحوار المتمدن" : 27 غشت 2007 http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=107179]، كنت قد حاولت لفت انتباه المثقفين الإسلاميين المتنورين إلى أن تلك الحملة السريالية ضد كائنات البوكيمون الكارتونية كانت متداخلة ومتوازية في الزمن مع "غزوة الأصنام" التي خرج من خلالها الطالبان في الربيع الماضي ( مارس 2001) لتطهير أرض الإسلام من تماثيل بوذا العملاقة العريقة في "بايمان". فلكي أبرز - على مستوى مغزى التاريخ، كما يبدو لي في رمزياته - البعدَ الحقيقيَّ لمثل تلك الفعال الشنيعة في  حق الحضارة الإنسانية من جهة، ولكي أبين، بالمثال، إلى أي درجة يحصل في الغالب أن تقصُرَ بصيرةُ مَن يعتبرون أنفسهم من متنوري جيل من الأجيال عن إدراك الأبعاد الحقيقية لكثير من الأحداث والحركات حينما تكون في المهد، عمدتُ إلى إقامة التقابل المقارن، في نوع من الإبداعية والتخييل الأدبي، ما بين "غزوة الأصنام" التي شنها الطالبان باسم " الله أكبر" و"لا إله إلا الله" في مارس 2001 ضد تماثيل بوذا من جهة، وتخريب بغداد، جوهرة الحضارة الاسلامية في القرن الثالث عشر الميلادي على يد جيل قديم من  رهط "الطالبان" عُرف في التاريخ باسم "التتر" أو " المغول" من جهة أخرى. فقبل أن يخــرّ برجُ مركز التجارة العالمي - وهو مجمع الأجناس والجنسيات والملل والنحل - تحت ضربات صادومات (béliers) ملتهبة عملاقة ملؤها ووقودها الناس والكيروزين، فيتهاوى على سطح الغبراء في رمشة عين، مقبرا معه حوالي 7000 نفس ما بين آدمي وآدمية ينتمون إلى 62 جنسية، كانت معركةٌ بالمدافع والصواريخ قد شُـنـّت قبل ذلك بشهور لإسقاط رؤوس وأشلاء تماثيل بوذا العريقة، وذلك باسم الإسلام، وأمام صمت المسلمين المتنورين، وبنفس الطريقة التي  كان قد عالج بها منجنيق التتر معالم بغداد الإسلامية باسم ماذا؟ ...  باسم بوذا؟

وكما أن الحركة التترية المدمّرة التي خربت بغداد قبل قرون كانت قد مـهّـدت لها، في عين المكان، ما بين منطقة الخليج واليمن وجبال الديلم شمال إيران، تواطؤاتٌ موضوعية لأيديولوجيتيٍ البداوة والجفاوة والشظف لدى حركتي "القرامطة" ثم "الحشاشين"، فإن الحركة الحفيدة التي جاهدت في تماثيل بوذا باسم " الإمارة الإسلامية" لــ"المولا عمر" التي تـُـوجه إليها اليوم أصابع الاتهام في واقعة نسف مركز التجارة العالمي، رمز عظمة العمّ سام، كانت مع ذلك قد استفادت من تبني ساسة سابقين من ساسة هذا الأخير لها لمّا كانت ما تزال في مرحلة المهد وضعف الصبى. فهو الذي "علمها الرماية" لأغراض انتهازية في مرحلة جيل مروجي حشائش الأفيون (على غرار الحشاشين)، رجال زعيم الحرب، "قلب الدين حيكماتيار"، إلى أن اشتد ساعدها. ليس أمرا جوهريا أن يحمِــل المولودُ حينما تمّ تبنيه وتدليلـُه من طرف العمّ سام خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تسمية "الأصولية المتشددة" عامة (نظاما كانت أم معارضة) أو تسمية "المجاهدين الأفغان" ( ضد شيوعية الروس) على الخصوص، أو تسمية "الطالبان" على الأخص. وكما أن السحر ينتهي دائما بالانقلاب على الساحر، وأن كيد الكائد ينتهي بالعودة في نحره، كما ينقلب مقلاع البوميران (boomerang) على راميه، فإن هذا الابن الذي كان مدللا بالتبني لغايات جد انتهازية أبعد ما تكون عن سواد عيني خاتم الأنبياء والمرسلين وعن رَبعة قده - كما وصفت ذلك السيرة- هو نفس الابن الذي انتهى، بعد التخلي عنه، إلى ترويج جديد لرصيد منظومة قديمة من التعاليم الديماغوجية التبسيطية التسطيحية، فأخذ ينشر خطاباتها بالورق، والأشرطة، والأوداج المنتفخة، في جميع بؤر الجهل والبؤس والحرمان والإذلال اليومي لبني آدم على وجه الأرض. ومن بين الأقانيم العامية لتلك التعاليم أن الكون عراك بين جوهر الخير وجوهر الشر، وأن الشيطان إله للشر، وأن التجسيد المحسوس للشيطان في هذا الجيل هو أمريكا بكل امتداداتها وتجلياتها، وأن من تلك الامتدادات والتجليات دولة إسرائيل. فأمريكا، إذن، أصل الشر ومصدر كل أنواع البؤس والحرمان التي ابتليت بها الشعوب، شعوب "دار الخير". وبما أن أمريكا كانت، بحكم كونها القوة الاقتصادية والعسكرية والعلمية الأولى على الكوكب الأرضي، قد ورّطت نفسها في أكثر صراعات العالم اشتعالا وتعقيدا، كالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والصراع البوسني-الصربي، ومختلف أوجه المعضلة البلقانية، بكل ما يكمن وراء تلك الصراعات من مصالح متعددة ومتعارضة، وبكل ما تولده من بؤس إنساني، فإنها، أي  أمريكا، تكون بذلك الانخراط عرضة "ضعيفة المناعة" من الناحية المعنوية والأخلاقية على مستوى المسؤولية أمام كل خطاب تبسيطي وعامّي من قبيل ذلك الخطاب الديماغوجي الشعبوي الذي يروجه ويقتات على عائداته المعنوية صنيعها المدلل سابقا. ويصدق هذا خصوصا بمقدار ما أخفقت أمريكا - على مستوى العلاقات الدولية، وعلى مستوى المواقف الدبلوماسية برمزيتها الإعلامية - في لعب الدور المتوازن الذي تفرضه عليها منزلتها الدولية القائمة موضوعيا، وكذا طموحها المحرك لسياستها. فما وجه الغرابة، إذن، إذا ما انتهى البؤس والحرمان والإذلال اليومي - على أرضية تربية عدة أجيال عاشت في ترحال دائم، من ركام خراب إلى ركام خراب - إلى أن يجعل أحفاد هذه الأجيال المنكوبة تنعـم، في صميم شقاوتها، بسحر الخطاب التبسيطي، فينطلق شبابها الفلسطيني الذي تعتبر مشاهدُ الانهيار والخراب والدمار اليومي أكثر ألفة لديه من مشاهد قاعة الدرس أو المخبر أو المدرج، ليرقص في نشوة الجاهل بجواهر الأشياء رقصة نصر وهمي وهو يشاهد للمرة الأولى والوحيدة صورةً تتداعى من خلالها عماد رمز من رموز أصل الشر كله- كما أصبح يتصوره- وهو الذي عوّد العالمَ على أن يشكل موضوعَ مثل تلك الصور الخرابية بلحمه ودمائه، وبوتيرة يومية مطردة؟ ألا فلأعد لترديدها: لا حدود للبشاعة ولا نهاية للغباء.

 

--- ابن الضفة الأخرى  ( 16 /09/ 2001؛ 22:د57س):

« (...) أشكرك على خطابك الطويل. لقد قرأته باهتمام كبير. أتفق معك في بعض ما جاء فيه؛ لكني أختلف معك في بعض الأمور. سأتحدث عن نقطة واحدة من نقط الاختلاف، فأقول: يبدو أنه ليس من الثابت أن البوذية قد لعبت دورا كذلك الذي أسندتـَـه إليها في تخريب عاصمة الخلافة الخلافة الإسلامية، بغداد، على يد المغول. لقد استقيت معلوماتي من كتاب عن تاريخ المغول كنت قد اقتنيته من مكتبة Blackwell بأوكسفورد على هامش إقامة العمل التي كُنا  قد قضيناها معا في مخبر الصوتيات بجامعة أوكسفورد سنة 1995 حينما قمت أنت باقتناء كتاب  أورشليم (Jerusalem) لموسى مانديلسون، أفتذكر ذلك؟ إنه كتاب (D.Morgan 1986. The Mongols. Blackwell). في البداية كان المغول يدينون بوجه من أوجه الشامانية، لا يُعرف عنه اليوم إلا القليل. صحيح أن قسما منهم قد اعتنق البوذية فيما بعد دون التخلي عن الأسس الشامانية. وفيما يتعلق بمسألة الدين والعقيدة - وكما كان عليه الشأن عند الإغريق والرومان - كان سلوك أجيال المغول لفترة الغزو والفتوحات متسما بالتصرف البراغماتي النفعي، بعيدا عن أي طائفية ملية إقصائية ( المرجع السابق، ص 40-44). إليك ما يقوله المؤلف (ص 158) بخصوص عقيدة الأمير هولاكو الذي خرّب بغداد:

 " يبدو أن عقيدته الدينية لا تتعدى كثيرا العناصر الشامانية المكونة لعقيدة أسلافه، بالرغم مما قيل عن ميولاته البوذية. وبما أن مراسيم تأبينه سنة 1265 قد تخللها تقديم قرابين بشرية، فإن ذلك يسمح لنا بأن نشكك في أن علاقته بالبوذية كانت قد اتسمت بشيء من التمكن والعمق".

أقول باختصار بأن "الأساطير المؤسِسة" (mythes fondateurs) ليست دائما عنصرا ضروريا في كل التوسعات والفتوحات الكبرى ]التي عرفها التاريخ[. لقد لعبت الأيديولوجيا، ربما، دورا في تحميس وتعبئة المغيرين خلال الفتوحات العربية والحملات الصليبية؛ إلا أن الأمر لم يكن كذلك مع الغزو المغولي، ولا مع التوسع الروماني. فالرومان لم يحاربوا يوما من الأيام باسم الاله جوبيتار (Jupiter)، ولا باسم أي ألوهية أخرى من ألوهيات البانـثيون (Pantheon)، مجمع آلهتهم. وبناء على هذا فإن التناظر التماثلي السيميتري الذي أقمتـَـه، في حديثك عن برج بابل، بين المغول والطالبان، لا يعدو أن يكون "كشفا" عبقريا رائعا من الكشوفات البلاغية البيانية. فاستيلاء هولاكو على بغداد لم يكن نصرا للبوذية على الإسلام. إن الطالبان يريدون اليوم فرض نهج ونظام في الحياة قائم على اعتبارات دينية مما يعتقدون؛ أما مغول القرن الثالث عشر، فلا يبدو أنهم كانوا يسعون إلى شيء من ذلك القبيل فيما يخص نهج الناس في حياتهم. إن عصرنا مهووس بالأيديولوجيا،  ولذلك فهو لا يفتأ يـُـسقِـط هوسه ووسواسه ذاك على كل الحقب السالفة.

بالرجوع إلى تماثيل بايمان (Bayman) البوذية التي دمرها الطالبان مؤخرا، علِـمتُ، بالرجوع إلى أحد معاجم الأعلام، أمرا ربما لم يكن في علمك وأنت تحرر خطابك لي. فعلى مشارف التخوم ما بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، سبق لأمير آخر مغولي، هو أورانغزيب ( Aurangzeb)- وكان من سلالة ملكية مسلمة بشمال الهند -  أن قام بتشويه تلك التماثيل بضربات المدافع، إذ كان معروفا بتشدده واضطهاداته الدينية.

 أشكرك مرة أخرى على أفكارك الواردة في ردك الفوري السابق. على كل حال، يشكل الماضي ينبوعا لا ينضب، حافلا بالمادة الخام الصالحة للخطباء والدعاة والديماغوجيين من كل صنف، لكني أشك فيما إذا كان بإمكان ذلك الماضي أن يعلمنا شيئا ذا بال فيما يتعلق بتوجيه خطانا على أرضية الحاضر»

 

== ابن هذه الضفة (17 /09/ 2001؛ 12:22):

«أشكرك على تدقيقاتك الموثقة حول المغول وعلاقتهم بالبوذية. أوافقك - من جهتي- في كثير مما جاء في خطابك زيادة على تلك التوثيقات التي ملأت من خلالها بعض ثغرات ثقافتى العامة؛ إلا أني أختلف معك  في بعض الاستنتاجات و التأويلات. فالفكرة الرئيسية التي يحاول خطابي السابق التسطير على أهميتها هي أن يقظة العقول الأكثر استنارة والأشد انخراطا في الشؤون والقضايا العامة لجيل من الأجيال و الأكثر التزاما بها، غالبا ما تفـتـُـر يقظتـُـها فتقصر عن إدراك المعاني والأبعاد والمرامي الحقيقية البعيدة لبعض الأحداث والحركات والوقائع المؤثـّـثة لعصرها، وذلك بالضبط تحت تأثير السحب الأيديولوجية وما تولّده من حسابات مصلحية واتنهازية ظرفية. أما بقية ما سقته في معرض ردي السابق، مما عدا هذه الفكرة، التي هي مغزاه، فلا يعدو أن يكون - كما أشرتُ إلى ذلك صراحة - نوعا من "التخييلات الإبداعية" التي يتعين أخذها على ذلك المستوى من الرمزية، و ليس باعتبارها تحقيقات تأريخية بالمفهوم الأنطلوجي للحقيقة التاريخية، التي لا أعتقد أنها في المتناول على الإطلاق بذلك المفهوم. فإذا ما تمثلنا موقف كل من أولئك الذين محوا معالم بغداد الإسلامية، و موقف أولئك الذين نسفوا برج مانهاتان، إزاء حصيلة ما أبدعته أجيال بني آدم وراكمته بكدّها وآلامها ، وهي أكرم الخلق، في ميادين العلم والعمران، والفن والخطط التدبيرية، والنظم السلطانية، من بدائع الحضارة بمفهومها الكوني، فإن معرفة دقائق المنظومات الأيديولوجية المسخّرة بشكل منهجي أو تلفيقي لتأطير ذلك الموقف التخريبي المدمر تبقى ذات أهمية  ثانوية، سواء أكانت أوجه تلك الأيدلولوجيات دوغمائية عقدية عمادُها نصوص وطقوس، أم كانت زمنية براغمانية ونفعية. ذلك أن هذا الوجه الأخير، أي البراغماتية - ولعل القوة العالمية الأولى اليوم من معتنقيه - يشكل بدوره وجها نمطيا من أوجه الأيديولوجيا. المهم بالنسبة للمغزى السالف الذكر هو أن هؤلاء وأولئك من أجيال التخريب ومعاداة الحضارة كانوا قد ترعرعوا تدريجيا - كحركات ناشئة - تحت أعين الأطراف التي ستصبح فيما بعد ضحايا لهم على طريقة هلاك الثيران الثلاثة، الأبيض والأسود والأحمر. لقد بنى دائما أولئك وهؤلاء قوتهم الصاعدة بالاعتماد- بالضبط - على بعض الحسابات الانتهازية لتلك الأطراف نفسها التي ستصبح ضحايا لهم (فلنتذكر حسابات السادة "بني صدر"، و"قطبزاده" و"باختيار" مع ملالي الحركة الخمينية، وهي أقل الحسابات درامية على كل حال).

لقد قلتَ في خطابك الأول بأنكم تعيشون هناك في ضفّتكم تحت طوفان وابل من الضجيج الإعلامي المفتقر لأدنى أبعاد التحليل المُعمِـل للعقل والبصيرة. أنا أتساءل الآن - بناء على فكرة المغزى الجوهري السابق - عما إذا كانت "التحليلات"حينما تحُـلّ مرحلتها بانتهاء لحظة المفاجئة والذهول - ستفلح فعلا في يوم ما في اختراق ما يكون قد تلبّـد من سحب الوساوس الايديولوجية التي ستتغول بفعل ماحدث وبفعل أدخنة نيران الحرب، وقعقعة طبولها مما يبدوا أن العالم مقبل عليه بكل ما يؤججه مناخ الحرب من عواطف ملتهبة ومصالح ومخاوف، وذلك حتى يتسنى لتلك "التحليلات" أن تنفذ إلى صميم الدلالات الحقيقية لواقعة برج مانهاتن على مستوى تطور علاقات المجتمع الدولي المعولم (...)". يُتبع

---------------

 

القسم الثاني، ويتضمن عنوانين فرعيين هما:

 

-- "تعليق ما بعد الحوار الإليكتروني"

 

-- "موقع التربية والتعليم من كل هذا"

 

وها هو الرابط نحوه:

https://orbinah.blog4ever.com/en-arabe-2-que-signifie-le-11-sptembre-2001-aujourd-hui-en-2015



11/09/2015
3 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 347 autres membres