(En arabe) La tragédie de Saddam Hussein
التراجيديا واقعة شرقية والإبداع الدرامي موهبة غربية
(تراجيديا صدّام حسين)
فاتح يناير 2004
وأنا أشاهد على الشاشة يوم 14 ديسمبر 2003 يدَيّ الطبيب العسكري الأمريكي الأصلع بقُفازيهما تعبثان بلحية وشعر صدام حسين وهو أشعت أغبر، وبفكّيه وأضراسه كما يفعل البرغاز وهو يتفحّص ثنابا وأضراس دابّة معروضة للبيع، أو كما كان يفعل ملّاكو/"لاتفونديو" مزارع القطن وهم يتفحصون أضراس العبيد المعروضين للبيع على متن باخرة راسية في أحد شواطئ خليج فلوريدا وقد قدمتْ على التوّ من جزيرة سان-لوي السينغالية؛ وأنا أشاهد عيني صدّام الحاضر/الغاضب شاردتين شرودَ عينيّ من نسي التاريخ أو أنسي ذكره، بعد أن لبث في الجُحر كالجُرذ مالبث، كما لو أن صدمة من كان صدّاما فأضحى مصدوما قد أتلفَـت مساحةَ ذاكرته، وهو المغرمُ بالتاريخ، الناقشُ لإسمه على معالمه - على غرار طبع حمورابي بخاتمه على كل لبنة من آجُر قصور بابل – إذْ استدوَن سيرة حياته في ثمانية عشر مجلدا واستخلدَ كريات دمه الحمراء بين دفتي مصحفه الدمويِّ المداد...؛ وأنا أشاطر بني جلدتي من الآدميين عبرَ العالم مشاهدة أكبر بثّ وتوزيع لأبشع مشاهد الإهانة العموميّة في تاريخ العالمين، قَفَزَتْ إلى ذاكرتي على التوّ مشاهدُ وأصداءٌ تَغوّلتْ عليّ واحتدمت.
تذكرت إبنتي - وكان عمرها حينئذ ما دون الأربع سنوات - لما إلتحقتْ بي أسرتي في باريس في صائفة 1991 - حينما أخذتْ ذات مرة تخبط برجليها في جرأة طفولية - أمام اندهاش مستقلّي عربة مترو العاصمة باريس التي كانت سلطاتها الميترانية حديثةّ الخروج من حرب العراق الأولى - وتردّد قولَها: [ازطمْ، ازطمْ ياصدّام! ٠ ازطمْ، ازطمْ ياصدّام!].
تذكرت الحرَج الذي سبّبه لي ذلك الإنعكاسُ البريء للسان حال الشارع المغربي بمسيراته المليونية على لسان طفلة ما دون الرابعة تشيد باسم صدّام في عربة ميطرو والناس جالسون ينظرون ويسمعون، وذلك في عُقر دار من خاضوا الحرب ضد البطل صدّام، ومن تصدّتْ سلطاتُهم بحزم لمنع موجة طلبات تسجيل المواليد الجدُد من الذكور في صفوف المهاجرين بإسم باسم البطل "صدّام"؛ وأنا الذي خضعتُ قبل شهرين من تلك الواقعة لحوالي ساعة من الاستنطاق لدى المصالح الخاصة بمطار "أورلي" لمجرّد أنّ جواز سفري يُزيّنه - بمحض الصدفة - نسران في صفحتين متقابلتين: نسرُ التأشيرة العراقية بمناسبة سفري إلى بغداد في إحدى دورات مُلتقى "المربد" ونسرُ التأشيرة الأمريكية بمناسبة إقامة بحثٍ بإحدى الجامعات الأمريكية قبل بضعة أشهر من سفري إلى سنة 1991 أي حوالي سنة فقط بعد زيارة بغداد. تلك الإقامة في تلك الجامعة التي عايشت خلالها بين ظهراني الأمريكيين استعداداتِ الأمريكيين على طريقتهم وبقيادة بوش الأب للحرب العراقية الأولى، بما في تلك الاستعدادات من حملات إشهارية في باحات الجامعة قصد حشد انخراط الطلبة في الجندية من جهة، ومن مظاهرات مناهضة الحرب من جهة ثانية، ومن محاضرات نوام تشومسكي بمدينة "نيوهامشاير" للتنديد بالسياسة الخارجية الأمريكية من جهة ثالثة، إلخ..
تذكرت بالخصوص، وعن طريق التداعي، بعض مشاهد وفصول تلك الرحلة البغدادية المذكورة: كان الفضاء هو "قصر المؤتمرات ببغداد"، غير بعيد عن "فندق الرشيد"، حيث كانت تنزل فئةٌ قُطرية من نوع الكائنات الموسمية كان يعرف الواحد منهم في بغداد حينئذ باسم "الأخ المربدي"، وهو لقب يُجمع على "مرابدة". وكان قد شاء اتفاق دافع الفضول وسخرية الأقدار أن أشاطر تلك الكائنات في ذلك الموسم من نهاية الثمانينات صفتهم وعالمهم بصفتي "مربديا" للمرة الأولى والأخيرة، بالرغم من أنه لم تكن لي أي صفة من صفات شروط الإنتماء الطوطمي إلى ذلك العالم الخاصّ؛ إذ لم يكن يجمعني، لا بالنقد ولا بالإبداع، اللذين يخولان تلك الصفة، إلا مسافات الخير والإحسان، وحسن الجوار، وما يفرضه كل ذلك من آيات التيقار.
كانت "الكائنات المربدية" ذاتَ صبيحة بغدادية موزعةً كالعادة ما بين المقصف لتناول ما تيسّر من المرطِّبات من حين لآخر، وبين جنبات القبة الفارهة لقصر المؤتمرات حيث كان يغطس الواحد منهم في ثنايا أحضان أريكة حمراء اللون مخمليّة القماش تحت الوقع الصارخ للأضواء الفـجّة الكاشفة المنبعثة من كل صوب، وذلك لسماع طوابير محترفي مهنة الشعر وممتهنيه من المربديّين، يتجشؤون قوافيهم البيترودولارية، وتنثُـر أشداقهم المطّاطية زبدَ ورذاذ نقائضهم المربدية، ليس ضدّ جرير، ولا ضد الفرزدق، ولا ضدّ نُمير، ولا ضد كعب، ولا ضد كلاب، ولا ضد أنف الناقة، ولكن ضد... "العـــدوّ الفارسي"، وتمجيدًا لبطل "أمّ المعارك"، "معركة الفاوْ" الحاسمة، التي كانت قد وضعَت أوزارها على التو، والتي حصل للمربديين شرفُ الوقوف على أرض معركتها المنبسطة الكافكاوية التي تجلّ عن الوصف؛ إنه البطل صدّام [ازطمْ، ازطمْ ياصدّام!]. وكان من بين من بايعتْ قوافيه وتفعيلاتُه تحت سقف تلك القبة البطلَ صدّام في ذلك العرس المربدي الذي لا يقلّ كافكاوية عن أرض معركة الفاو، شاعرٌ فذّ كان قد قضى ما ولّى من عمره في مبايعة ألف غانية وغانية، ما بين "أنت لي"، و "طفولة نهد"، و"قالت لي السمراء" وغير ذلك من الدواوين الأولى التي اقتنيتها في فترة المراهقة. نذكره بإحسان، وعن صدق نيّة، بعد أن لبّى نداء دار البقاء؛ لأنه- مهما كان الأمر - كان من خلال دواوينه المذكورة آخر شعراء هذا الجيل من أجيال أمّة ضحكت من تيهها الأمَمُ، إذ لم يتّخذوا من العبث بالمفردات، تركيباً هذيانياً وتصفيفا كتابياً قناعا لستر عورة الفقر الفنّي وبؤس القريحة والتدجيل الفكري.
واصل الشاعرُ المبايعُ الصدحَ بقوافي قصيدته التي كان عنوانها: "أيها الرجل". وما أدراك من الرجلُ! ومن عسى أن يكون الرجل، من غير صدّام؟ والحال أن الشاعر كان قد أنفقَ العمرَ في مدح ألف غانية وغانية؛ فلما التفت إلى التغزّل بجنس الذكـر عمِد إلى تعريف الكلمة بلام تعريفٍ تستغرق جنسَ ما تدخُل عليه، فلم يقل: "يارجلُ" باستعمال النكرة المقصودة!
وما أن وصل صُداح الشاعر المتغزّل مادحاً، والمادحِ متغزّلا، إلى المسلك الذي يقول فيه "... ويدخل صدّام! ويدخل صدّام!..."، حتى شُـرِعَ بابُ الوفود الرسمية في عمق قِبلة القاعة؛ فإذا بصدّام يدخل فعلا لحما ودماً، وعظاما ولحماً وشارباً أسطوريا استنسخَه العراقيون لعهده، ببذلته العسكرية الخضراء، أمام انبهار المرابدة الأماجِد، الذين هبوا من ثنايا آرائكهم الحمراء مصفقين تصفيقا مرعدا ومدويا. تقدم صدّام وهو في قلبِ درع متحرك من الحرَس الشِداد الغلاظ يتطاير الشرَر من أعينهم بينما صدّام يبتسم ابتسامةَ إشراقة صباحية غيرَ عابئ بوجودهم، وهو "يبحث لنفسه" تحت التصفيقات عن مقعد في الصف الأمامي، لكن إلى جانب أبناء الشعب، بعيدا عن كل بروتوكول!
كانت حرارة التصفيقات وحدّتها تُنجِّم قصيدَة الشاعر تنجيماً، تفعِلةً تفعِلةً. وما أن أنهى الشاعرُ أداءَ دوره ورقمه حتى ذُعِرَ الناس لمّا قصف أسماعَهم صوتٌ هيستيري انطلق من إحدى الجنبات الخلفية للقاعة مردّدا شعارات حماسيّة جنونيّة باللهجة العراقية احتفاءً بالرجل الذي يقتحم صداه الأكبادَ إذا لم يجدْ صدىً في القلوب. علمنا بعد خروجنا من القاعة بأن الزمن والحركة كانا قد تجمّدا منذ ما يقرب نصف ساعة قبل دخول صدّام، وطيلةَ الفترة التي قضاها يستمع إلى قريض الشاعر المبايِع. وقد بقي، بحكم ذلك التجميد، أحدُ زملائنا، وهو من شعراء مدينة وجدة، طيلة تلك المدّة حبيس فضاء بيت الراحة، حيث باغثـتْه الأقدار لمّا قُضي الأمرُ بأن يتجمّد كل كائن في النقطة والوضعية التي كانت من حظّه في اللحظة التي قُدِّرت تقديرا.
تذكرت ذلك الوجه المشرق البشوش الصبوح الوضاح، الذي أحبّه المبدعون والنقاد بقدرما أحبّوا نِعمَه؛ وتذكرت صوَره العملاقة التي كانت الواحدة منها تشغل واجــــهة خلفية كاملة لبعض عمارات بغداد. تذكرت كذلك أوجه المفارقة الدائمة ما بين مظاهر "سيّاسة القرب" وواقع شعور الذُعر والرهبة والخوف المستولي على الأكباد في بغداد والبصرة. تذكرت، من أوجه ذلك، أن جوازات "المرابدة" كانت تتمّ مصادرتُها بمجرد حلولهم في المطار مقابل جذاذة مرجعية؛ وكان المرابدة يجدون ذلك عاديا. وتذكرت أني طلبتُ يوما من زوج شبابيّ ممّن توسّمت فيهم عدمَ النقمة على المرابدة وعربدتِهم في فنادق "الرشيد"، و"شيراتون" و"ميرامار"، و"المنصور"، أن يلتقط لي صورة على إحدى قناطر نهر دجلة قرب كورنيش أبي نواس فأجاب: "لا ياأخي؛ أنا آسف؛ خاف اتورّط". إنه يخاف أن يتورّط إن هو أخذ لي صورة في مكان عمومي! تذكرت كذلك جولتي في شوارع بغداد وما يتولّد خلالها من مشاعر البؤس والحصار، والرعب والإرهاب. فأما الإرهاب فكان يتجلّى بالنسبة لي في السلوك العدواني لأصحاب السيّارات الذين لايسمحون للراجلين بقطع الطريق، الذي يُعتبر عُبُوره في كل مرّة مغامرة جديدة. وأما الحصار، فمن حيث إنك مجردٌ من وثائق هويّتك. ولم يكن ذلك من حيث إن القانون العراقي لا يُلزم بحمل بطاقة الهوية ويكتفي - عند المساءلة إذا ما حدث حادثٌ - بأخذ التصريحات والتصريح بالشرف، كما كما خبرتُ ذلك بعد ما يربو عن سنة في أمريكا لما ضللتُ السبيل إلى منزلي في أول ليلة حللت بها في مدينة أمهارست الجامعية، فأوصلتني دورية الأمن بعد أن طلبتْ مني شفهيا معلوماتٍ عن هويّتي ووضعيتي دون طلب وثائق، ولكن لأن وثائقك هناك في بغداد تُعتقل في المطار وتسلّم لك جُذاذة مكانها. وأنت محاصر أيضا من حيث إنك محروم من العثور في كامل بغداد، التي تقاطعت فيها يوما سُبل الشرق والغرب والشمال والجنوب، على صحيفة أو مجلة أجنبية، وأنت من تعوّدَ في المغرب على صحافة الشرق، بما فيها صحافة العراق، وصحافة الغرب من فرانكوفونية وأنجلوفونية، ومن حيث إن الناس ينظرون إلى هيئتك السياحية الصفيقةِ شزْراً لأن سنين الحرب وأشياء أخرى قد ميّزت قسماتِ أوجهِهم المشظوفة عن أوجه الكائنات المربدية التي كان نزُق التهافت يتطاير من أعينها الغبية.
وكان للحصار وجه آخر عمَلي: في كلّ صباح، تقتحم عليك غُرفتَكَ من أسفل دفة الباب رزمةٌ من الصحف البغدادية وغير البغدادية تقول كلها نفس الشيء عن "الأخ الرئيس"، وعن "أم المعارك"، معركة الفاو، وعن معركة "القادسية"، وعن "ملتقى المربد" ونشاط المرابدة وتصريحاتهم، وهو نفس ما يعاود اقتحام غرفتك عليك ليلاَ من خلال نافذة الشاشة التي تشاهد من خلالها ليلا ما تكون قد عشته حيّا بالنهار حينما يتزاحم المرابدة في تحرّكاتهم على الظهور أمام الكاميرا.
ذات يومٍ من أيام ذلك الملتقى المربدي المعربِد، قام أحد أبناء صدّام، ولعلّه عُدَيّ، بصَقرِ ضابط من الضبّاط المقرّبين صقراً بعصاً على رأسه فأرداه قتيلا في الحال كما يُقتل الثعبان؛ فبادر صدّام، على الفور، باعتقال ابنه بنفسه في منزله خوفاً من أن يؤدي حُبّ الشعب لعشيرة الرئيس إلى إفلات القاتل من صرامة العقاب إذا ما تولّتْ العدالة أمرَه - كما بيّنتٌ ذلك الصحافة! وفي الغداة تقرأ في رزمة الصحف المسرَّبة من تحت دفة باب غرفة الفندق رسالة مفتوحة من وزير العدل "حادّة اللهجة" إلى رئيس الجمهورية، الأخ صدّام، وتقول من بين ما تقول: "يا صدّام! إننا نخاف على ابنك من صرامة عَدلك". وبعد يوم آخر أو يومين، يقرأ العراقيون ومعهم المربديون من جديد في الصحف أن عشيرة الضابط المقتول بضربة عصاً كالثعبان قد حطّـت رِحالها وخيّمت في فناء قصر الرئيس مطالبة إياه بالإفراج فورا عن الابن القاتل لأنها تعلمُ أنه "قد فعل ما فعل تحت وطأة الغضب وهو في مقتبل الشباب". وفي إطار هذه المزايدة تحرّك بعض المرابدة في بلاد مغرب الشمس من الراسخين في بُرصة المربدة، من أجل استصدار موقف استعطافي يوجَّه للرئيس من طرف ما اعتبروه "وفدا مغربيّا" يدّعون تمثيله، لولا أن البعض الآخر قد نبّههم إلى أن الناس قد حجّوا إلى الملتقى في الموسم فرادى وليس كوفد.
كان المرابدة يقضون سحابة يومهم ما بين قاعات المؤتمرات حيث يتناوبون ما بين مقارعة العدوّ الفارسي بالقوافي أو الملاكمة البُنيوية بين النقاد، وبين أبهاء سلسلة فنادق "أوبرواي"Aurberway ، وبين زيارة المقامات الرسمية والتسابق كل مرة لاستمالة العدسات الإعلامية قصد الإدلاء، باسم هذا الطرف أو ذاك، بدون عِلمه، ببعض الإنطباعات، وبكلّ ما من شأنه أن يخدم "القضية المصيرية للأمة"؛ وبين الاختلاء، هنا وهناك، للحديث عن المِنَح، وعن أحوال العُملة الصعبة في السوق السوداء في عتمة المقاصف الفندقية أو في مقاهي "شارع السعدون" أو "الرُصافة" أو "الكرخ"، قبل أن تُحلّ مواعد الموائد بالفنادق. هناك، حول تلك الموائد، يتحول المرابدة إلى باشاوات، وبارونات: ينادون على النوادل - وأغلبهم مغاربة - بالتصفيق بالكفين مرتين، ويحتجّون في نخوة البارونات، على أيّ تهاون في الخدمة، مقارنين - كالعارفين بأصول تقاليد "الإيتيكيت"- ما بين فنادق اليمن، ومصر، والعراق. وهناك يصبح الجميع من عُشاق "فالزيات" شتراوس، و"ليليّات" شوبان، و"صوناتات" موزارت، بدليل أنه يحرص على التصفيق كلما انتهى فريق الكونسيرتو المسكين المنشّط لفضاء الموائد من العزف للاستراحة. وأذكر يوما كان قد استبدّ بي فيه شعور الخزي من تفاهة سعينا جميعا في عبث ذلك الفضاء المربدي، خصوصا وأني لم أصحب معي من زاد المطالعة ما ينتشلني من ذلك العالم، أذكر أني ضبطتُ زميلنا الأستاذ محمد مفتاح وحيدا بإحدى زوايا بهو فندق الرشيد، وهو مطرقٌ إطراقاته الصوفية المعهودة، فاستفتحته في رأيه في مظاهر التفاهة التي كانت تطبع سعينا في ذلك الفضاء، فاستقر رأينا معا على ما معناه أن أمام المرء من تجاه ذلك القبيل من السوسيولوجيا المهنية خيارين أحلاهما مرّ. ولقد اخترت، بعد تلك التجربة الخاصة، الخيارَ المّرالثاني. فباستثناء حَجَر في حجم الفِهر، إلتقطتُه من على سطح أديم الأرض في مدينة بابل، وأثار فُضولَ المصالح الجمركية في مطار أورلي خلال ترانزيت رحلة العودة، خصوصا وأن انتفاضة الحجارة الأولى كانت قد اندلعت، لم تُغرني أكوام الكتب المجانية، المكومة أرضاً بـ"مركز الكتاب"، والتي تهافت عليها كثير من المربديين في لهفة من لا يصمُد أمام كلّ ماهو مجاني، ولو كان خُفّاً من خفَّي حُنين. تراهم يتحركون بين أكوام الكتب المكومة من "مؤلفات" القائد في "الإشتراكية"، و"الدفاع"، و"الإقتصاد"، و"القومية"، و"الأسرة"، و"التربية"، و"الفن"، و"اللغة، و"الأدب"...؛ يتحركون وأيديهم تجمع من غنائم الكتب المجانية ما تجمع، وأرجلهم تدوس ما لم تجمعْه أيديهم، كما يتحرك منتجعو قمامة الدار البيضاء بين تضاريس تلك المزبلة، يحرّكُهم نهمُ جمعِ أكبر ما يمكن من كل ما يعرض مجانا.
والآن؛ والآن، وقد "غلبتْ الروم، وهم من بعد غلبهم سيغلبون"، وهي آية كنت قد استهللت بها مقالا مطولا مناسبة الهجوم على أمريكا في عقر دارها وعصَبِ حضارتها، "مركز التجارة العالمي" (بعنوان "من برج بابل إلى مانهاتان"؛ انقُر هـــــنــــــا)، وأشرتُ حينئذ إلى أن للآية قراءتين بمعنيين تاريخيين مختلفين، حسب إمكانيات البناء للمعلوم أو المجهول (غَلبتْ... سيُغلَبون؛ أو غُلبت... سيَغلبون)؛
والآن وقد استحال الأسد إلى قطّ، ورسخه الإخراج الهوليودي في قطّيته؛ والآن، وذلك "الرجــل" لم يعد "أيّـها الرجل"، يتغزّل به من أفنى العمرَ في مدح الغواني؛ والآن، وقد هبّ سدنةُ سجلات النسب الشريف الذي استصدره منهم إلى تبرئة آل بوش من إهانة سبط من أسباط الرسول، بأن "فضحوا" - الآن فقط، بعد أن تأكدوا من أن صدّام لن يعود - تزوير هذا المغامر العاثر الحظ لشجرة الأنساب، مؤكدين بذلك أن النسّابين من النصّابين؛ شهاداتهم لصالح الغالب المنتصر مادام له البأسُ والغلَب، ومتى أخفق نسبوه إلى الخارجين أو الخوارج أو المتنبئة الأفّاكين؛
والآن، وقد "أُخرجَ صدّام"... من الجُحر كالجُرذ، وهو مطلوب للعدالة، ليس بهَـيبة بينوشي، ولا بوقار ميلوسيفيتـش، ولكن بمهانة مانويل نوريِـيكًا؛ الآن، وقد التهم النسرُ الأمريكي كبد النسر العراقي على صفحتي جواز سفري؛ الآن، والقانون الدولي لِمَا بعد الحرب الباردة قد استحال إلى رهان قوّة بين عشيرة آل بوش وعشيرة آل صدّام، ذلك الرهان الذي امتزجت في أطواره المصلحةُ والقوة برمزيات الدين والقيم، حيث كتب صدّام "لا إله إلا الله" في العَـلَـم العراقي، الاشتراكي-البعثيّ القُـماش، وحرص البوشان، من سَلَفٍ وخلفٍ، على تناول "وليمة الديك الرومي" لـ"عيد الشكر" المسيحي الأمريكي، في عُقر الديار المقدسة أثناء الإعداد للحرب الأولى بالنسبة للأب، وفي قلب بغداد على إثر إنتهاء الحرب الثانية بالنسبة للنجل، ذلك الرهان الذي بدأ قبل غزو الكويت بكثير إذا ما تذكر المرابدة والناس أجمعون قصة قطع غيار "المدفع العملاق" الذي دشنتْ به المصالح الإنجليزية الخاصةُ الوجه الأقدم لقصة "أسلحة الدمار الشامل"، وذلك قبل غزو الكويت وقبل تطور الصنائع الأمريكية إلى "طالبان" ثم إلى "قاعدة" تعيث في الأرض فسادا؛ قصة تلك الأسلحة الفتاكة من رؤوس نووية، وانتراكس، وغازات، التي على أساس البحث عنها وتدميرها عبأ "جورج والكر بوش" رأيه العام الداخلي والرأي العام الدولي لتبرير دخول الروم إلى بلاد نبوخذ نصر، قبل أن يُنهي حملته الجونكيزخانية النظيفة بتقديم رأس صدّام الأشعت الأغبر للعالمين كدليل على ما لم يُثبت وُجودَه هانس بليكس على رأس فريق الخبراء الأمميين، وبتنصيب نفسه، كأي "قائد عربي"، وصيّا على الديموقراطية في بلاد حمورابي، ما دام لم يعد أحدٌ يسائله عن قصة "أسلحة الدمار الشامل"، ولا عن نية صدّام في إنتاجها، بما أن كوريا الشمالية قد أثبتت - باللكْمِ والتقريع في عملية تنبيه غفلة الغافلين - أن ما يؤرّق آل بوش ليس هو أسلحة الدمار، وهم الذين رسَخوا في المعاملات النفطية قبل أن يترجموا تلك المعاملات إلى لغة السياسة، ويترجموا لغة السياسة إلى تعابيرها الحربية البليغة، فخرج بوش للحرب باحثا عن آثار أسلحة الدمار، ثم عاد بصيدٍ يتمثل في رأس بارونِ دولةٍ بترولية كهدية عيد ميلاد، كما كان الفاتحُ كريستوف كولومب قد جمع المال من المموّلين وجهّز الرجال على أساس أن يعبّد الطريق نحو الهند عن طريق الغرب، فعاد بعد أشهر وقد فتح مخازن خيرات أرض عالم جديد أمام التاج الرومي، وذلك بعد أن سنّ سُنّة "عيد الشكر" (Thanks giving) المتمثل في "مأدبة الديك الرومي" الذي وجد أسرابه في استقباله بأرض أمريكا، قبل أن يبدأ في نشر رسالة الديموقراطية في قبائل الهنود الحمر.
الآن، وقد أفضى الرهانُ إلى ما أفضى إليه، وأصبحت معاملة جزّار بغداد من طرف دولةِ بطولةِ حقوق الإنسان تطرح أمام العالم حالة من حالات حقوق الإنسان في الكرامة الشخصية والجماعية لم يشهد لها التاريخ مثيلا من حيث التشهير والتمثيل واستعراض ساديّة الدولة من خلال ذلك العنف والإرهاب الرمزيين اللذين مورسا يوم 14 ديسمبر أمام أنظار العالم من خلال ذلك العبث الباثولوجي برأس ديكتاتور كان يمارس في الخفاء نفس الأساليب فيمدحه المرابدة في العلن، نتساءل ماذا فعل الله بهذه الفصيلة من جهابذة النقد والإبداع والقافية؟
قال عرّابُ المرابدة وكان اسمه من الأحمدين، بعد أن أخذت الأحوال تسوء، ولكن قبل أن يُبرَم الأمرُ وتُحسمَ المصائرُ ويشطَّب على "خلف صلاح الدين" من سجل الأشراف: [أما أنا، فلست بخالع صاحبي...]؛ ثم لم يُسمع له ولا لغيره صدى بعد أن قُضي الأمر. فها هي التراجيديا الشرقية واقعة، لكن أين الإبداع؟ والإبداع أضعف الإيمان، الإبداع وليس الشعوذة. وهكذا، يتأكد أن التراجيديا، كفعل وانفعال تاريخيين رياضةٌ وبضاعة من هذه الديار؛ أما الإبداع الدرامي، فموهبة من مواهب تلك الديار. ومَن لم تصدق فليسأل "حنّا بعل" بعد معركة زاما، أو يسأل يوغرطة؛ ولينصت إلى أوبيرا "نبوخذ نصر"، أو "عايدة" للموسيقار "فيردي" وغيره من الفنانين ممّن خلّدو تراجيديات الشرق والجنوب. فليعد إلى اوبيرا "فيردي" ومسرح شكسبير. ربما ستخلد هوليود غدا تراجيديا صدّام بطرقها الإختزالية الخاصّة. أما المرابدة وإبداعهم، وبِـنيويّـتهم التفكيكية والتكوينية، وفلسفتهم المتخصّصة في أيديولوجية هذا الجنس، وفي عقل ذلك الرهط، فيبدو أن تلك أمةٌ قد خلت، عليها ما اكتسبت، ولاشيء قد كسبت.
---
محمد المدلاوي المنبهي
https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres