(EN ARABE) La paresse intellectuelle à la base de toutes les évidences
الكسل الفكري أساس بناء البداهات
محمد المدلاوي المنبهي
بقطع النظر عن مفعول المصالح بتقلباتها، وعن ميل الأفراد والجماعات إزاءها، مهما كانت وضعياتهم القائمة، إلى تغليب حُبِ السلامة خوفا من الأسوأ على المغامرة لتحقيق الرغبة في الأحسن، فإن مجرد الكسل الفكري، كحالة معنويات أو كحق مكتسب، عاملٌ آخر من عوامل تقوية الرتابة والاستسلام إلى ما يعتبره الرأيُ بديهيات، فيطمئن إلى بديهيته الأّم التي تعمِّم مضمون القول بأن شرّ الأمورِ محْدَثاتُها، وبأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ويتعود بالله من الشيطان كلما لوح له بخيال إحدى المحدثات، ويستعدي دوائر السلطان على من يحفل بخيال من مثل تلك الأخيلة ضمنَ بني جنسه من الإنس. يقول نيتشه في كتابه The Gay Science:
"هناك وضاعة ذهنية غبية، ليست بالنادرة. والمصابون بهذه العاهة غير مؤهلين بتاتا للتعلق بقيم المعرفة. فبمجرد أن يشاهد الواحد منهم شيئا خارجا عن العادة، يتراجع القهقرى قائلا لنفسه: [لقد ارتكبتَ خطأ؛ ماذا أصاب حواسّـك؟ فهذا الأمر لا يمكن أن يكون حقيقة]. وعِوض أن يعود فيدقق النظر ويُرهف السمع مرة أخرى، يسرع في الحين بالفرار من ذلك الشيء المدهش كما لو أنه قد أحس منه بتهديدٍ ما؛ ثم يحاول أن يعمل على محو صورته من ذهنه بأسرع ما يمكن؛ ذلك لأن قاعدته الفطرية تقول: [لا أريد أن أرى أي شيء يناقض الرأي السائد. أفَــأنا مدعوٌّ إلى اكتشاف حقائق جديدة، والحال أن هناك من الحقائق القديمة أكثرَ مما هو لازم؟]"
وبما أن الرأي هو التعبير اللغوي عن الموقف، فإن الدفاع عن الموقف يتخذ شكل تكرار مهووس للرأي، مستعينا بالخطابة وبالجمل البليغية - التي قال عنها الأديب الفرنيس ديدرو بأنها مثل المسامير الحادة، تفرض الرأي على ذاكرتنا - وذلك كوسيلة وحيدة لتـسييـد ذلك الرأي، بدلَ تجشُّـم مغامرة المناظرة، التي تستدعي من المجهود ومن الانضباط للمنطق وللواقع ما تستدعي، إضافة إلى كون نتائجها غير محسومة سلفا.
والجدير بالذكر أن الدفاع عن الرأي المبني على العادة، لا ينطلق إلا بظهور بوادر ما يدعو إلى مساءلة بداهات تلك العادة. فمثلا، "لما شرع المفكرون في فرنسا يساءلون البديهيات الأرسطوطاليسية حول وحدانيات نظرية البناء التراجيدي، من وحدة زمان ومكان وعقدة، ثم هبّ آخرون في ردّ فعل للدفاع عن تلك المسلمات، كان ذلك عبارة عن تكرار لما يمكن أن يلاحظه الملاحظ في كل حين، ولكن الناس يكرهون ملاحظته : ذلك أن أحدهم يفتري الكذبَ عن سبق إصرار، بافتعال تعليلات بعدية لتلك المسلمات، وذلك لمجرد تجنب الإقرار أمام نفسه وأمام الآخرين بأنه كان متعودا على التسليم بها إلى درجة أنه لم يعد يحتمل تصور ما يخالفها. لقد حصل مثل هذا - وكان يحصل دائما - في كل المنظومات الأخلاقية والدينية: فالتعليلات المبرِّرة لِـما جرت به العادة تتخذ دائما شكل افتراءات سجالية مستدركة لا تصاغ وتضاف إلا حينما يشرع البعض في التساؤل عن علل وغايات ما جرت به العادة. وفي هذا الصدد يبقى الفكر المحافظ في كل العصور فكرَ بُهتان بامتياز، من حيث إنه يراكم الافتراءات" (نيتشه، The Gay Science).
هذا، إذا اتخذ الدفاع صيغة المناظرة بأدواتها الفكرية، ولو من الناحية الشكلية، كمنهج لحسم الاختلاف. إلا أن الأمر لا يتم دائما بالضرورة حسب هذا المنهج، فهناك مدرسة 'فكرية' تعتمد على الخطابة وتتخذ من أوجه قوة السلطان أدوات لحسم الأمور. سواء أكان ذلك السلطان هيئة مهيكلة ومحتكرة للسلطة والقوة بمقتضىً صوريّ من المقتضيات، أم كان متمثلا في مجرد القوة الكمية لكتلة الحشد الذي يتم تهييجه بأساليب الخطابة في هذا الاتجاه أو ذاك.
ومن المظاهر التقليدية للجنوح إلى نصرة الرأي وحسْـم الأمور بأساليب الخطابة خارج المناظرة، سلوكُ أساليب التهديد بالأسوأ، والاستقواء على الرأي الآخر باستعداء السلطان. فقد عرف المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة تدافاعات حول عدة قضايا من صميم تناقضات واقعه كما آل إليه ذلك الواقع بحكم حركية التاريخ (لغة التعليم، الأمازيغية وكتابتها أو ترجمة القرآن إليها، مدونة الأسرة، الخ)، فغـُـلـّبت تلك الأساليبُ على مقاربة تلك القضايا. فكان كل رأي يدعي بأن أي عدول عن "الواقع القائم" كما يتصوره ("واقع الحرف الكوني" بالنسبة للبعض مثلا، و"واقع حرف الأجداد" بالنسبة للبعض الآخر، الخ) أمرٌ منذرٌ بإيقاظ الفتنة؛ فيستقوي ذلك الرأي، في تهديده، بما يعتبره من الثوابت باختلاف في مرجعيات الأطراف (مفاهيم معينة عن الدين أو الدستور، أو المواثيق الدولية، أو الأساطير)، ليحسم الأمرَ خارج الإقناع بالمناظرة المبنية على أسس ما تراكم من معرفة علمية بالواقع المعني. ومما له دلالة في الباب أن كلمتي "حرب" و"فتنة" هما الكلمتان اللتان ترددتا كمفاتيح لخطابات تلك الآراء بخصوص عينة القضايا المشار إليها.
ولقد طرحت اليوم قضية أخرى في الساحة، هي قضية العلاقة الوظائفية ما بين اللغة العربية الفصحى الكتابية والعربية المغربية الدارجة على الألسن، وهي مجرد وجه جديد من أوجه إعادة طرح المسألة اللغوية في مجملها، بما أن بعض الآراء المعبّـر عنها تربِط مثلا، في هوس ذي دلالة سيكولوجية واضحة، ما بين طرح تلك العلاقة للنقاش وبين المقارنة بين حالتي الأمازيغية "وما تحقق لها"، والعربية "وما لم يتحقق لها"، واللغة الفرنسية ووضعها في المغرب، منذ المصادقة على الميثاق الوطني للتربية والتكوين. ولقد عاد نفس الأسلوب في حسم أمور المسألة اللغوية ليطبع المقاربة من جديد.
فإذا كان الرأي المدافع عن الأمازيغية مثلا يقفز مباشرة إلى سقف الدستور كوسيلة وحيدة لحسم الأمر في الأذهان وعلى الساحة الاجتماعية خارج الإقناع بالمناظرة الطويلة النفس، منطلقا من سلطة نص ظهير ملكي، فإن رأي المناهضين لأي وظيفة للعربية المغربية يحتكمون اليوم إلى نفس الدستور لحسم الأمور خارج المناظرة، رابطين، في أساليب خطابية وبلاغية، كل تساؤل حول تلك الوظائف المحتملة بتهمة الفرانكوفونية وغيرها من التهم التي تتحدث حتى عن الصهيونية.
فكل رأي يدعو في الحقيقة إلى حسم الأمور منذ البداية بحكم سلطة أسمى القوانين وما يترتب عنها من جزاءات، وذلك بدل سلوك العمل الشاق والطويل النفس الذي يتمثل أولا في تدقيق المعرفة الميدانية بواقع القضية وتعميم تلك المعرفة قصد إعداد الأذهان داخليا في اتجاه أو آخر.
وهكذا مثلا، فإن عبارات "التلوث اللغوي"، و"الكراهة اللغوية"، و"العنف اللغوي"، و"الصليبية اللغوية"، وغيرها من صور وإيحاءات بلاغة معرفة البيان المعتمدة على أوجه التشبيه، والاستعارة، والكناية، وأسلوب الحكيم، والمدح بما يشبه الذم، والذم بما يشبه المدح، كـ"منطقِ إقناعٍ"، هي ما أثث في الآونة الأخيرة، من خلال حديث لإحدى الأسبوعيات، خطابَ علماء مرموقين، استسلموا للرأي، في هذه المسألة، على حسابِ هدي نصيبهم من العلم، وهو خطاب يبدأ وينتهي بالتلويح بــ"الفتنة اللغوية"، ثم بالمطالبة بالاحتكام إلى الدستور قصد استصدار قوانين تجريم الرأي الآخر، أي ما أسماه صاحب الخطاب في حديثه المشار إليه بـ"سن قوانين صارمة للقضاء على نشر الكراهية اللغوية والعنف اللغوي في المغرب". إن العقل يأتي بأفكار جديدة والجهل يتولى فرض الحظر عليها كما يقول الشاعر الألماني هاينريش هاينيه؛ والجهل يتمثل أساسا في الاستسلام لأهواء الرأي وليس بالضرورة في عدم حيازة العلم في قطاع من القطاعات. ومساهمة العالم في التدبير الرشيد للملفات كما تستجد في قطاع علمه يكون بتوظيف تلك الأفكار الجديدة التي يأتي بها العقل، لا بتأجيج لهيب الأهواء. إذا كانت المسألة اللغوية في المغرب مجرد مسألة تطبيق قانون ودستور، فلا داعي ولا مبرر للمؤسسات العلمية ذات الاختصاص، لا القائمة منها (مؤسسات البحث في التعريب وتنسيقه، المعهد الملكي للأمازيغية) ولا المنتظر إخراجها إلى حيز الفعل (أكاديمية محمد السادس للغة العربية) ما دام يبدو من خلال التجربة ومن خلال قاموس الخطاب السابق المشار إليه بأن مهمة تلك المؤسسات والقائمين عليها هو ترديد مثل ذلك الكلام الذي يطالب بتجريم الرأي المخالف في النقاش حول قضايا اللغة في تستر وراء الدستور والظهائر؛ إذ يكفي تفعيل المصالح المختصة في الوزارات المختصة من عدل وداخلية قصد تطبيق القوانين القائمة من جهة، والعمل على استصدار أخرى كما طالب بذلك العالم اللغوي السابق من جهة أخرى.
أشير أخيرا بخصوص حُـمّى الاحتكام إلى سقف الدستور وسيف القانون، كأسلوب في الإقناع المعرفي، إلى أن كثيرا من الديموقراطيات، تركز ديباجاتها الدستورية على رسم غايات القيم، لا على رسم ملامح الهويات القبلية. فدستور الولايات المتحدة لا ينص على اللغة؛ ودستور إسبانيا يكتفي بنُشدان ضمان قيم التعدد، أي ما أسماه "حماية كل الاسبان، وكل بلاد اسبانيا، في ممارستهم لحقوق الإنسان، ولثقافاتهم، وتقاليدهم، ولغاتهم، ومؤسساتهم".
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 345 autres membres