(EN ARABE) Joie de vivre et culture de "tout pourri".
Si la graphie arabe ne s'affiche pas correctement, aller dans la barre de menu en haut de la page, cliquer sur le boutonAFFICHAGE puis sur CODAGE, puis sur (PLUS, puis sur ARABE(Windows)
سئم الناسُ لونَ هذا السوادِ
كُـــن جميلا، تــرَ الوجودَ جميلا
كما ورد ذلك في كتاب الحائك لمؤلفه محمد بن الحسين التطواني، ميّزت تقاليد موسيقى الآلة المغربية بين مجموعة من الطبوع اللحنية تتناسب مع أمزجة فترات اليوم ويناسب كل طبع منها حالة من أحوال النفس (نوع من السبق إلى ما يعرف اليوم بالعلاج الموسيقي musico-thérapie) وإذ يبدو ويعتقد، من باب التشبيهات، أن للأجيال أو الجيل كذلك فترات وحِقبا تختلف أمزجتها وتقتضي ما يناسبها من المصاحبة أو العلاج على مستوى القيم والفكر ونوعية الخطاب والمشهد والمسمَع، ففي إطار ذلك الاعتقاد يندرج الأفكار الواردة في هذا النص.
أتذكر أن المرحوم الفقيه والشاعر، محمد العثماني، الذي كان يدرس اللغة العربية في ثانوية ابن سليمان الروداني في بداية الستينات من القرن العشرين، كان قد ألقى يوما في حفل أقيم "المعهد الإسلامي بتارودانت" بنفس المدينة (معهد محمد الخامس حاليا) قصيدة دالية على البحر الخفيف، يعارض فيها دالية المعري (غيرُ مُجدٍ في ملـّـتي واعتقادي)؛ وقد نالت قصيدة إعجاب الجمهور إلى درجة أنْ بقي تلاميذ وأساتذة المعهد يرددون مطلعها من حين لآخر لزمن طويل. لم أحتفظ من ذلك المطلع إلا بالشطر الأول الذي يقول:
"ألِـفَ الناسُ لونَ هذا السوادِ ..."
هذا الشطر اليتيم، أخذ يخطر على بالي في إلحاح كثير في السنين الأخيرة، وأنا أتأمل ما حصل من اختفاء الألوان الزاهية، بل الصارخة (أخضر، أحمر، أصفر، أزرق، البنفسجي والنيلي) التي عُرف بها الزّي المغربي قديما وكما كانت تجعل من فضاءات الأسواق والمواسم لوحات زرابي متتحركة ألوانهُا، ومن حلولٍ ما يزال متوسعا لون السواد وللونين الرمادي والترابي محل بهجة تلك اللوحات منذ عقود. ويوازي ذلك الحلول، على مستوى المزاج العام، اختفاءٌ تدريجي، ولكنه سريع الوتيرة، لمظاهر البهجة والنكتة والظرف والإقبال على الحياة في الفضاء العامّ، ما عدا أن يكون الأمر على أشكال هيستيرية تعكس التفريغ السيكولوجي الجماعي بدل أن تعكس بهجة الإقبال المتّزن على الحياة. أما على مستوى الخطاب المصاحب والمسوّق كبضاعة فكرية وفنية مهما كانت الأنواع الفنّية أو المواضيع الفكرية، فقد أصبح بدوره في انسجام مع المشهد المستحدث؛ إذ يتوزع ذلك المزاج المتجهّم ما بين عدميةِ من يقول [تعبٌ كلـُّها الحياةُ فما أعـــ*ــجـبُ إلا من راغبٍ في ازدياد] عند البعض، وتهيـيــجيات البعض، وبكائيات ومراثي واحتباطات البعض الآخر من قبيل تمرير الكف على الشيب أو الصلعة وترديد [هرمنا، هرمنا] وبلسان قول البارودي: [محا البينُ ما أبقتْ عيونُ المهى مني * وشِبتُ ولم أقضِ اللبانيةَ من سِنّي]
فهل صحيح أنه قد [ألفَ الناسَ لون هذا السواد]؟ يبدو أن الناس قد ألفوا ذلك فعلا لحين من الدهر حتى أضحى يبدو جزءا من الطبيعة المحيطة التي يتقمّص الجميع طبعها حسب موقع كلٍّ من طيف العدميات والتهييجيات والبكائيات والمرثيات المذكورة، فأصبح الجميع منخرطا بشكل آلي في آلية إنتاج وإعادة إنتاج ثقافة ما ألِفَ الناس من لون هذا السواد. في البدء كان هناك جيل "تامّارا". لكن من، وما هو جيل تامّارا؟ (انظر هـنــا).
اختصارا، في بداية السبعينات من القرن الماضي، وفي إطار الظاهرة السوسيولوجية التي تمثلت في أول موجة من أمواج اكتساح ثقافة الهوامش والأطراف للحاضرة المغربية كنتيجة لخطة تكوين الأطر الصغرى والمتوسطة (أساتذة، قضاة، محامين، مهندسين) بالجامعة في كل من فاس والرباط ، وبينما كان طلبة الجامعة يحيون حفلا راقصا (للذكور فقط) داخل مقصف الحي الجامعي بفاس، إذا بمرشد، وبصحبته بعض المناضلين البارزين، يدخل فيصيح بما معناه، لكن بلفظ مصطلحاته:
ما هذا التفسخ، وما هذه الميوعة في الوقت الذي يعاني فيه العمال والفلاحون الويلات في مناجم "قطارة" وفي سهول "أولاد خليفة"!!، وفي الوقت الذي تحاول فيه الإمبريالية إجهاض ثورة الجماهير على النظام المحتضر عن طريق تسخير طغمة عسكرية على الطريقة اليونانية (ترتفع أصوات: "جيشنا جيش شعبي، جيشنا جيش شعبي")، وفي الوقت الذي لم تجفّ فيه بعدُ دماء ضحايا مجزرة أيلول الأسود التي اقترفها النظام الهاشمي العميل نيابة عن العدوّ الصهيوني في حق جماهير الشعب الفلسطيني البطل، بطل معركة الكرامة، وفي الوقت الذي تعاني فيه الشعوب الإفريقية في أنكولا والموزامبيق وبقية المستعمرات من ويلات الاستعمار المباشر على يد نظام سالازار، ويعاني فيه الشعب الفيتنامي البطل من ويلات الحرب الإمبريالية الأمريكية ...
توقفت موسيقى "البوب ميوزيك" على التوّ منذ الثواني الأولى لخطبة الخطيب بشكل أربك فَوَران دم الفتوة والشباب والإقبال على الحياة، فتوارى ذلك الشباب الراقص وانسحبوا مطأطئين رؤوسهم في شعور بالذنب واستبطان للقيم الجديدة المعبَّر عنها بمصطلحات كان لها سحر كل ما هو بدعة في زمن الموضة، واصطفوا واقفين مسندين ظهورهم إلى الجدران نظرا لما كان من صعوبة الجلوس بسراويل السبعينات؛ ولم يفت الخطيب أن يعلن قرب مجيئ شريطي كوسطا كافرا:" Z" و Sacco et Vanzetti. ثم تحوّل الحفل في الحين إلى حصّةِ تفاعلية للتوعية الجماهيرية عن طريق [التحليلٍ ملموس للواقع الملموس، في جدلية ما بين الموقف المبدئي والتطور الحتمي للآفاق الثورية للجماهير الكادحة].
هناك ارتسمت في الأذهان، بفضل تلك الحصة التوعية ومثيلاها، أول لوحة مرسومة بالأسود والرمادي والغُباري. وبذلك أخذت المطامح والآفاق الفردية والجماعية تتغير تدريجيا من غاية استكمال التكوين للاقتدار على لانخراط في المجتمع إلى غاية "الحريكٌـ" و"الهجرة" قصد تقويض صرح المجتمع "في خمسة أيام" (وليس في ستة مثلا) وإعادة بنائه لإصلاح ما أفسده الدهر. ...
أخذ الهندام يتغير بعد الهجرة؛ فتمّ التخلي تدريجيا عن القمصان البيضاء والملونة وعن بذلات "التيركًال" ("الكومبلي") وتعويض ذلك بـ"الدجينات" أو باالجاكيتات العسكرية المقتناة من سوق الخُلقان (الجوطية)، مع إرسال لغابة من اللحي اللينينة أو الكاسترية أو الغيفارية. ولقد انتحر بسبب ذلك كثير من الطلبة المُوسرين، بل حتى بعض الأساتذة "المتعاطفين"، "انتحارا طبقيا"، فتخلوا عن البذلة وربطة العنق لكي لا يظهروا الواحد منهم بمظهر "البورجوازي الصغير الانتهازي المتذبذب" ...
فهكذا نشأ جيل تامّارا (وهذا تصوير كاركاتوري طبعا) في طبعته الأولي بمصطلحات خطابها، وبشاراتها الرمزية وطقوسها، قبل أن تليَها طبعاتٌ أخرى "منقحة ومزيد فيها" أكثر شعبية في لغتها ومرجعياتها، حيث عمت الشارع والأسواق والطاكسي والحافلة بدل الاقتصار على المجلات الحائطية بالأحياء الجامعية والنشرات الداخلية للخلايا النائمة واليقظة؛ فألف الناس فعلا لون ذاك السواد. غير أن الملاحِظ قد يجرؤ اليوم فيرى، أنه، وبعد حين من الدهر، قد [سَئِم الناسُ لونَ هذا السوادِ] في آخر المطاف.
سوسيولوجيا الفضاءات التقديرية الجديدة، التي فتحت أمام الناس أبوابا خلصتهم من ضغوططات وتعليبات وتحجّرات الفضاءات العتيقة في باب التعبير وتبادل الخطاب والإشارات، وأكدت للفرد وضعه المدني في تحرر من سلطة من يوزعون حقّ الكلمة في المنصات والمحافل والمنابر والمقرات التنظيمية، هيّ التي توحي بقوة بأنه قد [سئم الجيل لون ذاك السواد]. يتجلى ذلك السأم في ما أصبح يشد الاهتمام أكثر من غيره في تلك الفضاءات التقديرية، كما تدلّ على ذلك الاهتمام المتميز مؤشراتُ المشاطرة ("بارطاجي")، والإعجاب ("لايك"، "جيم") والتعاليق المستسيغة على جدران تلك الفضاءات: تبادل لقطع الموسيقى الكلاسيكية الغربية والشرقية، وللوحات البالي الغربي والصيني والكوري (نموذج هــنــا)، وللوحات التشكيلية الشهيرة، وللموسيقى الشعبية بمختلف ألوانها ولغاتها ولهجات لغاتها، ولموسيقى الآلة والملحون، وللمرددات الشفهية الطفولية، الخ. وكأمثلة على تلك التبادلات التي شدت إليها في الأيام الأخيرة اهتمامَ جمهور بعض تلك الفضاءات من مختلف الأعمار والخلفيات الثقافية واللغوية، فكانت مواضيع إعجاب ومشاطرات وتعليقات تعد بالمئات: قصيدة "فلسفة الحياة" (إيليا أبو ماضي)، مردَّداتٌ طفولية مغربية بالعربية والأمازيغية حول الأمطار الخريفية الأولى (آ-الشتا صبّي صبّي / انزار آ-بابا ربّي)، أداءٌ صيني، أغنية أمازيغية قديمة للرايس بوجمعة يعود تسجيلها إلى سنة 1920 (انظر هـنــا أو هـنــا). ...
وهذه مجرد عينات ملموسة. معنى هذا أن هناك اليوم طلب جديد لجيل سئم لون ذاك السواد، وأن على الفاعلين المواكبين (باحثين ومفكرين ومبدعين) أن ينتجوا ما عبّر الناس اليوم من خارج الفضاءات المظملة العتيقة عن أنهم في حاجة إليه من طبوع أخرى مناسبة لأمزجة جديدة بما يناظر ما تمت الإشارة إليه من مفهوم الطبوع في تقاليد موسيقى الآلة (جمال وإبداع أصيل في مجال الفن، فكر موجب هادئ، وعلم تشخيصي)؛ وذلك، بالمناسبة، في هذه الأيام التي أدرجت فيها الدولة السويسرية مثلا في دستورها (ولا مجال للمقارنة) واجب إدراج التكوين الموسيقي في منظومتها التربوية الاساسية مثله مثل اللغات والرياضيات (انظر هــنــا)، وذلك من أجل كسر دوامة عجلة الآلية التي تنتج وتعيد إنتاج نفسها بنفسها في إطار ما كان قد ألف الناس من لون ذاك السواد الذي قال بشأنه الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدته "فلسفة الحياة":
أيهــا المشتـــــــكي وما بـــك داء /// كيف تغدو إذا غدَوت عليلا
إن شــرّ الجُناة في الأرض نفسٌ /// تتوقّى قبل الرحيل الرحيلا
وترى الشوكَ في الورود وتعمى /// أن ترى الندى فوقه إكليلا
هو عبءٌ علـــى الحيــــاة ثقيــــلٌ /// مَن يظن الحياةَ عبئا ثقيلا. (البقية هــنــا)
ذلك لأنه يحصل فعلا أن آليات تعيد إنتاج نفسها بنفسها على مستوى السلوك والسيكولوجيا الفردية والجماعية. وأروع تصوير لهذه الآلية على مستوى الفرد هو ما صوره أنطوان دي سانت إكزوبيري في رائعته "الأمير الصغير". وقف الأمير الصغير سيكّير مُدمن (الشيشتور، بلهجة شمال شرق المغرب) وهو بين قنيناته فسأله:
- "ماذا تفعل يا هذا؟" = "أني أشفي غليلي في احتساء الخمر". – "ولماذا تشرب هكذا؟" = "لكي أنسى همّي". – "وأي همّ ذاك الذي تريد أن تنساه؟" = "أريد أن أنسى شعوري بالخجل". – "خجلك من ماذا؟" = خجلي من إدماني على الخمر" (انظر هــنا ؛ بالفرنسية).
وهذا في الحقيقة ناموس عام. فباعتبار وجود الأمل والإرادة والصمود في العمل مجتمعين، أو عدم وجود ذلك مجتمعا (وتلك الخصالُ مسؤولية الإنسان وليست من معطيات المحيط)، يستمر ذلك الناموس الطبيعي في الاشتغال كأصل، فيغذّي الأملُ أملاً ويعيدُ إنتاجَه، ويغذّي اليأسُ يأساً ويُعيد إنتاجَه؛ ويغذّي العلمُ علماً ويُعيد إنتاجه، ويُغذي الجهلُ جهلاً ويُعيد إنتاجه؛ ويُغذي الغِنى غِنىً ويُعيد إنتاجه. وعن هذا الناموس، ورد في إنجيل متّى (12:13) ما يلي:
"...؛ כי מי שיש לו נתן ינתן לו ויעדיף ומי שאין לו גם את אשר יש לו יקח ממנו" (انظر هــنــا).
("...؛ ذلك لأن من يملك يُعطى عطاءً فيزيد؛ ومن لا يملك [شيئا كثيرا] يؤخذ منه أخذا حتّى ما كان لديه").
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres