(En arabe) Interroger les évidences à propos des questions du Maroc de 2010-2012))
إصدار جديد 2019
---
المدلاوي المنبهي، محمد (201). مساءلة البداهات من خلال مفاهيم وقضايا بـمغرب الإصلاحات. دار الأمان؛ الرباط. (608 صفحة)
------------------
تم الفراغ من تحرير هذا الكتاب مع نهاية 2012؛ وتم قبوله على التو للنشر ضمن منشورات مؤسسة جامعية، لكن حالت بعض التقلبات الإدارية دون تمام ذلك النشر. وبعد تعثر دام سبع سنوات حتى اعتقدت أن الكتاب سيلتحق بأعمال أخرى راقدة (أقدمُها كتاب حول اللغة العبرية تعثر منذ 30 سنة بالضبط)، اقترحته في الصيف الماضي على دار نشر؛ وهو متوفر اليوم منذ شهر بمكتبة الأمان (ساحة المامونية، قبالة وزارة العدل، الرباط)، ولست أدري ما إذا تم التوزيع.
محاور الكتاب:
- الإيقاع والجهات الستّ والإيديولوجيا
- مفهوم الدولة المدنية
- مفهوم "الحداثة" في الخطاب الأمازيغي
- عن دلالات الشارات والبروتوكول
- مفهوم "الثورة" ومفهوم "الشعب"
- واقع منظومة التربية والتعليم بالمغرب
- حول مسألة "القيم"
------------------
هـــــــــــــذا الكتــــــــــــاب
[[ ... في إطار مساءلة بداهات بعض المفاهيم والقضايا، يتمثل هذا الكتاب، في مجمله، في مواكبةٍ تساؤليّة لأهم القضايا الكبرى والمفاهيم التي أثّـثـت خطاب النقاش العمومي بالمغرب في ميادين الفكر والثقافة والسياسة والإعلام، خلال فترةٍ محورُها سنتان (صيف 2010 – نوفمبر 2012)، هذه الفترة المفصلية والانعطافية التي تميّزت، في منتصفها، باعتماد دستور يوليوز 2011 كتتويج مرحلي لمسيرة عَـقـد ونصف من التطورات الفكرية والثقافية والسياسية المتسارعة؛ هذا الإنجاز المؤسّسي الذي يكتسب من جهته، جانبيّا وسياقيّا كذلك، نصيبا من دلالاته ممّا حصلَ أن تقاطع معه على مستوىً، أو توازى معه على مستوى آخر، من انعطافات مفاجئة تمّت على الصعيد الجيوسياسي الإقليمي سنة 2011 ممّا عُرف في النهاية بـ"الحراك" الفلاني أو "الربيع" الفلاني.
ذلك الإنجاز يكتسي كذلك جانبا آخر من الدلالات الرمزية باعتبار سنة 2012 كانت الذكرى المئوية لعقد الحماية (1912)، وهي الذكرى التي مرّت - مع ذلك - "خارج زمنيّة الفكر المغربي"، في شبه أمنيزيا، في ظرف كان استحضار مفاهيمَ وقضايا وملابساتِ تلك الواقعة التاريخية فيه، استحضارا علميا ومراجعةً ومساءلةً، من شأنه أن يمكّن من أخذ المسافة اللازمة لفهمٍ أكثرَ لدلالاتِ ورهاناتِ دستور 2011 بشكل خاص، ولتكوين نظرةٍ أكثر شموليةً ودقّةَ واستشرافا للآفاق الاستراتيجية وللواقع الراهن داخليا وخارجيا. ...]].
محتويات الكتاب:
تقديم ..................................................................................... 3
هذا الكتاب .............................................................................. 7
عن مفهوم البداهة بصفة عامّة ...................................................... 13
الفصل الأول
مفهوم الإيقاع ما بين الطبيعة والإدراك والأيديولوجيا
1 تعريف الإيقاع ................................................................. 33
2 الإيقا والمجتمع, ................................................................43
3 الإيقاع وسلوك الفرد وتفكيره ................................................. 49
4 الإيقاع الموسيقي .............................................................. 55
الفصل الثاني
مفاهيم الجهات الست
(يمين/يسار، أمام/خلف، فوق/تحت)
5 بعض مظاهر الإشكال البراغماتي والأسس المعرفية للجهات الستّ ...... 67
6 الأسس المعرفية لمفاهم الجهة ................................................. 73
7 اليمين والشمال: البراغماتية العملية وسيميولوجيا القيم ......................... ... 79
8 من معطيات الطبيعة إلى الاستردادات الأيديولوجية (دوران الرحى والساعة) 85
9 اتجاه الكتابة (من مقتضيات الآلية الحركية إلى الاعتبارات الأيديولوجية) .... 93
10 الجهات الستّ في سيميولوجيا أيديولوجيات الاصطفاء ........................... 107
11 من مباركة بعض الجهات إلى تقديس بعض الأمكنة .............................. 111
12 من تقديس بعض الأمكنة إلى تأسيس الهوّيات الجهوية ........................... 115
13 من مفارقات مباركة بعض الجهات وتقديس بعض الأمكنة ...................... 121
14 عندما تستقل الجهوية الهويّاتية عن إحداثيات الجغرافيا .......................... 131
15 من أيّ الأصقاع نزح المغاربة إلى حيثُ فاجأهم شاهدُ التاريخ؟ ................ 145
الفصل الثالث
مفهوم الدولة المدنية
عن راهنية فكر موسى مانديلسون
16 حول الدولة والدين .................................................................... 191
17 حول الفرد المدني والدولة والدين ................................................... 197
18 حول الحقيقة الأزلية ما بين الفطرة والتشريع .................................... 215
19 حول الدولة والدين ومنظومة الأخلاق ............................................. 223
20 مقارنة بالنقاش حول التعديلات الدستورية بمغرب 2011 .................... 229
21 ذهنية حسم المناظرة في الأمور باستصدار قوانين .............................. 255
22 حول مطلب دسترة المسالة اللغوية: حالة اللغة الأمازيغية ..................... 263
23 لغة صياغة النصوص الدستورية والقانونية ...................................... 279
الفصل الرابع
الحركة الأمازيغية ومفهوم "الدولة الوطنية الحداثية"
24 الوعي بمفهوم الدولة الوطنية .................................................. ... 293
25 دور سياق العلامة في تحديد دلالاتها ............................................ 297
26 مفهوم الدولة الوطنية ومقتضيات بنائها (عموميات) ........................... 303
27 معيرة أسس التبادل والتواصل ... ................................................ 307
28 إعداد ومعيرة حقلي اللغة والثقافية ................................................ 311
29 من أوجه تجلّي جوهر المحافظة في الخطاب الأمازيغي ...................... 317
30 الأعراف ومسألة المساواة بين الجنسين في الخطاب الأمازيغي .............. 331
31 الخطاب ما بين وثيقتي "ميثاق أكادير" (1991) و"نداء أكادير" (2012) .. 337
الفصل الخامس
عن دلالات الشارات والبروتوكول
32 عن البروتوكولات ودلالات الرمزيات بصفة عامة ............................. 349
الفصل السادس
مفهوما "الثورة" والشعب
33 هل من اشتقاق ما بين "الثور" و"الثورة" (بمناسبة موسم "الحراك") ...... 379
34 حركة 20-فبراير: أيديولوجية "تامّارا" تتجاوز مفارقة الهويّة الفكرية ..... 391
35 من دلالات بعض مؤشرات تداعياتِ حركة 20-فبراير ..................... 401
36 ماهية "الشعب الذي "، ذلك الكائن الإشكالي والفاعل المرفوع؟ .............. 417
الفصل السابع
مسألة التربية والتعليم بالمغرب
37 منظومة التربية والتعليم، إلى أين؟ (تشخيص أولي) .......................... 431ذ
38 الكلفة المالية والتضخم الزائف .................................................... 435
39 المردوية مع مفارقة التضخم والخصاص في آن واحد ......................... 439
40 انعكاس واقع التضخم الزائف على مدى الفاعلية ونوعية المردودية ........... 443
41 البعد اللغوي في المسألة البيداغوجية ............................................... 447
42 من البعد اللغوي إلى مسألة المضامين .............................................. 453
43 نموذج قديم لتدبير بيداغوجيا الشأن اللغوي (نموذج "المازغي") ............. 461
44 المواد الأساسية للتعليم القاعدي ومواد التفتح ومسألة التوجه والتوجيه ....... 467
45 عُرف "الإدماج المباشر في الوظيفة العمومية" وجه من أوجه ثقافة الريع ... 481
46 أعطاب قديمة في التربية والتكوين (نصرة الدين ما بين العقل أمر الخليفة) ... 491
47 تحديات جديدة أمام التربية والتكوين والبحث العلمي في الجامعة المغربية .... 513
48 نظريتا "الإعجاز العلمي للقرآن والسنة" و"قداسة اللغة العربية" مسألة أمنية في باب التربية والتعليم والبحث العلمي بالنسبة للمغرب ............................................... 519
الفصـــل الثامـــن
مسألة "القيَم"
49 عن القيم بصفة عامة (تدقيق بعض المفاهيم) ..................................... 543
50 دور التربية على التعامل مع لغة الخطاب في تحديد قيمتي الصدق والكذب ..... 549
51 مسألة القيم في موسم "الحراك" (هل المجتمع المغربي مجتمع فاسد شقيّ؟) ... 561
52 منظومات القيم ما بين أخلاقية الوازع وأخلاقيات الخوف والطمع ................. 573
53 القيم، وأهلية الفرد في مجالات الإبداع الفنّي والعلم والأخلاق والسياسة .......... 581
54 خلاصة القول في التربية والتعليم والقيم (أغوسطين، ابن ميمون وابن خلدون) 587
55 لائحة المراجع المحال عليها .......................................................... 593
========================================
قراءة في كتاب محمد المدلاوي المنبهي :
مساءلة البداهات من خلال مفاهيم وقضايا مغرب الإصلاحات
دار الأمان، الرباط، 2019
بقلم محمد مصطفى القَبّاج
أستاذ باحث في الفلسفة وعلوم التّربيّة
*
مساءلة البداهات : منهج ضروري لإنجاز عملية التّثوير المجتمعي
أودّ، بداية، أن أَمهِّد لهذه القراءة بملاحظة منهجيّة عامّة، وهي أنّه لاستيعاب مقاصد الكتاب لابدّ من التسلّح بالعديد من المداخل المعرفيّة التي تُسعِف في إدراك أغراض المؤلّف الذي هو بدوره مقتنع بأن رفع الالتباسات المفاهيمية رهينٌ بتكاثف أصناف المعارف، وبذلك يكون المسار نحو إدراك الحقائق مُؤمّنا من التّعثُّرات التي هي عِلَّةُ الشّرود عن الجادّة. وأفتح هنا قوسا لأقول بأن الفيلسوف الرّاحل محمّد عزيز الحبابي كان له السّبق في التّنبيه إلى أهميّة ومحوريّة "تكامل أصناف المعرفة" كمسعىً منهجيّ في كلّ بحث علميّ جادّ. من ثَمّة أرى أنّ الأكاديمي محمد المدلاوي وُفّق أيّما توفيق في إبراز مصداقيّة هذا النّهج التّكاملي في طرحه لمختلف المواضيع رغم صعوباتها وتشعّباتها. وقد راقني جدّاً أن يؤصِّل المدلاوي هذه المنهجية وهو يربطها بما أسماه "الطريقة الخلدونيّة الشّاملة"، فابن خلدون لم يكتف في معالجته لموضوعاته بصنف معرفي واحد، ولكن كان حسب المفهوم القديم "عالما مشاركا"، أو ما أصبح يعرف اليوم بالمفكر الموسوعي المؤهَّل للفهم الصّحيح للقضايا المتعلّقة بالإنسان ولسانه وإبداعاته ومعارفه ومجتمعه. بالتّالي فإن الاقتصار على المقاربات الوحيدة البُعد (بعد سياسي محض – بعد سوسيولوجي محض – بعد أنثروبولوجي محض ... إلخ) في تناول شؤون المجتمع التي هي شؤونٌ مُعقّدة ومتعدِّدةُ مستويات التّمثيل والانعكاس، ومتعدّدةُ لغات وخطابات التّعبير – لهو اقتصار من شأنه ألاَّ يَتبيَّن، من خلال كل مقاربة معزولة خاصة، إلا الجزء المرئي من جبل الجليد من زوايا القضايا المبحوث فيها من وجهة نظر باحثنا.
أمر آخر أود أنْ أنبّه له قبل الدّخول في استعراض مواضيع الكتاب وهو أنّ المدلاوي لا يُخفي على قُرّائه بأنه في مباحثه ينطلق من أمازيغيته التي تتجاوز البعد العِرقي والبُعد اللّغوي، إنّه يُجلّيها كمقاربة فكريّة وحضارية تَسْتَوْجب اتّساع مدارك الباحث لتشمل مُحصِّلات علوم الاجتماع والنّفس والثّقافة والتّاريخ ونظريّة المعرفة والاقتصاد والسّياسة، دون إهمال مُحصِّلات التّراكمات الأدبيّة والفنّية، وبخاصّة مجالي الإبداع الموسيقي والتّشكيلي. بذلك تنتفي عن هذا الباحث الأصيل نزوعات التعصّب والتّطرّف، وذلك ما يجعله مُتَفَتِّحاً يَتغيّا المساهمة الموضوعيّة والنّافذة في إغناء الفكر المغربي الذي ينبغي أن يتجاوز الحساسيّات والنّزوعات الذّاتيّة المُنْغلِقة على نفسها بِدعاوَى الانتماء العرقي أو اللّغوي. وهو يعتقد أن الجِدالات المطروحة في السّاحة المغربية خاصة في مجالي العِرق واللّغة لا تليق بدولةٍ تسعى إلى الانخراط في التوجّه الحداثي الدِّيمقراطي.
بعد هذه الملاحظات المنهجيّة التّمهيديّة أرى أنّ المدلاوي استشعر بأن من يتأهّب لقراءة كتابه يطرح استفسارا حول اختياره بعنوان "مساءلة البداهات من خلال مفاهيم وقضايا مغرب الإصلاحات". فكان عليه أن يوضِّحَ دواعي هذا الاختيار ممّا من شَأنِهِ أن يُسعِفَ – إلى حدّ كبير – في متابعة قراءة جزئي الكتاب وفصوله ونصوصه التي فاقتْ الخمسين نصّاً. طبعا لن يكون رفع التباسات عنوان الكتاب إلاَّ بمقدِّمات توضيحيّة لفكّ غوامض الموضوعات التي سيتناولها بالدَّرس والشَّرح والتّأويل. هكذا فمن وجهة نظر المؤلِّف أنّ المناخ المفاهيمي العامّ في بلادنا تطغى عليه "بداهات العادة" الطّاغية في الوعي العامّ للمواطنين على اختلاف مستوياتهم الاجتماعيّة والتّعليميّة. إنّها بداهات ترسّخت واستسْلَمَتْ لها العقول.
مردُّ ترسّخ هذه البداهات إلى "سلوك مقاومة التّغيير مهما كانت دوافعه، كآليّة من آليّات تأسيس القناعات، غالبيّة النّاس في مغربنا ترفض التّغيير كَسَلاً أو تخوّفاً ممّا لا يمكن توقّعه. من هنا المشروعية التي يعتمدها الباحث لمساءلة البداهات، بقصد زعزعة الرّاكِد، والبحث عن السّبل التي عبرها يُمكن لأهل العلم تحريك السّواكن تطلّعاً لقبول التّغيير وتحرير الذّهنيّات من العادات الرّاسخة، مساءلة البداهات، إذن، من أهم عوامل ومؤشّرات الحيوية واليقظة والتّقدّم العام.
يَربِط الكتاب مساءلة البداهات بما تصدّى له الفكر الفلسفي عامّة والفكر المغربي بخاصّة في مجال خلق وضَبْطِ المفاهيم المحورية التي بواسطتها يكون بإِمْكان أي مُفكِّر أن يُؤوِّل مُعطيات الواقع عبر المنتوجات النّصيّة. معلوم أنّ من المهام الرئيسية للفلسفة هو صناعة المفاهيم.
وعليه : ما هي الأدوات المفاهيمية النّصيّة التي اشتغل بها المدلاوي في كتابه لمواكبة ماجْريات الواقع المجتمعي المغربي ؟ للإجابة على هذا التّساؤل يجيب بأن كتابه – بالفعل – هو عبارة عن مُواكبةٍ للقضايا الكُبْرَى التي يدور حولها النّقاش في ميادين السياسة والثقافة على مدى سنتي 2010 و2011. هذه الفترة الانعطافية التي كانت واسطةُ عِقدها اعتماد دستور 2011، والتي تكتسِب كل دلالتها بما وازاها، أي الحراك الفُلاني أو الربيع الفُلاني. الصياغات الأولية للمواكبة كانت عبارة عن نصوص صحفية في ركن يحمل عنوان : "مساءلة البداهة" غطّى فترة زمنيّة من شهر يونيو 2010 إلى الشهور الأخيرة من سنة 2011 من يوميّة العلم كلّ جُمعة. وفي الكتاب تَمّتْ إعادة هيكلة تلك النّصوص تحريرا وعرضاً وتوثيقاً بالهوامش على نحو ما تقتضيه صيغة النّشر في كتاب.
في ضوء ما قيل فإن مساءلة البداهات للمواضيع التي سيتطرق لها الكتاب تتعلق بمفاهيم "الدولة المدنية" و"الحداثة" و"الثورة" و"الشعب" وكذا "دلالة الشارات والبروتوكول" وواقع منظومة التّربية والتّعليم". هذا التّبويب يتمّ بشكل تماسكي يجعل بعض هذه المفاهيم ينبني على سابقه ويُفضي إلى لاحقه. أما لُغة المعالجة فقد جعلها المدلاوي لغة عامّة يقتضي الحال معها استعمال مصطلحات خاصّة بفنّ أو علم معيّن، ويستتبع ذلك أن يكون الأسلوب يتراوح بين "الوصفيّة التّقريريّة" وما بين "التّصويرية" المعبّرة عن مواقف. علما بأن هناك اليوم قطائع معرفية بين الدراسات السياسيّة على كثرتها، وبين الدراسات السوسيواقتصاديّة على قِلّتها، وبين الدراسات الانثروبولوجية وهي أقلّ من ذلك. وكذا القطيعة المعرفيّة القائمة بين الدراسات الموسيقية على قِلّتها والدراسات السوسيو-موسيقية أو الاثنو-موسيقية المنعدمة تقريبا. كل هذه الفراغات المعرفية ترفع من درجة التّشبُّث بالعديد من البداهات، وتَرسُّخ كمٍّ هائل من العادات الحائلة دون التّغيير ممّا يستوجِبه تقدُّم الأمم.
إذن، سأكتفي في هذه القراءة وبدون تفصيل مُملّ باستعراض مضامين الكتاب. هكذا يتناول الكتاب في قسمه الأوّل مفاهيم محايدة لتجريب منهج مساءلة البداهة من خلال مفهومي "الإيقاع والإيديولوجيا" و"الجهة والايديولوجيا". يدخل تحت هذا القسم بفصليه خمسة عشر نصّاً، وخلاصة ما جاء فيه أنّ كلمة "إيقاع" فضفاضة، خصوصا في مجال الخطاب الأدبي ليكون مُبهما مُشوّشا وغامض الفحوى. فهل يمكن تحديد مفهوم مضبوط للفظ "إيقاع" ؟ قبل الإجابة على هذا السّؤال يتعيّن التمهيد بفقرة عن دور التّمثلات في الصّياغة العلميّة للمعرفة بالأشياء، ذهنيّة (رياضيّات – لغة – موسيقى ... إلخ) كانت أو فيزيائية. وبناء على التَّمثّلات يمكن تعريف الإيقاع بأنّه عَوْدُ وقوعِ الواقع المعيّن، أو عودة ورود الحدث بشكل دوري. قد يحصل عن ذلك الدّوران، على محور تعاقب لحظات الزَّمن، ما يجعل الذّهن يدرك في تحليله لمادّة مسموعة مقولةَ الفلسفة الفيثاغورية "الوجود عدٌّ وإيقاع". بالطبع ينخرط الفرد في الإيقاع الاجتماعي العام الذي تضبطه الرّزنامات الإداريّة والدّينية والمعرفيّة الثّقافيّة، لكنّه يُدرِج داخل الإيقاع العام إيقاعَه الخاصّ، الذي يتمحور بالدّرجة الأولى حول دورةٍ طبيعيّة صغرى هي الدّورة اليوميّة.
الوجه الأسهلُ إدراكاً للإيقاع بِشكل طبيعي ولا يحتاج إلى تصوّر وبناء مفاهيم تجريدية، هو "الإيقاع الموسيقي" كما يَصِلُ إلى الأذن، ويستوعبه الذّهن، فتستجيب له الأعصاب تلقائيّا وتُعِدّ العضلاتِ لنبض الرّقص المتمثل في إيقاع "النّقر".
ومن أبرز ما يُصنَّف كذلك في خانة البداهات، التي لا يتمّ الوقوف عندها للتساؤل عن أسس قيامها في الذهن، هو تمييز عقل الإنسان "فِطريّاً" بين جهتي "اليمين" و"الشِّمال". بالتّالي يعتور عملية التّواصل الكثير من الاضطراب. لابدّ كذلك من العودة إلى المفاهيم المَقُوليّة التي تتفرّع عنها الإشكالات المعرفيّة لثنائيّة اليمين والشِّمال، مع الإشارة إلى أن مقولة المكان تُحدِّدها في الذهن إحداثيّات ثلاثة هي : المحور الأفقي بحدّيْهِ يمين / شمال، والمحور العمودي بحدّيه أعلى / أسفل، والمحور العُمقي بحدّيْه أمام / خلف. هذه التّقابلات تفرّعت عنها حُمولات سيميو-ثقافية معيارية، بحيث إنّ لغات وأدبيات كثيرة قرنَتْ عددا من القيم الإيجابيّة في منظومتها الأخلاقيّة والجماليّة بجهة اليمين، بينما ربطت القيم السلبيّة المقابلة بجهة الشّمال أو اليسار. هكذا أدرجت مقولة المكان كبعد من أبعاد التّصنيف الرّمزي الايديولوجي الذي أصبح يُميّز بين اليمينيّين واليساريين. وتسرّبت هذه الصّنافة إلى اتجاه الكتابة في علاقتها بقضايا الهُويّة والمرجعيات الدينيّة والانتماءات الجغرافية فالمغرب بكل هذه الاعتبارات يُنسب إلى المشرق رغم أنف منطق الأمكنة.
مضامين القسم الثاني من الكتاب وفصوله الخمسة ونصوصه متعلِّقة بمساءلة البداهة في الأخلاق والسّياسة تكتسي أهمية كبيرة من حيث ضبط عدد من المفاهيم بمرجعيات عربيّة وغربيّة، وعلى الخصوص منها مفهوم الدّولة المدنية (بتوظيف ذكي لفكر موسى مانديلسون الذي يجهله غالب الباحثين المغاربة)، ومفهوم الحداثة، ومفهوم الدولة الوطنية ومفاهيم الشّارات والبروتوكول. في هذا القسم تتجلّى الكفاءة العلميّة للرّجل كحامل لفكر أمازيغي يَقِظ ومتفتّح، محاولا، بقدر ما يستطيع، استنهاض همم المغاربة للتّوفيق النّاجح بين الاختيار الحداثي والحفاظ على الخصوصيّة الحضاريّة ومختلف روافد الجهويّة الثقافيّة. أما القسم الأخير من الكتاب فيساءل البداهات المتعلّقة بالثّورة والحراك والشّغب، وأخيراً إشكاليّة منظومة التّربيّة والتّعليم في المغرب متسائلاً عن مصير هذه المنظومة بتشخيص لا يعتبره نهائيّاً بل تشخيصا أوّليّا في ضوء ما تعرفه من انسدادات كمّيّة وكيفيّة، بيداغوجيّة وديداكتيكية. مؤكدا على ضرورة استبدال منهجيّة شحن الذاكرة بمنهجيّة تقوية الذّكاء.
وأُسجل هنا ما أتقاسمه مع باحثنا من الشجون بخصوص ما يعرفه المغرب من تردّيات قد تؤدى، لا قدّر الله، إلى تَفَسُّخ النّسيج الاجتماعي وتسرّب الفساد إلى عمق المؤسسات. من هنا مشروعية التساؤل الذي طرحه الكتاب : "هل المجتمع المغربي مجتمع فاسد شقيّ؟". هذا الزخم المضموني بمرجعيّاته ومنهجيّاته هي التي تجعل من هذا الكتاب عُصارة فكرٍ سيتوجب انتباها كبيرا وربطاً بين مضامينه وواقع الحال في بلادنا. إنه كتاب شهادة على مغرب ولمرحلة لم يُوفّق أحدٌ في صياغة الحلول الكفيلة بتجاوز معضلاتهما، وبالتّالي حسم الاختيارات التي تتقوّى بها إرادة التّغيير وقبول وضع بداهات العادة تحت طائلة التّساؤل والمراجعة في مسعى عقلاني سواء في مستوى المواطنة أو مستوى الدّولة التي لا مفرّ لها من أن تكون مدنية، حداثية وديمقراطية، تقطع مع جوهر المحافظة والتّقليد. وبعبارة أوضح إن مساءلة البداهات دعوةٌ للانتقال من عقول محافِظة إلى عقول جريئة في سعيها إلى إنجاز التقدّم الحضاري. وأؤكد في النهاية أن موسوعية المدلاوي هي التي جعلته يوظف أحاديث صحفية مشروطة بزمان ومكان محدّدين فيضعها تحت طائلة التحليل والتأويل والتّوثيق.
انتهــــــــــــــــــــى
------------------
أصل هذه القراءة، التي تفضل بها الأستاذ مصطفى القباج مشكورا، هو عرض كان قد قدّمه حول الكتاب في ملتقى تقديميّ للكتاب فور صدوره، من تنظيم مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود بمقرها بالدار البيضاء بر 28 نوفمبر 2019) بمشاركة الأساتذة مصطفى القباج وأحمد عصيد وعبد الفتاح الزين إضافة إلى صاحب الكتاب، وبتقديم وبتسيير نائب مدير المؤسسة، الأستاذ محمد الصغير جنجار.
http://www.fondation.org.ma/web/article/181
وقد نشر النص بعد ذلك في العدد من مجلة المــــناهل (عدد: 98؛ مارس 2020)؛ وهذا رابط نحو النص المنشور على الخط: https://archive.alsharekh.org/Articles/202/21785/497239
===========================
محمد المدلاوي
https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres