OrBinah

(En arabe) Fiction et création

عن الإبـــــــــداع الأول

(Pecunia non olet)

 

 

 

1

 

 

 

وُلِـدَ للإبداع ولابتداع بِدَع الهُدى كعلة وجود كما يبدو له ذلك؛ وهاهي قصته القصيرة:

 

بعد زيارته لـ"بيت الإغريقي"/Casa el Greco وولج معلمة أخرى، وبينما كان يتأمل بعضَ معالم "حضارة الحفر على الجير والجصّ" داخل تلك المعلمة على ربوة "سانتا ماريا" بمدينة طليطلة خلال فسحة جولة استكشافية على هامش عرض حول ترجمة نص التنزيل إلى أقدم لغات الصحف الأولى سنة 1998، بدت له الأشكال الهندسية لعناصر أخاديد الحفر والإنشاز  لتنزيل بعض الآيات على أفاريز الجصّ، شبيهةً بقطع الهياكل العظمية للطير! استبدّ به التأمل، وهام في سديم من شطحات الرؤى الإشراقية.

 

رأى ما رأى، خارج ما يُرى من حوله، فإذا به يرى نفسَه التي يرى أنها وُجدت للإبداع والابتداع، والتي يرى هو شخصيا وبلا حرج أنها علّةُ الإبــداع الأول بمفهوم الإمام المخفي صاحب "الرسالة الجامعة" لإخوان الصفا وخلّان الوفا، أنّ الأمر كان وكان...، فإذا هي بجانبه كومةٌ من عظام دجاجة لم يسأل نفسه عمّن أكل لحمها، ولا لِمَ وُضعت كومة تلك العظام بجانبه.

 

لم يسأل نفسه عن ذلك لأن جنوح الإبداع لم يمهله وحال دون ذلك. فقد بدا له للتّو أنْ يضعَ لمسةً خاصة على "حضارة الجـــــــــــصّ"؛ خطرَ له ذلك على التوّ في حيّز قريحته: أن يقوم بترصيع أخاديد نقوشِ ما نُقش على جص الأفاريز، ترصيعاً بمختلف الأشكال الهندسية وبمختلف أحجام تلك العظام التي وجدَها على يمينه. كان كلّما رصّع أخدودا بالعظم الدجاجي المناسب له شكلا وحجما، يتنحّى قليل نحو القهقرى ليتملّى في صُنعه ذاك، فيتملّكه الرضى الفنّي، ويجد أن الفعل حَسنٌ: العظم الأول حسن، العظم الثاني حسن، العظم الثالث حسن، ...، لكنّ كومة العظام ظلّت على كمّها لا تنفِـد؛ وذلك على غرار معجزة بركة "سلّة خبز وسمك" السيد المسيح على شاطئ بحيرة طبريّة بفلسطين، لمّا أطعم المؤيَّد بروح القدس من محتواها 5000 فردا، وبقيت ملأى خبزا وسمكا بإذن الله كما جاء في بعض الصحف الأولى.

 

2

 

أدخل يده في جيبه واستلّ هاتفا مستقبليا تحاكي شاشته اللوح المحفوظ، وهو شارد الذهن، ليبحث عن معنى مفردة من غريب لسان العرب وردَت في بيت شعري منقوش على الجصّ إلى جانب ما تيسر من الآيات البينات. لكن، صرف بالَـه للتو عن ذلك البحث نصٌّ مزينٌ بالصور اقتحم عليه شاشة هاتفه دون استـئذان؛ فشرع في قراءته، وذهنه كشراع زورق توجّهه الرياح. لم يُنه القراءة؛ لأن "الوصفة" الموصوفة في النصّ بدت له رائعة مغرية منذ البداية.

 

فكّر في معارفه، وفي زاوية جداره الفايسبوكي، التي هي بمثابة "فُراشة خُلّقـان" في سوق شعبي، تجد فيها خُـزعبلة تافهة بدرهم، إلى جانب مُطرَف نفيس بألف. فهمّ بتقاسم تلك الوصفة مع الجميع على جداره المفتوح للجميع؛ وفعل ذلك للتوّ كما لو كان يخشى أن يسبقه سابق إلى التعريف بالوصفة.

 

بعد ذلك فقط، عاد ليواصل قراءة النصّ الكامل لعرض الوصفة التي كان لم يستكمل قراءتها. كان النصّ عبارة عن فقرات تتخللها عروض إشهارية مزيّنة بصور بديعة تسرّ الناظرين وتثير فضولهم. نقر من جديد على أحد تلك العروض قبل أن يُتّم قراءة سائر فقرات النصّ الرئيسي للوصفة؛ فإذا بوصلة فيديو تنفتح أمامه، أبطالُها ثلاثة فتيان لم يعرف قرينة اقترانهم في ذهنه بديانتين اثنتين وبثلاث لغات! أحدهم جالس، وحواليه بضعة قوارير بلاستيكية شفافة من الحجم الكبير بها سائل بلون الشاي الصحراوي. تناول ذلك الفتى الجالس عدّة جرعات من ذلك الشراب فاستحلى، ثم ناول الاثنين، الواحد بعد الآخر، فاستحليا، ثم انصرفا لا يعرف إلى أين.

 

3

 

تواصَلَ عرضُ الفيديو بصوت مُعـلّـق غير مرئي، يقـــــول: ["لعلك، أخي الكريم من أولئك الذين يعتقدون خطأ أن فضائل بول البعير منحصرة في شفاء الأبدان من الأضرار، وذلك بفضل توفره الطبيعي على جُزيئـة PNO. الواقع أن مختبراتنا قد أضافت  إلى منتوجنا المسوَّق، في فرمولته الجديدة، جُزيئة إضافية طبيعية أخرى هي جزيئة PNO.plus، فأصبحت له بذلك مزيّة إضافية مكملة لشفاء الآبدان، ألا وهي مزية تنقية الصدور والأذهان من الأدران. فانشر هذا ولا تتركه عندك"].

 

جزع الفنّان المبدعُ قناعةً في الحين وفي هلـَع لِمَا رأى من شُرب ذلك الفتى الجالس وسقيه من الشراب الفتيين؛ وذلك بعد سماع الفنان تعليقَ المعلِّق وتبيينه لطبيعة ذلك الشراب، فعاد للتو من جديد إلى نافذة أخرى من نوافذ هاتفه على الشبكة ليبحث في لوائح قاموس المختزلات عن التعبير الكامل لمختزل PNO؛ ولمّا يُنه بعد مشاهدة كامل ذلك الفيديو نفسه الذي كان قد صرَفه عن استكمال قراءة نص الوصفة.

 

بحث عن PNO في لائحة قاموس Acronym Finder للمختزلات؛ فوجد أن من بين المعاني الـ22 لذلك المختزل، هناك بالفعل أحدها يتمثل في اختزال بالأحرف الأولى للعبارة اللاتينية المشهورة / Pcunia Non Olet/ ("الدراهم لا رائحة لها")، وهي العبارة المُسندة إلى الأمبراطور الروماني، فيـســباصيان، في شأن الضريبة التي كان قد فرضها ذلك الامبراطور على تجارة بيـــــع بــــول الدوابّ من حمير وبغال وخيل.

 

أخذ بعد ذلك يدعو رب السماوات: ["يا ربّ الأرباب، يا معتق الرقاب، يا من ناداه موسى فاستجاب، يا من اتخذ ابراهيم خليلا، وعيسى روحا قدسا، وأحمد حبيباً ومصطفى؛ ويا مَن إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون؛ الذي خلق أوّل ماخلق جوهرة، ثم خلق من الجوهرة ظلمة، ثم من الظلمة نورا، ورفع السماء رفعا، وسطَح الأرض سطحا، ونصب الجبال، وخلق الجمال، لِـــمَ خلقتَ العنكبوت؟ كما كان قد تساءل لديك نبيّك داود حين قال (רבונו של עולם, למה בראת את העכביש "يا ربّ العالمين، لمِ خلقت العنكبوت")؛ وذلك لمّا شاهد النبي زنبورا وعنكبوتا بينما كان يتجول بين ورود جنان رياضه؟ ثم، لمَاذا خلقت الدجاج الأبله، وكسوتَ عظامه لحما، ورزقتني منه عظامه؟

 

وبينما كان المتأمل شاردا في تأمل خلق السماوات والأرض، واختلاف الليل والنهار، لاح له في الأفق الفتيانِ اللذان كان قد سقاهما صاحبهما الثالث ممّا بين يديه ما سقى. وقد بديَا له هذه المرة كما لو أنهما كانا زميلين تجمعه بهما روح الدعابة والمرح والشغب المتبادل، وأنه هو نفسه صابهما الثالث المرفوع. فقهقه في وجههما من بعيد قائلا: ["هيههه؛ أنا من سقيتكما ما سقيتكما ممّا كُـتب لكُـما؛ فهنيئا مريئا لي ولكما؛ إنما الأعمال بالنيات"].

 

تذكّر فجأة، وفي هلع، أن عليه أن يتدارك الأمر بسرعة، ويمحو ما كان قد تقاسمه مع العموم على جداره الفايسبوكي متسرّعا وبدون تمحيص؛ فقفز منتفضا من كابوسه السريالي الليلي الطويل، وفتح النافذة المشرفة على أفق شاسع تتقاسم فضاءَه مزارعُ زيتونٍ وتين ورمّان وعنب، وقد بدأ اخضرار عرصاتها من جديد، ونهرٌ يتلوّى سيلانُه في تكاسَـلِ نحو مصبّه، وحَرفُ بحرٍ هادئ ذلك الصباح؛ ووجد السماءَ تمطر ماءً زلالا، فـتَـلى قول التنزيل {استغفروا ربكمُ إنّه كان غفّارا، يرسلِ السماء عليكم مدرارا ويمْدِدِكم بأموال وبنينَ ويجعلْ لكم جنّاتٍ ويجعلْ لكمُ أنهارا}.

 

 

----------------------------

محمد المدلاوي

https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques

 



08/12/2021
0 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 343 autres membres