(EN ARABE) Eléments du climat: grâce, épreuve, punition ou matière à gestion?
ما بين عقلية بَـلوى الجفاف وعقاب الطوفان
ومفاهيم المعرفة العلمية والحكامة الجيّدة
الكوارث الأخيرة التي خلفتها، في المناطق الوسطى على الخصوص (مثلث الحوز، سوس-ماسة، درعة)، تقلباتٌ طقسيةٌ لم تكن استثنائية خارقة بالمقاييس الدولية (مقاييس أنظمة التأمين ضد الكوارث مثلا)، تطرح أكثر من سؤال من قبيل:
(أ) أسئلة الحكامة والتدبير ومراعاة التوازنات الجهوية في توزيع المداخيل العمومية على مجهودات التجهيز والبنيات التحيتةعلى المستوى الوطني (انظر هـنـا)،
(ب) أسئلة أدوار كل من هيئة الدولة الوطنية الحديثة كهيئة مركزية، في علاقتها بكيانات الجهات بالمفهوم الوظيفي في الحالتين، وذلك في غمرة النقاش حول مشروع سياسية جهوية للدولة،
(ج) أسئلة سوسيو-ثقافية على مستوى المعرفة بقوانين الطبيعة ومدى الصدور عنها في التخطيط وتهيئة وتدبيرالمجال، وعلى مستوى تصوُّر أدوار كل من الدولة المركزية والكيانات الجهوية والمحليّة في ذلك التدبير. سنبدأ هنا بالفئة الثالثة من الأسئلة معبرا عنها من خلال بعض مغازي عرض وصفي ذي طبيعة أدبية.
لقد بدأت الأمور ببلاغٍ لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية يدعو إلى صلاة استسقاءٍ "بمختلف جهات وأقاليم المملكة يوم الجمعة 13 محرم 1436 هـ الموافق لـ7 نونبر 2014 م"، ثم تلا ذلك مباشرة بعد استجابة السماء اختناقُ مجاري العاصمة تمارة فخرج البطل الوطني، علال القادوس، من الفرناتشي لتسريح مجاريهما (انظر هـنــا)، ثم ما لبث أن غرق زعيم سياسي ومسؤول برلماني، المرحوم أحمد الزايدي، بسيارته في أحد منعرجات تصريف السير بضواحي العاصمة نفسها (انظر هـنــا).
تقليد استخارة الاستسقاء تراث ثقافي غير مادّي عريق تتقاسمه الثقافة الإسلامية مع الثقافة اليهودية التي تطلق عليه فقهياتُها تسمية "تفيلاة كًيشيم" תפלת גשם (أنصت إلى صلاة "بارخينو" هــنــا). وهو تقليد له أوجه محلية طقوسية مختلفة في جهات المغرب ("سونا"، تاغنجا"، الخ.) عاشها بعضُنا في مرحلة الصبا؛ وكانت تتمثل، في بعض المناطق، في يوم حملة جماعية يتمّ فيه (1) تنقيّة مقبرة الجماعة من الأعشاب والأشواك، (2) إقامة صلاة استسقاء جماعية ("اللهم اسق بلادَك وعبادَك وبهيمتك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك المَيت") في مصلى الجنائز قرب المقبرة، بأثواب مقولبة الوجه، وبأكف للضراعة مقلوبة كذالك، (3) الانتقال إلى مباراة بتر حبل سميك متين مفتول من سعف النخل أو الحلفاء يكون قد نُقّع طيلة الليل في ماء الينبوع المحلي ليشتدّ ويتمتّن أكثر، وذلك عن طريق تجاذب طرفيه بين فريقي الرجال والنساء.
أما حينما تستجيب السماء بما يفوق حدود الرّي والرحمة فيتعداها إلى البلاء في الدنيا، فقد كانت هناك مدوّنات من أدبيّات اللطيف وطقوس أخرى أكثر شعبية للتأثير على عناصر الطبيعة في اتجاه جعل "الرحمة على قدّ النفع"، توازيها ثقافة تجريبية تمت صياغة مضامينها على شكل مأثورات شفهية متواترة يعملُ الناس على هدْيِها في تدبير شؤون مجالهم، آخذين جِدّيا لعناصر الطبيعة، في حدود تصورهم لها، بعين الاعتبار. ومن المناسب هنا أن نمثل لهذه الثقافة بالكيفية التي كانت تـَـتصوّر بها طبيعة وسلوك الأودية والأنهار مثلا.
يقول المثل الأمازيغي القديم في هذا الباب، وبالضبط في حالة فيضان مفاجئ لنهر حيّ أو لوادٍ موسميّ وخروجه عن سرير مجراه المألوف، ما يلي: [يضي-د واسيف ارّاتن نس]، أي "لقد أدلى الواد بوثائق مِلكيّته".
تلك المِلكية الطبيعية المُعترف بها لبعض عناصر الطبيعة كما كانت متصوَّرة ثقافيا، كانت من بين الاعتبارات التي كانت تحكُم تدبير الإنسان لمجاله، في غير اطمئنان للمتقلبات الدورية للمناخ التي تُبْطن المفاجئات: فللنهر أو الواد في تلك الثقافة مجال هو في ملكيته الطبيعية مهما تقلبت الأحوال، ومهما طال حالة "نوم" الواد أو النهر. في إطار حذر هذه الثقافة ما-قبل-الحداثية، ومما له علاقة مباشرة بما حصل اليوم في كثير من المناطق المشار إليها (انظر مشاهد من كًـليميم وأكًـلو هــنـا و هــنــا)، نسرد الرواية الآتية؛ وهي من محتفظات ذاكرة الصِبَى:
كان الشريف مولاي عبد العزيز بن الحَسَن، رحمه الله، من آل أيت بن السعيدي الأولوزيين المنحدرين من تافيلالت، أبرزَ أعيان مجموعة إيكًودار بقبيلة المنابهة (مدينة أولاد برحيل حاليا) في منتصف القرن العشرين. كان يخرج كل يوم بعد صلاة العصر بعكازه إلى فناء القصبة المحوّطة ("أيت حمّو عدّا")، فيجلس على كومة من الحجارة التي أقيمت أمام بوابة القصبة كتذكار تبرّكي ("كركور") لجده البعيد، مولاي علي الشريف، فيأخذ في تفحص تفاصيل ما يتحرك في الحقول وفي محيط القصبة، مزجّيا الوقت بترديد منوعات من الرجز الشعبي، المحبّب للفقهاء والوراشيّين من أهل سوس، وذلك في مختلف الأغراض. ومن بين الأبيات التي كان يرددها كثيرا بمقتضى ظرفيات ذلك الوقت بصوت مرتفع ولحن من الطبوع الأمازيغية حتى حفظناها عنه ونحن صبية ترديده ما يلي:
ثلاثة في الدنيا لا أمان /// الوادُ والمخزن والزمان
الواقع أن المجموعة السكنية لإكودار، بما فيها قصبة أيت بن السعيدي، تقع على ضفتي واد عنيف ومباغث الغضب، هو "واد بوسريويل"، أحد الروافد الريئيسية لنهر سوس. مردّ العنف المباغث لذلك الواد يعود إلى شدة قربه من ينابعه العالية في شعاب جيال الأطلس الكبير (عبر تافينكًولت) التي تنهمر بسرعة وقوة كلما حصلت زخات مطرية في الأعالي ولو لم تشمل السهل، مما يعطى لحملة ذلك الواد طابع المفاجأة خصوصا حين يخرج فجأة عن سرير مجراه المألوف. ولذلك السبب كذلك لا يعمر جريان ذلك الواد كثيرا؛ إذ لا يتعدى ذلك الجريان فترة استمرار التساقطات إلأ بأقل من يوم.
غير أن الثقافة المحلية قد صاغت لتلك الخصائص الطبيعية لذلك الواد تفسيرا بطريقتها الخاصة، التي تسجل في نفس الوقت حقيقة أن مجال مِلكيته الطبيعية يتعدى سرير مجراه الاعتيادي. فقد كان يروى أن سبب كون الحملات المباغثة لذلك الواد خاطفة مباغثة قصيرة الأمد، على شكل كرّة غزوة من الغزوات، هو ما حصل من أن صالحا من الصلحاء المحليين، سيدي محند و-بوبكر، الموجود ضريحُه بثلاثاء المنابهة، كان في حياته دائبا على التوجه صباحا إلى ضفة ذلك الواد ليعتكف فيها متعبدا ذاكرا مفترشا فروته ("هيضورة") في "كُارة" دائرية صغيرة حوّطها بحجارة الواد؛ فكان يترك وراءه في المساء فروته في مكانها وكذا حجر تيمّمه الأفطح الصقيل إلى أن يعود في الغداة. وبعد عدة سنوات مما دأب عليه، أقبل ذات صباح فوجد واد "بوسريويل" قد خرج عن سريره وجرف الكًارة بما فيها، واقتلع أشجار السِدر التي كانت قد نبتت على ضفتيه خلال سنين؛ فدعا الولي الصالح على ذلك الواد، بما أوتي من كرامة قائلا: "سير آ-بوسريويل: يلا بتّْ ما تصبح، ويلا صبحتْ ما تبات". فكذلك تمّ تسجيل مضمون المعرفة التقليدية لذلك الوقت بعناصر الطبيعة، فسار الناس على هدي تلك المعرفة في تعاملهم مع "واد بوسريويل". تلك الثقافة لم تعد اليوم قائمة بعد الانقلابات السوسيو-اقتصادية الجذرية التي طرأت (انقراض الفلاحة الأسرية الاكتفائية وحلول استغلاليات الفلاحة التسويقية محلها) لكن مع استمرار نفس واقع التهيئة المجالية (الطرق والمرافق والبنيات التحتية مما عدا الماء والكهرباء) على ما كان عليه في الخمسينات بما في ذلك "واد بوسريويل" الذي لم تمد قط عليه قنطرة. فما نوع المعرفة والحكامة التي حلت محل الثقافة القديمة؟ وما هي التدابير التي واكبت بها سياسة الدولة المركزية (بوزاراتها في التخطيط، والتجهيز والنقل والتعليم، والصحة وبفيالق مهندسيها الطوبوغرافيين القابعين في مكاتبهم) تفكّكَ البنياتِ السوسيو-اقتصادية المحلية والجهوية بما كان لتلك البنيات من ثقافة القيام بالذات في التدبير الجماعي (تقاليد "التويزة" مثلا في المواسم وحالة الكوارث) قبل مستحدثات تولـّي الإدارة للأمور وتحصيلها للضرائب والمكوس في الأسواق؟ الفيديو الآتي يجيب عن ذلك، وهو من منطقة "يدا وباعقيل" وأشكر الزميل حسن بوزيت الذي مكنني من رابطه على موقع للمشاطرة (انظر هــنــا).
أما تقلبات أحوال الطقس، في حد ذاتها، فلا ينال المغرب منها إلا أقلها بالقياس إلى أعاصير أوروبا وأمريكا وجنوب آسيا أو إلى جفاف الشرق الأوسط بما فيه دولة إسرائيل مثلا. ففي ما يتعلق بمفعول الجفاف الدوري، كان قد تنبه الملك الراحل الحسن الثاني إلى ما يمكن أن تخفف به سياسة السدود من وقعه، فكان ذلك مما يحسب لسياسة ذلك العاهل. وأما "الفيضانات" الدورية، فقد أشار نفس العاهل يوما في إحدى خطبه بمناسبة فيضان وادي سبو بالغرب في الستينات، إلى أنها، كما هي عليه في المغرب بحكم مناخه، لا تشكل في حد ذاتها تهديدا بالنسبة لذاكرة المغاربة. فتلك الذاكرة تحتفظ بـسنوات الكوارث: "عام الجوع" و"عام البون" "عام التيفوس"، و"عام الجذري"، و"عام الطاعون"، "عام الزلزال"؛ ولكن لا مكان في فيها مثلا لـ"عام الفيضان". معنى ذلك أن الإنسان هو المسئول، من خلال مدى يقظته وحكامة تدبيره لمجاله، عما يمكن للأمطار، بمعدل مقاييسها في المغرب، أن تشكله من تهديد بالنسبة للإنسان، وأن الأمطار بمقاييسها المغربية لا تخـلـّـف في تلك الذاكرة إلا الاطمئنان لمفعولها الخيري.
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 345 autres membres