(EN ARABE) Du populisme politique au charlatanisme académique
(1) Si la graphie arabe ne s'affiche pas correctement, aller dans la barre de menu en haut de la page, cliquer sur le bouton AFFICHAGE puis sur CODAGE, puis sur (PLUS, puis surARABE(Windows)
كثر الحديث في الأيام الأخيرة (2012) عن الشعبوية كنهج جديد في ممارسة السياسية. ويمكن إجمال مضمون مفهوم هذا المصطلح الجديد في بناء الفعل السياسي ليس على أفكار سياسية متميزة كيفما كانت قيمها المصلحية (أفكار يتقدم بها السياسي ويدافع عنها بالفعل الميداني ليحوز لها اقتناع وتبنّي أكبر عدد ممكن على الساحة الاجتماعية)، وإنّما على مجرد رصد مزاج أهواء كتلة الجمهور، وصياغة شعارات وقفشات وخرجات تدغدغ تلك الأهواء قصد الركوب السياسي على موجها نحو السلطة. وقد أطلِـق على ذلك النهج عند الإغريق قديما مصطلحُ الديماغوجيا (demos+ago)؛ ولنعَرّبه هنا بـ"الدهماغوجيا" أي "قيادة الدهماء". كما عُرف ذلك المفهوم عند الرومان بمختلف المصطلحات المشتقة من populus "شعب"؛ وعنها تفرع المصطلح الفر نسي الحديث populisme. ثم إن الرومان قد صاغوا قولين مأثورين يترجمان موقفين مختلفين من ذلك النهج؛ فهناك قول بعضهم: vox Dei Vox populi, ("صوتُ الشعب صوتُ الله")؛ ثم هناك قول الآخرين: Vox populi, populus stupidus ("صوتُ الشعب حماقةُ الشعب").
لكن الذي لم يتم الوقوف عنده قط في الأوساط التي يعنيها أمرُه، هو التساؤل عمّا إذا لم يكن في الأوساط الأكاديمية ما يقابل الشعبوية في أوساط السياسة، أي ما أسماه العنوان بـمنهج "الحشوية".
فالإقناع في السياسة إقناع بمصلحة، سواء أكانت المصلحة مادية أم معنوية، فئوية أم طبقية أم عمومية؛ وسواء أكانت عاجلة أم آجلة. أما الإقناع في الوسط الأكاديمي فهو إقناع بحقيقة فكرية، عقلية كانت أم طبيعية أم تاريخية أم اجتماعية، وذلك اعتمادا على معالجة العقل لمعطيات الواقع في ما يتعين فيه الاستقراء، وعلى البرهنة حيث يتعيّن البرهان العقلي. الإقناع بالمصلحة، كيفما تم تصورها، ينتمي إلى باب الأخلاق وما يتفرع عنها في سَوس المدينة؛ ولذلك فإن إكساب المشورعية للفكرة السياسية، والعمل على تحقيقها، يحتاجان إلى نصرة الأغلبية لها (أي حشد صوت الشعب لها)، أو قبولها على الأقل. أما إحقاق الحقيقة العلمية، فليس شأنا ديموقراطيا يستمد مشروعيته من "حجة" تصفيق الجمهور (ad populum حسب التعبير الروماني). الإقناع في السياسة يقتضي الدهاء والخطابة والمناورة في خضم التدافع والمداهنة في حينها والإقدام حين تتوفر الفرص؛ أما الإقناع العلمي فيقتضي مجرد الصدق والانضباط الصارم لأسس العلم المعني، مع الاستعانة بفن بيداغوجيا تبليغ المفاهيم والأفكار والنظريات، لكن ليس لكافة "يا أيها الناس" إذ الأمر متعذر، وإنما لمن يتوفر على الحد الأدنى المشترك من تلك الأسس في الحقل المعرفي المعني.
ويتمثل المنهج الحشوي في عدم الالتزام بذلك الصدق وذلك الانضباط وإغراق الخطاب العلمي في متاهات التقريب والتشبيه والخطابة من جهة، وفي التعويض عن كل ذلك بإشراك غوغائي مزيف للجمهور باسم التيسير في حقل معرفي ليس مؤهلا له، والاستعانة بكمّه العددي في ذلك الحقل كحجة إقناع معرفية (ad populum) في وجه الملتزمين ببروتوكولات صرامة العلم.
دواعي طرح التساؤل السابق حول المنهج الحشوي في الأوساط الأكاديمية كثيرة؛ وكثيرٌ منها قديم وذو تجليات تختلف عبر الحقب.(1) إلا أننا سنقتصر هنا على مظهر ملموس ومحدد وجِدّ حديث في الوسط الأكاديمي المغربي. فموازاة مع خطة مؤسسية صريحة وممنهجة لإدخال ما يسمى بـ"الإعجاز العلمي للقرآن والسنة" إلى المؤسسات الأكاديمية والتربوية بالمغرب في العشرية الأخيرة، على سبيل نمط حشوي يشوه التفكير العلمي الصارم والمنضبط في أذهان الناشئة بقدر ما يحرّف علوم القرآن والسنة عن مناهجها، الملائمة لطبيعة مواضيعها، وذلك لمجرد غايات أيديولوجية (2) ، ظهرت كذلك في نفس الفترة موجة من المؤلفات الأيديولوجية المكملة، لكن تحت غطاء البحث اللساني هذه المرة. بدأ ذلك بمؤلفات الليبي الراحل فهمي خشيم (رئيس مجمع اللغة العربية الليبي) الذي صادفت رحيله احتدام الثورة الليبية، وصاحب كتب "سفر العرب الأمازيغ"، و"اللاتينية العربية"، و"الدارجة المغربية بين العربية والأمازيغية" الذي يرد فيه على اجتهادات محمد شفيق في نفس الموضوع، والذي طـُبع بشراكة ما بين إحدى دور النشر بالمغربية و"مجمع اللغة العربية- طرابلس 2008"، وتم تقديمه بعد ذلك من أجل طبعة أخرى إلى مؤسسة مغربية عمومية. ثم تلت ذلك أعمال المؤلف العُماني سعيد الدارودي، وآخرها كتابه "حول عروبة البربر؛ مدخل إلى عروبة الأمازيغيين من خلال اللسان"، الذي نشر بنفس دار النشر المغربية المشار إليها. هذان المؤلفان يتفقان "علميا" في تخريجاتهما الحشوية على أن الأمازيغية عبارة وجه من أوجه اللغة العروبية، هو الوجه العدناني (وسط الجزيرة العربية). وأخيرا انتقل هذا الاهتمام العروبي (إنه المصطلح الذي يستعمله المؤلفان) المفاجئ بالإمازيغ وبالأمازيغية في العشرية الأخيرة من التأليف في الموضوع عن بُعد إلى أسلوب المحاضرة الأكاديمية حوله في الميدان، أي في عقر الجامعة المغربية. ذلك ما دشنه مؤخرا "المحقق الفيلولوجي" السوري، محمد بهجت قبيسي في محاضرة له بمدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب بالرباط يوم 4 ديسمبر 2012 بعنوان "نقش 'مُـسِـنّ سِـنّـهـم' المعروف خطأ بـماسيـنيـسا؛ قراءة لغوية/تاريخية" التي تناول خلالها النص المزدوج اللغة الشهير (بونيقي أمازيغي ليبي) المنقوش على ضريح الملك الأمازيغي ماسينيسا (138 ق.م) والمحفوظ حاليا بمتحف باردو بتونس.
أول ما قام به هذا "المحقق" في تخريجاته الحشوية ليكشف "الوجه العروبي الخفي للأمازيغية" أمام انبهار الجمهور هو "تصحيح خطأ المستشرقين" الألمان والفرنسيين (Rössler, Chabot, Galand) الذين انكبوا على فك الأحرف البونيقية ("الآرامية" حسب المحقق الجديد) والليبية-التيفيناغية لذلك النص لعدة أجيال منذ ما يربو عن سبعين سنة. فقد عمد مثلا إلى اسم الملك الأمازيغي "ماسينيسا" صاحب الضريح، الذي ورد عدة مرات في نصي النقش معا (نص الحرف البونيقي، ونص التيفيناغ الليبي) على شكل ما يقابل (م.س.ن.س.ن)، فاستخرج من ذلك الاسم بالتقطيع كلمتين من عربية يومنا هذا، أي كلمتي (مُسِــنٌّ + سِــنّاً)، وهو ما ترجمه بـ"مسنّ سنّهم" تارة، و"شيخ شيوخهم" تارة أخرى. أما لقب "مَلِك" الذي ورد في النصين، مقترنا بشخص ماسيــنيــسا وبأسماء ملوك قبله مذكورين في النص، والذي ورد رسمه على شكل ما يقابل (م.ل.ك) في النص البونيقي، وعلى شكل (ﮔـ.ل.د) في النص الأمازيغي الليبــي (/ا-ﮔـلـّـيد/ هو اللفظ الدال على "ملك" إلى اليوم في جميع أوجه الأمازيغية)، فقد نزعه المحقق الجديد عن كل أولئك الملوك الأمازيغ عن طريق تأويل مادة (ﮔـ.ل.د) الأمازيغية في النقش بالمادة العربية (ج.ل.د)، حيث انبرى المحقق يتحدث، في هذيانه الحشوي، عن "كتب مجلدة بجلود الجمال الصغيرة". أما المقابل (م.ل.ك) في النص البونيقي، الذي لم يستقم للمحقق تصريفه لفظا ومعنى إلى "جلود ومجلدات"، فقد أقره على إفادة معناه في اللغات السامية عامة (أي "مَلـِك")، لكنه صادر ذلك المعنى وحوّله عن طريق تخريجاته الحشوية القائمة على تقطيع سلسلة أحرف النقش حسب هواه ليسنده إلى شخصية كنعانية أسطورية ابتدعها بتقنية تلك التقطيعات، فسماها "الملكة بنت حنا بعل".(3) ثم انتهي في الأخير إلى الغاية من تحقيق "خطأ المستشرقين"، أيْ استنتاج كون القسم الأمازيغي المدون بحرف التيفيناغ الليبي القديم عبارة عن وجه خفي "للعربية الليبية الأمازيغية" المعبّرة، حسب المحقق الجديد، عن "التآخي الكنعاني/الأمازيغي بأرقى صوره"، وهو ما يصب في النهاية في نفس التيار "العروبي"، لكن في فرع عصبيته الشامية بشمال الجزيرة (كنعان) هذه المرة، وليس في فرع العصبية العدنانية (في الوسط) ولا القحطانية (في الجنوب). لقد أضيفت اليومَ الكنعانية إلى القحطانية والعدنانية، كأوجه معاصرة لتلك العصبية التي كان قد قال عنها طه حسين إنها ["تتـشكل بأشكال الظروف السياسية والإقليمية التي تحيط بها؛ فلها شكل في الشام، وآخر في العراق، وثالث في خراسان، ورابع في الأندلس"] (في الشعر الجاهلي؛ طبعة 2006؛ ص:64-65). فأما تلك الظروف السياسية والإقليمية المحيطة اليوم، فهي بوادر استقلال ثقافات وطنية في البلدان المغاربية في الجيل الأخير؛ وهي البوادر التي تكمن وراءها كل تلك المحاولات الاستردادية على شكل اهتمام مفاجئ أكاديمي حشوي باللغة الأمازيغية. ولقد عكس الدستور المغربي، على الخصوص، تلك التطلعات لما أسّس صراحة، في ديباجته، مشروعيةَ الدولة الوطنية الحديثة، ليس على ولاءات وانتسابات إقصائية، ولكن على مقومات الهوية الوطنية المتعددة الروافد وغير القابلة للتجزيء.
لن نستمر هنا في تفاصيل بيان مقومات وتقنيات منهج التخريجات الحشوية في باب اللسانيات التاريخية والمقارنة، والتحقيق الفيلولوجي للنصوص القديمة، مما تناولناه بتفصيل في مقام آخر ملائم، ذلك المنهج القائم أساسا على ليّ أعناق الكلمات من هذه اللغة أو تلك، في جميع الاتجاهات، خارج التاريخ، وخارج الجغرافيا، وخارج ما راكمه علم ذوي الاختصاص من معرفة، ليـّـا تعسفيا حسب ما يقتضيه إرضاء أيديولوجيا هذا الجمهور أو ذاك.
علم اللغة المقارن يقوم على أساس قوانين التقابل الصوتي المــــطردة بين لغتين أو أكثر من اللغات التي لها آصرة نشوئية واحدة تفرعت عبر الزمان والمكان فاختلفت بعض أصواتها بالتدريج لكن بشكل مطـــــرد (السين العربية مثلا تقابلها الشين باطــــراد، والخاء تقابلها الحاء، والغين تقابلها العين، والذال تقابلها الزاي، الخ. كما أن السين والزاي مثلا في أمازيغيات الشمال تقابلهما الهاء في كثير من أمازيغيات الطوارق بشكل مطرد، وهكذا. ويوجد نفس هذا القبيل من التقابلات الصوتية المطردة بين كثير من اللغات الأوروبية، وهو معروف وموصوف. وهذه القـــــــوانيــــــن هي التي تسمح بتوسم الأصل المشترك لتلفطات كلمة معينة بين لغتين أو أكثر ومعرفة صورها القديمة والجديدة المتطورة عنها، وليس العمد المزاجي إلى ليّ أعناق الكلمات بتقريب لفظ صوت بصوت، أو إسقاط صوت أو إضافة صوت حسب المزاج والهوى، أي الأسلوب الاعتباطي المجاني الذي يمكن معه اختيار أي لغة من اللغات وإرجاع بقية اللغات إليها بفضل تلك البهلوانيات والشرلطانيات "الأكاديمية" التي تبهر الأذهان التي تعتقد أن بإمكانها قراءة بحث في اللسانيات المقارنة كما تقرأ رواية دونكيخوط أو أبي زيد الهلالي.
الذي يعنينا هنا في النهاية هو مجرد لفت الانتباه، من جهة إلى الفراغ الذي سمحت باتساعه المؤسسات الأكاديمية المغربية المعنية بشأن المعرفة العلمية في باب علم اللغة المقارن، والتأصيل التاريخي للغات الوطنية ولمعاجمها بما يسمح في نفس الوقت بتملك معرفي للتراث المنقوش، وكذا لفت الانتباه من جهة ثانية إلى أن ذلك الفراغ بالضبط هو ما ترك الباب مشروعا على مصراعيه أمام تجريبات جميع أصناف الأفاقين من الحشوية لكي يتخذوا من الفضاءات الأكاديمية المغربية منطقة سوق حرة لترويج حشوياتهم اللسانية. هذه المؤسسات اليوم هي المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ومعهد الدراسات والأبحاث للتعريب، والمعهد الملكي لتاريخ المغرب، ومعهد الدراسات الإفريقية، والمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية المرتقب، وكافة الأقسام والشعب الجامعية التي يفترض أن تتعاون مع هذه المؤسسات في هذا الباب.
-------------
(1) يقول أبو الوليد بن رشد مثلا في مسألة تناول قضايا الشرع على مستوى نظر الفلسفة والحكمة ["ولهذا يجب ألا نثبت التأويلات إلا في كتُب البراهين؛ لأنها، إذا كانت في كتب البراهين، لم يصل إليها إلا أهل البرهان. وأما إذا ثبتت في غير كتب البرهان، واستُعملت فيها الطرقُ الشعرية والخطابية، أو الجدلية، كما يصنعه أبو حامد (الغزالي)، فخطأ على الشرع وعلى الحكمة، وإن كان الرجل قصد خيرا. وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك (التيسير التقريبي التشبيهي)، ولكنه كثّـر بذلك الفساد بدون كثرة أهل العلم، فتطرق بذلك قومٌ إلى ثلب الحكمة، وقوم إلى ثلب الشريعة، وقوم إلى الجمع بينهما"]. (فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال)
.(2) انظر https://orbinah.blog4ever.com/blog/lire-article-162080-2517498-_en_arabe__1_miracles_scientifiques_coraniques_et_.html
(3) لكي يمرر المحقق هذا التباعد بين مضموني الصيغتين، البونيقية والأمازيغية لنفس الإهداء في ذهن الجمهور، أشار فعلا إلى أن "الموضوع كُرّر مرّتين"؛ لكنه أضاف أن "النص الآخر حمل الفكرة، ولم يكُ ترجمة حرفية، إن صحّ التعبير".
(4) نافذة التعليقات لا يظهر فيها الحرف العربي بشكله الصحيح بعد إرسال التعليق.
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres