(En arabe) Discuteurs de profession, ou "machines à opinion"
عودة إلى "أصحاب الدلو" أو "أصحاب الدلاء" أو "الدلائيين"
قصة "الحيوان المناقِش" مع "الداكًيش حازاق" (דגש חזק)
--------------------------------------------------------
هل أتاك حديث أصحــــاب الدـــــو؟ إنهم أولئك الذين يعتبرون النقـــــــــاش حقـــــــــــــا من حقوق الانســـــــــان، متفرعا في اعتقادهم عن "حريــــة التعبيــــر" التي تقوم لديهم مقام مــــلكـــــة التفكير؛ إذ الانسان في ملّة النقاشيّين واعتقادهم حيـــــــوانٌ مناقِـــــش: "انا أناقش، إذن فأنا موجود".
ليست لهم ملَكــــــــــة توليــــــــــد الأفكــــــار و/أو استيعابها في ذاتها، لكنّ لهم جهازا آليا نهِما في منــــاقشـــــــــــة كل مـــــن يطرح في الفضاء العمومي فكرة من أفكارٍ، والأفكار لا تشكل بالنسبة إليهم في حـــــدّ ذاتها موضـــــــوعا لإعمال الفكر، بقدر ما تشكّــــل جســـــرا ومَعبَــــــرا نحو شخــــــــــــصِ من طرحها على الطاولة. فحقُ النقاش حقٌّ لذات المناقِش على ذاتِ طارح الفكرة.
.
وإذا ما افتعل الدلائي المعيّن مِن أصحاب الدلو اللباقةً، من باب افتعال تواضعِ العارف، يستهل تفعيلَ حقه الكوني الأممي في النقاش بقوله أقوالا من قبيل:
"لست ومن ذوي الاختصاص، ولكن نظرا لأهمية الموضوع سأدلي بدلوي فيه ..."، أو "لم أحضر منذ البداية، ولكن بناء على بعض ما أدركت سماعه، وبناء على بعض التدخلات، لدي بعض الملاحظات في المضوع"، أو "لم أقرأ الكتاب نظرا ... ولكن بناء على ما قيل حوله لدي مجموعة من الملاحظات" ... الخ.
.
هذا النهج الأخير استعمله حتى بعض الأكابر من القوم، أمثال ابن حزم الأندلسي، الذي ردّ في رسالته على كتاب معاصره "ابن ناغريلا" المؤلّف باللغة العبرية حول مدى تماسك نص القرآن الكريم، مصرّحا في مقدمة رسالته تصريحا بأنه لم يقرأ كتاب ابن ناغريلا وإنما قرأ بعض ما قيل عنه (عن ابن حزم وعن رسالته المشار إليها، هــــنـــــا).
ذهنية أصحاب الدلو إنما هي فائضة عن ثقافـــــــــة الـــــــرواية والقـــــــول ("قال فلان، روي عن فلان") التي يتوارى فيها جوهــــــرُ الفكرة وراء شخص من طرحها، فينصب الحكمُ بالتالي ليس على مدى صـــــــوابية الفكـــــرة علميا أو أخلاقيا، ولكن على ذات القائــــــل وشخصــــــه، في هذا الاتجاه أو ذاك. ولذلك، وفي تداخل مع أوجه أخرى لشخص ابن ناغريلا المذكور، باعتباره ربّيا تلموذيا وباحثا في الملل والنحل، ونحويا وشاعرا ملحميا ووزيرا وقائدا عسكريا ...، فقد تم الانتقام منه بـقتل ابنه الذي خلفه في المنصب السياسي بمنطق تداعيات حملة ابن احزم وخلفه أبي إسحاق (عن ابن ناغريلا، انقر هـــنــــا).
ثقافة أصحاب الدلو تظهر لدى أهلها في مراحل مبكّرة. أتذكر من خلال استدبار عملي بالجامعة نماذجَ في كل فوج من المتكاسلين في وظيفـــــة الطلــــــب، والنشـــطاء الصاخبيــــــن في ساحة الجامعة، ممّن يلج الواحد منهم المدرّج متأخرا متثاقلا، وهو أشعثُ أغبرُ منتفخ الجفنين لا يبدو أن قطرة ماء قد لمست وجهه المكفهرّ، فما أن يستوي جالسا في مَيل شبه منحرف لبضعة دقائق، حتى "يطلب الكلمة" للإدلاء بدلوه في شأن آخر جملة سمعها أو لطرح مبدإ أو شعار. وكذلك يحصل اليوم في منصات والتواصل الاجتماعي في الصفحات المفتوحة للعموم. يفاجئك من حين لآخر دلائيُّ من أصحاب الدلو وهو يصدر أحـــــــــــــكامــــــــــا ويوزّع تُــــــــهما نمـــــــــطيّــــة مغلّظة من خلال قفزه على فكرة من الأفكار المطروحة يتّخذها مَعبَـــــرا لإصدار أحكامه على الذوات، فيدفعك الفضول إلى الإطلال على بروفيله في صفحته، فتجده مادتها متراوحة بين التهنئات ("مزيدا من التألق") والإخوانينات ("راك منوّر"، "تحيّاتي") والصور الاستعراضية والبطاقات البريدية أو الأدعية من جميع الأصناف، ولا تجد فكرة واحدة مطروحة بشكل موجب كــــــإشكـــــال أو كتحدي معرفي أو أخلاقي/سياسي/اجتماعي؛ ذلك القبيل من المادة يبحث عنه صاحب الدلو متسكعا في جوطية صفحات الغير من الصفحات المفتوحة، وكلمّا وجد صاحبَ حلقة من الحلقات، يدلي فيها بدلوه باسم الحــــــق في النــــــقــــاش وإبداء الــــــــرأي "بدل مجرد التصفيق".
ولذلك تكون الحكمة في مثل هذه الأحوال هي إيصاد الأبواب وقطع رابط الاتصال لقطع الطريق أمام الاستــــــــدراج إلى فتنــــــة الرأي المجــــــاني المبـــــــاح مهما كان المحفل أو المنبر. وفي هذا الصدد، ولكي يكون الكلام ملموسا أكثر من خلال أمثلة، أشير مرة أخرى أنه حصل لي مرارا خلال التجربة الجامعية، التي لم أدرّس خلالها سوى موادّ تــــــقـنيّــــــة (لسانيات، لغة عبرية) يصعب فيها كثيرا على أصحاب الدلو الإدلاء بدلائهم، أن يحكّ أشعثٌ أغبرُ من الدلائيين عينيه أثناء توضيحي مثلا للفرق في رسم الحرف العبري بين إعجامي דגש קל [داكًيش قال] من جهة و דגש חזק [داكًيش حازاق] من جهة ثانية (أسميهما بالعربية "الداكًيش الخفيف" و"الداكًيش الثقيل" على الترتيب، قطعا لحبل ما يثيره لفظ [حازاق] "قويّ" في أذهان السفهاء من فرصة لتمييع الحصة)، فيسأل ذلك الأشعث الأغبر قائلا: "لكن، يا أستاذ نريد أن نعرف أصلا لماذا تدرَّس هذه اللغة المصطنعة؟".
فبدلا من أن أقول مثلا مع القائلين: "من تعلم لغة قوم أمن شرهم" وأستشهد مدافعا بكذا وكذا، مشرعا بذلك الباب على مصراعيه أمام إدلاء أصحاب الدلو بدلائهم في كل اتجاه، أقول بكل بساطة مثبطة: "أدرّس هذه اللغة لأنها مادة منصوصٌ عليها في المقرّر، وأسندت إلى في هذه المؤسسة" (صافي، سدّينا)، ثم أعود للحديث عن النظام الحركي في أصوات اللغة العبرية وعن إعجاميات خرفها، بما في ذلك إعجام "الداكًش الحازاق" مستعملا الطباشير على السبورة.
ليس معنى كل ما سبق أن الأشخاص منزهون عن إمكانية الحكم عليهم من خلال ما يسوقونه من أفكار. فمن اختار لنفسه مهنة صياغة الأفكار، كما تُصنع كل بضاعة، مسؤول عن جودة بضاعته. والجودة في هذا الباب تُحسب بحساب مــــدى التـــــــماســــك الكلي لجماع فكرِ المفكّر من المفكرين. إذ من خاصية صِدقيّـــــة الأفكــــــــار - وإن كانت منهجية ُالتواصل والتبليغ تقتضي أن تصاغ منفصلة واحدة-واحدة في غير فوضى استطرادية - أن تكون تلك الأفكار متـــــــــكاملة متماســــــــكة في كليتها ومجملها لكي تحوز بذلك مزيـــــــــة الفكــــــــر الموضــــــوعي (علميا كان الفكر أم أخلاقيا) المجرّد عن انتهازية وانتقائية التفكير المصـــــلحــــي الذاتي العابر حسب تغير الظرفيات.
----------------
محمد المدلاوي
https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres