(En arabe) Des fondements intellectuels de l'institution de "Lieu Saint" et de la Qibla/Orientation en prière
عن مدى بداهة مفاهيم الجهات الست
ز- من مباركة بعض الجهات إلى تقديس بعض الأمكنة
تم الحديث في النصوص السابقة من هذا الفصل عن تقابلات الجهات الست (أمام/خلف، فوق/تحت، يمين/شِمال) من حيث الأسس الذهنية والفيزيولوجية والطبيعية لتحديدها، ثم من حيث ما ربط الإنسانُ بحدّي كل تقابل منها من قيمٍ معيارية، إيجابية (أمام، فوق، يمين)، أو سلبية (خلف، تحت، شِمال)، وذلك في رمزيات الثقافة والأخلاق والجماليات والأيديولوجيات، وبكل ما يعكسه ذلك الربط أحيانا كثيرة من مفارقات. وسنتناول في النص الحالي بعضَ أوجه امتداد إضفاء تلك القيم، من مستوى الجهات في إطلاقية علائقيّـتها، إلى مستوى أماكن محددة بعينها تُتّخذ بدورها مرجعية لتحديد تلك الجهات بدل مرجعية مجرد هندسة أجرام الطبيعة (مشرق/مغرب؛ شمال/جنوب).
ما بين الوثنيّة والتجسيد، والتنزيهيّة والتوحيد
كان العبرانيون، في عبورهم وترحالهم، يعتبرون الذهاب إلى مصر هبوطا إلى أسفل، والعودة إلى أرض كنعان صعودا إلى أعلى. وبذلك الاعتبار تم التعبير مرارا في التوراة عن تلك الرحلات بـ:(רדו מצרימה [ريدو ميصرايما]، أي "اهبِطو مصرَ")، وكذلك في القرآن: {اهبِطو مصرَ فإنّ لكم ما سألتم}؛ وذلك بالرغم من أنه يُعرف اليوم أن البحر الميت منخفض بأكثر من 400 متر عن مستوى سطح البحر، بينما لا ينخفض مستوى البحر إلا ببضع عشرات من الأمتار عن مستوى ضفاف نهر النيل حتى في عالية هذا النهر القليل الانحدار في جريانه.
وبعد تشكُّل العبرانيين في مصر كعشيرة، حيث أصبحوا يعرفون بـ"بني إسرائيل" بعد ذلك، رسّخ بنو إسرائيل مفهوم "الصعود" إلى "أرض الميعاد" منذ أن صعد موسى إلى جبل سيناء في طريقه إلى تلك الأرض التي دخلها بعده يوشع بن نون حسب رواية التوراة. ثم زاد ذلك الترسيخ بعد نشوء الحركة الصهيونية حيث أصبحت الهجرة المعاصرة إلى فلسطين، من أيّ بقعة من بقاع الأرض مهما كانت بالقياس إلى مستوى سطح البحر، تسمى עליה ([عـليا] أي "صعود") ولو كانت تلك الهجرة من جبال الأطلس الشاهقة (تيديلي، أيت بوولّي، ايت بوكَـماز، الخ.). ولما تأسست شركة الطيران الإسرائيلية، سميت كذلك بشركة אל על ([ئِل عال] "نحو الأعلى")، في توريّة ذكية تنصرف، في نفس الوقت، إلى صعود الطيران وإلى مفهوم الصعود المعنوي، الذي تعبِّر به اللغة العبرية الحديثة عن هجرة اليهود إلى فلسطين. فأرض كنعان، بعينها أصبحت مقدسة، باعتبار القبالة اليهودية لها مركزاً للأرض والكون، ورمزا لأعلى عليين (עליון). إنها فكرة الإحلال المكاني، التي لم يستطع لا توحيدُ أخناتون بمصر (انظر Lichtheim 1976)، ولا توحيد موسى بسيناء انطلاقا من مصر، أن يجتثّها كليّة من ذهنية كل من "أُشـرِبوا العجل" باختلاف مِللهم على درب مسيرة الإنسان وسعيه نحو تكوين تصور أرقى للحقيقة الأزلية المطلقة.
ولقد لازمت فكرةُ الإحلال المكاني بني إسرائيل عبرَ تطور فكرهم اللاهوتي، في انتقاله من وثنية تعدد الآلهة (Idolatry) إلى التوحيدية الوثنية (Monolatry) التي لا تتميّز عن الأولى إلا بتجاوز تصور تعدد الآلهة، وذلك ليس فقط من خلال ما يضفيه التصورُ اللاهوتي لذلك الفكر على الربّ من صفات بشرية، كالغيرة، والغضب، والانتقام، والتعطش إلى القرابين، والقُـتـار، والبخور، وغير ذلك، ولكن بالخصوص، من خلال مفهوم الإحلال، أي ربط الكينونة الإلهية بإبعاد مكانية فيزيقية تتراوح ما بين الجِهة (جهة الأعلى، أي السماء) وبعض الأمكنة بعينها على سطح الأرض التي لا يمكن لبعض أوجه عبادة الربّ أن تصحّ إلا فيها حسب ذلك النمط من الفكر الديني. فبعد وفاة موسى عليه السلام، اتخذ عامّة بني إسرائيل لهم "تابوت الحضرة" أو "تابوت العهد" (Convenent Box)، فانتهوا إلى اعتباره "مقاما" (מקום [ماقوم]) للذات الإلهية؛ وتنقلوا به في ترحالهم عبر صحراء سيناء. ولمّا أسّس النبي داود المملكة بعد إلحاحهم عليه رغم تحفظه على ذلك كثيرا، دعَوا في حماس إلى تشييد الهيكل في بيت المقدس ليوضع فيه "تابوت الحضرة" وليصبح "بيتا قارا للرب" بدل الاستمرار في تنقيله، فرفض النبي داود بناء على ما أوحي، حيث قال الرب:
(("لم أسأل قطّ قائدا ممن قيـّضتُ لبني إسرائيل من قادة قائلا: لماذا لم تُـقِـم لي هيكلا من شجر الأرز.". صموئيل الثاني، 7:7)).
ولما أعاد القوم الكرّة فألحوا على على سليمان بن داود بتشييد الهيكل ليُتخذ بيتا للرب، توجه النبي إلى ربه بالاستغفار التوحيدي المنزه الآتي:
(("أيها الرب، إله إسرائيل؛ لا إله مثلك، لا في السماء ولا في الأرض (...)؛ وهل لك أن تقيم حقا في الأرض، يا الله؟ مع أنه حتى السماوات وسماوات السماوات لا تـتسع لك، فكيف بهذا الهيكل الذي بنيته لك؟")). الملوك الثاني، 22-27".
وبعد إقامة الهيكل فيها، أصبحت مدينة أورشليم بكاملها قبلة مقدسة ومركزا للأرض لدى القوم. فبعد تخريب الهيكل الأول، نادى النبي آراميا قائلا:
(("لن يتحدثوا بعدُ عن تابوت عهد الربّ، ولن يخطر لهم ببال، ولن يذكروه بعدُ، ولن يصنعه أحد ثانيةً؛ لأن أورشليم في تلك الأيام تدعى عرش الرب، وتحج إليها كل الأمم باسم الرب")) آراميا-2: 12-17).
وحتى بعد ضياع تجليّات الوثنية لمجرد حدث تاريخي (تخريب أورشليم والنفي البابلي)، لم تختفِ فكرةُ الحلول من الفكر اللاهوتي اليهودي، إنما توزعت تجليات تجسيدها ما بين جبل صهيون ومدينة أورشليم:
(("تعالوا لنصعد إلى جبل الربّ، إلى بيت إله يعقوب، فمن صهيون تأتي الشريعة، ومن أورشليم كلمةُ الله")) إشاعيا 2: 3).
تلك بعض المظاهر الوثنية التي جاء الفكر المسيحي، الذي انبثق من رحم بعض فرق اليهودية مثل الأسينيين (Les Esséniens) كما يتدل على ذلك مخطوطات لفائف قمران (انظر Eisenman & Wies 1995; Peter Tiede 1994)، والمتـجليّة بوادرُه حتى في العهد القديم لدى أمثال النبيَـين، ياراميا وإشاعيا، ليُخلّص منها اللاهوت اليهودي وطقوس اليهودية؛ وذلك لما نادى ذلك الفكر المسيحي بتطهير وختان القلوب بدل ختان حَشَفات الذكور (ياراميا 4: 4)، ونادى بإحلال الإيمان بالله في القلوب بدل ربط الحضرة الإلهية بالأماكن والمذابح (إشاعيا 1: 11). ذلك لأنه {ليس البرّ أن تُـولّـو وجوهَـكم قِـبَـل المشرق والمغرب}،{ولله المشرق والمغرب، وأينما تُـولـو فثـمَّ وجهُ الله} كما جاء في القرآن الكريم بعد ذلك.
غيرَ أن قوة الجنوح نحو الإحلال الجغرافي والطوبوغرافي لدى الجمهور والعامّة ظلّ أقوى من كل ذلك. فقد تسربت تقاليد الحـــــجّ إلى أورشليم حتى إلى بوادر المسيحية الأولى (لوقا، 2: 42)، في تنازع ضرارٍ مع جبل السامرة لدى فرقة السامريين من يهود العهود الأولى للمسيحية الذين أقاموا لهم هيكلا ضِـرارا لهيكل أورشليم، فاتخذوه قبلة لصلاتهم منذ وفاة سليمان وانقسام مملكته إلى مملكتي ياهودا والسامرة (إنجيل يوحنا-4: 1-26). وما يزال هناك في مختلف الملل والنحل من يؤمن بوجود بقعة في الأرض هي بيتٌ للرب ومركز للكون، وذلك في اختلافات طائفية في تحديد تلك البقعة التي فيها يحُلّ الرب، من دون سائر البقع الأخرى المدّعاة في الملل والنحل المخالِفة.
----------------------------
محمد المدلاوي
https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres