OrBinah

(En arabe) A la mémoire de Mohamed Benchérifa

لحظات ولقطات مع الراحل الفقيد، العلّامة محمد بنشريفة

(توفي رحمه الله أمس الخميس 22 نوفمبر 2018)

من صفحتي بموقع فايسبوك، 23 نوفمبر 2018
------------------------------------

 

 

حصل هذا الذي يلي مباشرة، حوالي شهر نوفمبر 1978.

كان الأستاذ محمد بنشريفة، الذي عيّن حينئذ قبل أسابيع عميدا لكلية الآداب بوجدة (مكلفا في نفس الوقت بتدبير فتح كلية الحقوق) قد خرج للتوّ من مكتبة كانت تعرف بـ"مكتبة كاسيريس"، المقابلة للكنيسة في شارع محمد الخامس بوجدة. قطع الطريق المؤدية إلى محطة القطار أمام العمالة، بينما كنتُ على الرصيف في الاتجاه المعاكس. رمق إلي من بعيد فرسم على محياه ابتسامته البهيّة الأسطورية. التقينا على الرصيف قبالة مطبعة كانت تعرف بـ"مطبعة سالما"، فقال لي من على بعد مترين أو ثلاثة: "تعالَ، أيها المشّـــــــــاء"، فابتسمت من جهتي ابتسامة عريضة وتصافحنا وقلت له:
[نعم، أنا كثير المشي على الأقدام؛ أفلم تنظر إلى حذائي الرياضي السرمدي؟ بالصحّ أنا ما-شي "مشّاء همّاز بنميم، منّاع للخير معتدٍ أثيم". هههه]. فضحك، وأخذنا نتحدّث قليلا؛ ثم قال لي، بعادته المتأنية والبطيئة أحيانا في الكلام، لأنه عُرف بحرصه على شـشقلة الكلمات وتعيـيرها تعيــيرا قبل التفوّه بها:
"شوف؛ راه تحدّثت معا الزومالاء، واتّافقنا باش تكون نتا هوّا مونسّيق الشوعبة. كي كا تعرف، على حساب لائحة الناجحين فالموباراة، كُلُكوم موساعيدين، وما يمكنش إدارياً نعيّنوك بلاقاب رئيس شعبة، وسمّينا المسالة مونسّيق ..." (يتعلق الأمر بشعبة اللغة العربية بجامعة محمد الأول بوجدة التي كانت في أسابيعها الأولى للإعداد لاستقبال الطلبة).
.
كان ذلك في الأيام التي كان فيها الثلاثي عبد الرحمن حوطش والمرحوم أحمد حدّادي ومحمد المدلاوي يرابطون في فسطاط صغير نُصب في ساحة "ثانوية الوحدة" لوضع البرامج وتوزيع استعمالات الزمن ... والتناوب في نفس الوقت على زيارة ورشة بناء كلية الآداب التي لم تكن قد اكتملت بعد (وجدت يوما العمال قد نصبو مصطبّات مكتب الأستاذ ليس على مدخل الباب ولكن في عمق القاعة! فأخبرت زميل أ. حوطش والأستاذ عبد الرحمان مكاوي الذي عين كاتبا عاما لكلية الحقوق، واللذين يتوفران حينئذ على هاتف ثابت ليتصل بالعميد محمد بنشريفة الذي كان ما يزال يتنقل بين الرباط و وجدة.

.
تلك لمحة عن انطلاقة علاقة جديدة مع المشمول بالرحمات، العلَم العالم المحقق، سيدي محمد بنشريفة، عضو أكاديمية المملكة المغربية الذي رحل عنّا مساء أمس. أما العلاقة الأقدم فتعود إلى زمن الطلب في فرع كلية الآداب بفاس في بداية سبعينات القرن-20، حيث كان الأستاذ يدرّسنا مادة الأدب الأندلسي، فكان قد لزم كثيرا منّا، وأنا ضمن ذلك الكثير، وقتٌ طويل لفهم شخصيته العميقة، ونحن حينذ في عنفوان سطحية الشباب والجوّ الفكري العام المتّسم بكثير من "الشغب" الفكري. وكم من نكت ذات دلالة حصلت خلال محاضراته التي كانت تبدو لنا متثاقلة بالقياس إلى الروح المتوثبة التي كانت سائدة. أذكر أنه حاضر ذات يوم في موضوع الأدب والحضارة العربية الإسلامية بالأندلس، بما أخذنا نلمس في أسلوبه من حذر يستعصي على فهم الجيل. خلال المناقشة، أخذ الزعيم الطلابي حينئذ الكلمة، الأساذ عبد الصمد بلكبير فأخذ يحلل أسباب أفول تلك الحضارة وأسبا ب سقوط الأندلس حسب فهمه، مرجعا كل ذلك إلى نوعية العلاقة بالأرض وبمن يفلحها ... فأطنب كثير. لما أخذ المحاضر الكلمة للتعقيب، قال في تثاقله المعهود: "شكرا ... يسّرنا كثيرا أن ينفتح طلّابنا على مناهـــــــــج الماديّـــــة التـــــاريخيّــــة في تحليلاتهم ... فذلك شيئ جميل ونحن نعرف تلك المناهج... ولكنّ الموضوع ...". 
طأطأ الطالب رأسه قليلا في ابتسام وقد احمرّ وامتقع وجهه كما لو أنه قد فهم أن المحاضر المحسوب حينئذ على صف "الفكر المحافظ" في التصنيفات الطلابية، يفهم جيّدا "الرسالة" وأنه على بينة من خلفيّاتها الفكرية التي كانت في بداية تشكّلها في أوساط الشباب الطلابي. أما أنا فلم أفهم شيئا من كل ذلك، في حينه، إذ كنت قد سمعت بـ"مناهج المادية التاريخية" لأول مرة، ولزمتني سنتان لكي أفهم ما جرى، بعد أن أخذت "انفتح" بدوري على الأدبيات الماركسية اللينيينة ثم انخرط في فصيل من فصائل الحركة الطلابية.
يحكى أن الأستاذ بنشريفة لم يكن متحمّسا لمنصب عمادة الكلية لكونه منصبا من شأنه أن يبعده عن ما هيّء له: القراءة والتنقيب والتحقيق، ولذلك استعفى من المهمة بمجرد إرساء أسس جامعة وجدة، وعاد إلى الرباط حيث تولى إدارة الخزانة العامة والمشاركة في أعمال أكاديمية المملكة باعتباره عضوا فيها ...
.
جدّدت اللقاءات مع الأستاذ بنشريفة بمكتبه لمّا كان محافظا بالخزانة العامة بالرغم من أنّ لي منذ الصبى وإلى حد الآن حساسية غريبة مع فضاء الخزانات العمومية (بما فيها خزانة الثانوية ثم خزانة الكلية)؛ وإذ أصبحت حينئذ أدرّس اللغة العبّرية بالجامعة، فقد كان أثناء زيارتي له يثير معي الحديث عن الشعراء والأدباء واللغويين اليهود بالأندلس والمغرب (ابن عيزرا، ابن غابريول، ابن ناغًريلا؛ ابن جناح، ابن بارون، أبراهام الفاسي، ...).
وتوثقت علاقتي بأستاذي سيدي محمد بنشريفة، بعد أن أقمت بالرباط (ابتداء من سنة 2003) كباحث بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ثم بالمعهد الجامعي للبحث العلمي؛ فكنّا نلتقي من حين لآخر في بعض أنشطة أكاديمية المملكة المغربية التي هو عضو فيها. وأذكر، هنا أيضا نكتة من نكت الأستاذ بنشريفة خلال أحد أنشطة الأكاديمة حول موضوع له علاقة بالأمازيغية لم أعد أذكره بالضبط. كنّا حول الطاولة المستطيلة وكنت جالسا قبالته. تحدّث أحد المسؤولين، وكان بجانبي، مؤاخذا بنوع من التعميم على "أصحاب العربية" عدم اهتمامهم بالثقافة الأمازيغية، فردّ عليه الأستاذ بنشريفة بهدوئه وتثاقله المعهود المشفوع بابتسامته الأسطورية وعدم تركيز النظر على من يخاطبه، قائلا:

"لا يا أستاذ؛ في هذا الكلام بعض من التعميم؛ فما القول في العلامة المختار السوسي، وفي زميلنا محمد شفيق (لم يكن حاضرا)؟ ثم، هاهو سّي محمد المدلاوي، فهو أيضا معرّب؛ فإنما أعرناه لكم (في ابتسامة مليحة) ...". ضحك الجميع، وبقيت أنا أفكر في عبارة "إنما أعرناه لكم".
.
بعد ذلك أخذت أزوره في منزله خلال الفترة التي كان فيها يُعد الطبعة الثانية لتحقيقه لـ"ملعبة الكفيف الزرهوني" (ملحمة زجلية تعود إلى العصر المريني، غنية بالمعلومات الأنثروبولوجية والتاريخية واللغوية: تتخللها في القوافي كثير من المفردات الأمازيغية قام المحقق بشرحاها)، وذلك بعد أن أصبحت منهمكا على مسألة عروض الزجل والملحون، فكنّا نعود إلى تحليلات كًارسيا كًوميز في الباب (في كتبه بالاسبانية التي كان الأستاذ يحضرها) ونقارنها بتقطيعات قمت بها لعينات من تلك الملحمة (ضمن المرفقات المصورة هنا، صورة للصفحة الأولى من أصل 6، من أحد تلك التبادلات).
.
هذه لقطات عابرة من علاقتي بأستاذي، أتقاسمها كعربون وفاء لذكره وذكراه. ستذكره الأجيال بعد أخذ المسافة الجيلية والزمنية اللازمة لحصول ذلك، باعتباره من العلماء المحققين المتروّين المتوارين في الظل خلف الأضواء العابرة، من الذين بعثوا جوانب مهمة من الآداب والثقافة المغربية التي كان قد طواها النسيان.
رحم الله أستاذ الأجيال سيدي محمد بنشريفة

----------------------

محمد المدلاوي: 22 نوفمبر 2018



14/02/2019
2 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 345 autres membres