(EN ARABE)-1 Du protocole (à popos du débat sur la Constituion au Maroc)-1
Si la graphie arabe ne s'affiche pas correctement, aller dans la barre de menu en haut de la page, cliquer sur le bouton AFFICHAGE puis sur CODAGE, puis sur (PLUS, puis sur ARABE(Windows)
عن البروتوكول والرمزيات بصفة عامة
محمد المدلاوي المنبهي
تقديـــــم
نظرا للتكامل بين الشكل والجوهر بصفة عامة، وفي ميدان السيميولوجيا بصفة خاصة، تبقى الرمزيات بابا من أبواب إرساء وتمييز وتثبيت الوظائف داخل المؤسسات: مؤسسة الدولة ككل، مؤسسة الجيش، مؤسسة الشرطة، مؤسسة الكنيسة وما يعادلها أو يقابلها، مؤسسة العدالة، مؤسسة الحزب، المؤسسة المقاولة، المؤسسة المدرسية والجامعية، مؤسسة البيت، الخ. ففي كل فضاء من هذه الفضاءات تكون هناك شارات بلاستيكية تشكيلية وأخرى صوتية لغوية، وأخرى تتعلق بتوزيع المكان والزمان (فوق/تحت، أمام/خلف، يمين/شمال، أول/أخير)، وأخرى هيئية حركية (هندام، جلوس/وقوف، جلوس منضبط أو في امتيال ولفّ ساق على ساق، مشي منضبط أو في اختيال، استقامة/ارتخاء/انحناء ...)، الخ. فلا يمكن مثلا لشرطي مرور، أو لإمام في مسجد، أو لقاض في محكمة، أو مربّ في مدرسة، أن يؤدي وظيفته على ما يرام دون التزام منه والتزام من محيطه بالشارات الرمزية المحددة قانونيا أو عرفيا. فسلطة ووظيفة شرطي عادي مثلا رهينة بزيه الرسمي وبحركاته المضبوطة: لا يقهقه، ولا يغضب ولا يرفث، ولا يتناول ساندويتش، ولا يقحم رأسه بقبعته ليقبل أحد معارفه في سيارته، ولا يستعمل للتواصل وهو في هيئته المنضبطة إلا صفارته وإشاراته وبعض الجمل المسكوكة: "لوراق من فضلك" مثلا، الخ.
البروتوكول ما بين المغرب والولايات المتحدة واليابان
يتعلق ما سبقت الإشارة إليه بمستوى الفضاء العام؛ أما في ما يتعلق برأس هرم الدولة ككل، فهناك على الخصوص العلم الوطني، والنشيد الوطني، والشاراتية الوطنية(héraldique) والبروتوكول أو التشريفات. هذه المؤسسات الرمزية الفرعية، تختلف الدول وتتفاوت في تشكيل صورها وفي مدى ضبطها بالتوثيق أو بمجرد العرف الصارم، وذلكحسب العمق التاريخي والمميزات الثقافية. وقد سبق لي أن تناولت مسألة الرصيد الشاراتيالمغربي الحالي (العلم، الأختام، الأوسمة، رمز المملكة) في دراسة صدرت سنة 2006 بأحد منشورات أكاديمية المملكة المغربية، متسائلا من خلالها عن بعض أسـس تلك الشارات في وسط لم تكن له تقاليد تشكيلية بلاستيكية، خصوصا وأنه قد كان هناك سنة 2000 مشروع ظهير أعدته اللجنة الاستشارية لمراقبة رموز وشعارات المملكة، ويقضي "بإحداث سلطة عليا لمراقبة الرموز والشعارات ووضع مدونة لرموز المملكة وشعاراتها".
أما البروتوكول فلست أدري ما إذا كانت هناك نصوص موثقة له في قسم التشريفات تقنن أعرافه. غير أن ما أعرفه هو أن قسم البروتوكول في البيت الأبيض مثلا، بدولة لم تتأسس إلا سنة 1776، يتوفر على مدونة مضبوطة في هذا الباب. تلك المدونة هي التي اعتمدتها الأوساط الأمريكية اليمينية في حملة مؤاخذتها الرئيس باراك أوباما حينما انحنى يوم 14 نوفمبر 2009 بقماته ذات الستة أقدام، وبزاوية انحناء تشرف على 90 درجة، أمام أمبراطور اليابان، القصير قامةً، والعظيم مكانة. ذلك أن تلك المدونة تنص على أن "الرئيس لا ينحني أمام أي أحد". لكن الرئيس أوباما، وبالرغم من كل رمزيات شخصه كإنسان، وباعتبار انحداره الإثني والثقافي، في علاقة كل ذلك بالنقاش الذي انطلق في أوساط السود بالولايات المتحدة حول مدى تمثيل أوباما فعلا لروح حركة "المطالبة بالحقوق المدنية" التي أسسها سلفه مارتن لوثر كينغ، وبالرغم مما كان يعرفه أوباما من تربصات اليمين الأمريكي المؤمن بالتفوق الأمريكي على العالمِين، لم يتردد الرئيس مع ذلك، ولمّا يمض أكثر من سنة على انتخابه التاريخي (نوفمبر 2008)، في أداء آيات التوقير والاحترام اللازمة لمستضيفه، إمبراطور اليابان، الذي يسود ولا يحكم، وذلك بالطريقة التي يحددها بروتوكول البلد المستضيف.
فلربما أوّل الرئيس الأميريكي ما ينص عليه بروتوكول البيت الأبيض على أنه خاص بتعامل رئيس الولايات المتحدة مع مواطنيه الأمريكان. ذلك أن أوباما يعرف، كما يعرف مستضيفوه اليابانيون، بأن إمبراطورا يسود معنويا ولا يزاول السلطة يوميا في تفاصيلها،في حاجة، أكثر من غيره، إلى ترسانة من الرمزيات البروتوكولية ليرسخ هيبته المعنوية التي تمكنه من القيام بوظائفه السامية في باب الشرعية والضمانات والتحكيم في الظروف التي تتوقف عليه فيها الأمة. فلنتذكر في هذا الباب مثلا الدور الذي كان قد قام به الملك خوان كارلوس، عاهل إسبانيا، وهو عاهل آخر يسود ولا يحكم، لما قام نوسطالجيو نظام فرانكو من الجيش والحرس المدني بقيادة الكولونيل أنطونيو طيخيرو بتدبير انقلاب على الديموقراطية الإسبانية الفتية واقتحام مبنى البرلمان واحتجاز نوابه سنة 1981 باسم إنقاذ المؤسسات والدفاع عنها؛ لقد بادر الملك، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، فالتحق على التو بمقر القيادة العليا متسلحا بما ينيطه الدستور بعاتقه من صلاحيات وضمانات، فأمر الجيش بالانضباط له وللديموقراطية، ثم توجه إلى مقر التليفيزيون ليؤكد فيه أمام الشعب تعلقه بالديموقراطية، ورفضه لما قامت به طغمة طيخيرو التي ادعت الدفاع عن المؤسسات، فأحبط بذلك الانقلاب الفاشي الجديد، ثم عاد إلى "قصر الشرق" (El Palacio de Oriente) إلى جانب زوجته صوفيا وبقية الأميرات والأمراء للسهر على شؤون السياسة العليا من خلال تفعيل طقوس البروتوكول الملكي داخليا وخارجيا، بما يضمن الاستمرارية لوظيفته لما فيه صالح أمته، وبما ينأى بالمؤسسة الملكية، التي هي إرث ثمين لأمّةٍ بذلت من أجله كدها التاريخي، عن عوامل التعرية والتآكل التي تترتب بالضرورة عن الانخراط اليومي في حلبة التدافع السياسي الذي كان الملك قد فوض أمر تدبير أمره لآليات الديموقراطية التي ارتضاها لشعبه بعد أن اختارها شعبه لنفسه. وأتذكر هنا أن أحد الثوريين المغاربة، الاتحادي المنفي حينئذ، المرحوم محمد بنيحي، قد التقط حينئذ دلالة الحدث الإسباني، فحرر من منفاه في باريس إلى يومية "الاتحاد الاشتراكي" رسالة حول الحدث تبنتها الجريدة ونشرتها في صفحتها الأولى بتوريةِ عنوانها الملتبس المرجعية الذي يقول: "عاش الملك" في ذلك الوقت المغربي، وفي سياق "إياك أعني واسمعي يا جارة". وقد وصلت الرسالة إلى من يهمه الأمر، وتبعها المرسل بعد مدة قصيرة، ثم سارت الأمور في مسارٍ قطع منذئذ مع طريق "مولاي بوعزة" وما سبقه من المنعرجات، ودخل المناضل الثوري قبة البرلمان كساحة جديدة لشكل جديد من أشكال العمل أكد مع الزمن مقولة "مكر التاريخ" الذي هو مستقل عن نيتي "الجَمَل وصاحب الجِمَال": فمهما كانت نيات الأطراف في تفعيل مؤسسة شكلية واجهاتية في أصلها كالبرلمان المغربي، من حيث طرق بنائها وكيفيات اشتغالها، وبناء على مفعول الجدلية ما بين الشكل والجوهر كما ذكر، أسفر ذلك التفعيل عن انبثاق ثقافة إدراك الجميع لمزايا التعددية والتداول.
صحيح أن البروتوكول الياباني ثقيل جدا وجد معقد ينتمي إلى فترة التنافس مع بروتوكولات البلاطات الأوروبية لما قبل الحداثة، ويهدر كثيرا من الوقت والمال حاليا، في زمن الالتزامات والمواعد والأسفار الجوية والأعمال المعولمة، مما أصبحت فرص اقتناصه أو الإخفاق في ذلك تقاس بالدقائق والثواني؛ ولكن أجرأة ذلك البروتوكول لا تتعرض هناك للمبالغة الابتذالية، لا من حيث تفعيله في مناسبة وفي غير مناسبة، ولا من حيث تركه مجالا للارتجال ولاجتهادات من طرف كل يزايد على أشكاله المحددة صُوَرها من المتزلّـفين المنافقين، ولا من حيث أي تغطية إعلامية مجانية ومملة ومنفّـرة ومُذهِبة لهِـبَـة ومقاصد تلك الرمزيات؛ وذلك بالضبط تقيّدا بالنصوص المحددة لذلك البروتوكول في تلك البلاد، وحفاظا في نهاية المطاف على مفعوله الرمزي في تحقيق تلك المقاصد.
نكتة ذات دلالة من إحدى ممالك بلاد الفيكينغ
وإذا كان جوهر وظيفة البروتوكول واحدا، فإن أشكاله متنوعة بتنوع الأرصدة الرمزية لثقافات الشعوب والأمم وباختلاف درجات رقيها في هيكلة معمارية توزيع السلط. فقد حصل لي في أكتوبر 2009، على هامش محاضرة دعيت لإلقائها بجامعة أوسلو حول المقارنة بين اللغات الحامية السامية، أن قمت بجولة حرة ذات صباح يوم أحد بدون استعمال خريطة، انتهت بي إلى حديقة علمت فيما بعد أنها تسمى "بالاس كاردن". كان الجو مشمسا بعد عاصفة الثلج ليوم السبت. تجولت عبر ممرات الحديقة الفسيحة، الجميلة بمروجها وأحواضها، والمزينة ممراتها بورود الخريف، وطفت بأحواضها البديعة ورقصات الإوز الأبيض تنشّط ضفافها، إلى أن أشرفت، في قلب فضاء الحديقة، على واجهة بناية جليلة شُبـّه لي، بحكم الموقع، أنها متحف؛ فتوجهت نحوها توا. كان إلى يمين وشمال البوابة الوسطى لتلك البناية ما يشبه دميتين متماثلتين في حجم آدمي وبزي عسكري تقليدي وبندقية ذات حربة. اقتربت في فضول من الدميتين العملاقتين لأتحقق من طبيعتهما، وأنا ألتقط الصورة بعد أخرى، فانتهي بي التحقق البصري إلى التشكك في طبيعتهما البلاستيكية الجامدة المفترضة لدي. وهو الشك الذي زال فجأة لصالح اليقين، ليس لكون "الدمية" قد تنفست أو رمشت أو التفتت حينما اقتربت منها في فضول؛ ولكن لأنني سمعت صوتا عسكريا قادما من زاوية أخرى بالحديقة، فالتفتت فإذا بي أرى فريقا من نفس "الدُمى"، لكنها كائنات متحركة هذه المرة. إنه فريق يقوم بطقوس حركات ميكانيكية تضبطها إشارات صوتية روبوتيكية. تابعت لوحة المشهد المسرحي إلى أن قام الفريق بالتحرك نحو "الدميتين" المتجمدتين في بوابة القصر فانفصل منه جنديان بشكل طقوسي ليخلفا من اعتبرتهما دميتين بعد تجمدهما الطقوسي الذي دام ربما ثلاثين دقيقة. فهمت بعد ذلك، بعد رجوعي إلى خريطة المدينة في غرفتي بالفندق، بأنني قمت بزيارة القصر الملكي لمملكة النرويج وتجولت في فضاءاته، وخلعت نعلي لأمشي حافي القدمين على الأديم فيه، كما هو من غرائب عادتي كلما حللت بأرض جديدة، واقتربت إلى مسافة بضعة أمتار من بوابته ملحا في أخذ الصور للحرس الملكي الخاص وهو يؤدي طقوسه البروتوكولية شبه الوثنية الضاربة في أعماق ثقافة الفيكينغ وتتمثل في تناوب فرفة كاملة من الحرس على رياضة "التجمّد" 24 ساعة على 24 ساعة، وذلك دون أن أعلم. سألت في الغداة زميلي Edzard Lutz في مكتبه عن ذلك فأكد لي حقيقة الأمر، ثم سلم لي المطبوع الذي يتعين علي أن أعبئه بعد عودتي لتسدد لي الجامعة المصاريف الجانبية (القطار من باريس إلى مطار شارل دوكول ذهابا وإيابا، القطار ثم سيارة الأجرة من مطار أوسلو إلى الفندق قدوما ورجوعا).
دلالة شارات البروتوكول متفرعة عن جوهر الإطار الدستوري للحكم لا عن أشكال صورها
الصحيح أيضا هو أن نفس الجزئية المعينة من جزئيات البروتوكول تكتسب دلالات مختلفة، ومتباية، ومتناقضة، وذلك حسب نوعية الوضعية الدستورية العامة المؤطرة لذلك البروتوكول، مقننا كان أم عرفيا. فدلالة الانحناء أمام الامبراطور الفولكلوري الراحل، جان باتيست بوكاسا، الذي تقلب ما بين الشيوعية والإسلام عدة مرات بعد أن أسلم على يد الزعيم القدافي وتلقب بالحاج عمر بوكاسا قبل أن يتربع على عرشه الذهبي الأسطوري الذي شيده له فنان فرنسي وهو الذي قيل عنه أنه كانيبالي الريجيم الغذائي، أو الانحناء لتقبيل يد ملك ملوك إفريقيا، الذي تقلب بين جميع الأيديولوجيات والاتحادات الفانطيزية ممسكا كتابه الأخضر بيمينه، وهو "متكرشخ" في أريكته ينُشّ الذباب في خيمته العامرة، غيرُ دلالة انحناءة الاحترام والتوقير أمام الملكة إليزابيت عاهلة التاج البريطاني، أو الملك خوان كارلوس عاهل إسبانيا، أو أكيهيتو إمبراطور اليابان. فالأولان طاغيتان من الطغاة البدائيين يتخذ "البروتوكول" لديهما طابعا قهريا إذلاليا يرسخ تسلطهما التحكـّمي (arbitraire) ويذكـّر ببطشهما، بينما الآخرون ملوك يسودون بمقتضى عمق تاريخي مزكّىً بنص دستوري، ويمثلون بمقتضى ذلك الضمانة العليا لشرعية السلطة، دون أن يمارسوا هذه السلطة ممارسة يومية. فالبروتوكول معهم طقوس معنوية ضرورية لتأكيد واستمرارية دورهم ذاك؛ وإذا ما جُرد أحدهم من تلك الطقوس فإن المؤسسة التي يمثلها تختفي كلية. والبوسة الفرنسية بين زميلين "عصريين" عاديين ليست هي البوسة الرفاقية بين أحد "أبناء الشعب" في مناسبة من المناسبات و"الأخ الرئيس" صدام حسين في حياته على سبيل المثال. فعلى غرار قـُبلة الغدر التي طبعها يهودا على وجنة المسيح في جبل الزيتون إيذانا بصلبه، لا تحوّل بوسة "الأخ الرئيس" العلاقةَ بينه وبين "ابن الشعب" إلى علاقة محبة بين زميلين ولو أعلن الرئيس بخبطة مزاج ثورية عن حل الحكومة وتسليم السلطة للشعب "ليحكم نفسه بنفسه" كما فعل نظيره في جماهيرته العربية العظمى.
تلك المعادلة ما بين درجة حيازة السلطة معنويا في أسمى دوائرها، أو ممارستها تدافعا على مستوى جزئيات الشأن العام، وبين أشكال وصور خطة التشريفات، هي ما يتعين استحضاره في أي مقاربة فكرية لسيميولوجيا قيم تلك الخطة، وذلك بعيدا عما أسماه البعض في هذا الباب بـ"بلطجية الإعلام" (الأسبوع الصحفي؛ 24 مارس 2011)، في إشارة من ذلك البعض إلى ما يعتبره لغطا وغوغائية من طرف من يرى بأن تقاليد "التبنديق" والحرمان من حق "تسراح السلسول" تقاليد مُهدرة، في جوهرها وفي حد ذات أشكالها، للكرامة وللمواطنة، وتشكل عائقا مانعا أساسيا أمام الحداثة والديموقراطية. أما من لا يجد ما يعقلن به ما حصل مثلا سنة2002 من خروج جماعي للأعضاء المعينين بالمجلس الإداري لمعهد الإركام عن البروتوكول سنة 2002، باسم قيم الحداثة والمعاصرة، سوي استحضاره لما يدّعي بأنه صميم الأصالة المغربية في معينها الأمازيغي على الأخص، مدعيا على سبيل المثال بأن تقبيل اليد "أغرب ما يكون عن تقاليد الأمازيغ" ("الأيام"؛ 25-31 مارس 2011؛ ص:20)، فإن ذلك "الاستحضار" محضُ إفـك وبهتان وكذب على الأجيال، الأحياء منهم والأموات، واستغفال واستغباء للأحياء منهم. فتقبيل الوجنتين (البوسان) المنافي للذوق وللصحة معا، أو ما يسميه الأنجلوساكسونيون استخفافا بـ (French kiss)، والذي ابتُـلي به هذا الجيل من المغاربة ابتداء من الخمسينات، تقليدا منهم للمصريين، هو ما يمثل بالضبط "بدعة" حقة في ثقافة المغارية في هذا الباب. أما الانحناء لتقبيل يد الواقف ممن يُعترف له بالاحترام والتقدير والتوقير لسنـّه أو لمكانته، أو تقبيل رأسه أو يده إن كان جالسا، أو تقبيل الكتف في حالة المساواة في الصف، فتلك هي تقاليد المغاربة العريقة داخل البيوت وفي فضاءات المحافل؛ وكذلك ربانا آباؤنا وجداتنا، أصابوا في أشكال تلك الطقوس الرمزية أم أخطأوا. وذلك ما هو سائد إلى اليوم، صوابا أو خطأ، حتى في أوساط هيئات سياسية كثيرة، منها هيئة يندد زعيمها اليوم بمن يخضعون في تقديره "لملك وطـّأ بالقوة أكنافَ عرشه، وألقي إليهم أمره بالركوع له حسب تقاليد البيعة المخزنية المقيتة؛ طقوس بهلوانية لا تمتّ بأية صلة إلى الميثاق الإسلامي الجليل" ("الأيام" الأسبوعية"؛ ع:01 أبريل 2011؛ ص:18). فالشيخ عبد السلام ياسين مثلا، قد أحاط شخصه، في مقامه وتنقلاته بهالة من الطقوس البروتوكولية (موكب رسمي من السيارات، استعراض تحايا أهل الحل والعقد، تقبيل اليد، الخ) لا يمكن للملاحظ العادي إلا أن يرى فيها استنساخا (copier-coller) لطقوس التشريفات الملكية (انظر الصورة في "الأيام الأسبوعية"؛ نفس العدد؛ ص:21)؛ وذلك في نفس الوقت الذي تدافع فيه ابنته، السيدة نادية ياسين، عن ميولاتها الجمهورية. ولا غرابة في ذلك في الحقيقة؛ فإذ العبرة بجواهر الماهيات لا بألفاظ التسميات، وإذ معاني العناصر والأجزاء إنما تتفرع عن مضمون الكل، فالنموذج الإيراني لـ"الجمهوربة" يبين مثلا بأن بالإمكان أن نرى رئيس الجمهورية نفسه، السيد أحمدي نجاد، ينحني ليقبل يد من هو أعلى منه سلطة، خليفة روح الله آية الله الخميني، ألا وهو مرشد الثورة وقائدها الأعلى، الفقيه علي خاميناي.
الرصيد الرمزي المغربي في باب آيات التوقير
أما قول بعض الحداثيين ("الأيام"، نفس العدد؛ ص:20) بأن ما يحز في نفسه شخصيا هو أن يسمع، بعد ثلاث سنوات من واقعة الخروج الجماعي للأعضاء المعينين بالمجلس الإداري لمعهد الإركام عن البروتوكول سنة 2002، "بأن ملك السعودية، بلد التشدد الوهابي والتقاليد العشائرية البدوية قد أمر بإلغاء عادة تقبيل اليد في البلاط السعودي، معتبرا ذلك غريبا عن تقاليد العرب"، وبأن ذلك المتأسف كان قد تمنى حينئذ، "كما عبرت عن ذلك الصحافة، لو صدر هذا القرار عن ملك المغرب، الذي رفع منذ البداية شعار بناء 'مجتمع حداثي ديموقراطي'"، فهو قول مدهش حقا باعتبار مصدره الحداثي. فإذ تفاصيلُ وجزئياتُ أشكال الحكم إنما تستمد معانيها بوضعها في إطار نظام الحكم ككل، كما رأينا في دلالة الركوع أمام امبراطور اليابان، فهذه هي المرة الأولى التي يـرجع فيها الفكر المغربي صراحة إلى النموذج السعودي في الحكم ليقترح وصفات مختارة منه على نظام الحكم في المغرب على طريق بناء مجتمع حداثي ديموقراطي.
ذاك إذن ما كان عليه، وما هو عليه الأمر عند المغاربة إلى اليوم في باب شارات التحية مهما اختلفت اللافتات، من إسلامية أو أمازيغية أو ليبرالية، أصوابا كان ذلك الواقع أم خطأ. لكن لا تحق المغالطة على الجيل هنا بافتعال أساطير "حداثية" أو بالافتراء على التاريخ، وإحلال هذه أو تلك محل وقائع الواقع وحقائق التاريخ، باعتماد منطق "أنا أتحدث، وأنت صامت؛ إذن فأنا أقول الحقيقة". فهذا الشاعر الأمازيغي، المرحوم عبد الله حفيظي الذي الذي رحل وفي نفسه غصةُ رفض نشر ديوانه، يقول في ممدوحه، وهو يغرف من معين صور سيميولوجيا التوقير كما هي عليه في ثقافته المغربية الأمازيغية بما لها وما عليها:
1 تاوشكينت ن-يجّيكَـن، كنوخ يخار اكال
2 آ-ون-تن هدوخ ا-سيدي ولا ما-كّ يوالان
ومـــعنـــاه:
1' "هذه باقة ورد، وأنا أنحني حتى الأرض،
2' أقدمها بين يديك، سيدي، ولمن حواليك"
(المصدر: M. Elmedlaoui 1999,
فإذا ما تم الاتفاق على واقعية الوقائع، بما في ذلك ما أسسه من كانوا قد خرجوا جماعيا، باسم الحداثة، عن تقاليد "التبنديق"، من بروتوكول سلطوي ثقيل داخل مؤسسة أكاديمية عادية، أصبح المسؤولون فيها يتلقبون بـ"موسيو كذا"، ويضبطون هرمية فضاءاتها بالحرس والمضيفات وقوفا في الأركان والجنبات، ويثقلون تحركاتهم فيها بالطقوس، ويوشوّرن الصفوف الأمامية لفضاءَ مجرد محاضرة أو ملتقى بلافتات "ريزيرفي" أمام الجمهور، في انتظار الموكب الذي يحرص على تقاليد تأخير ظهوره، ويحرصون على تجنيد الإعلام وضبط زوايا الصورة وأهدافها، ويشهرون في اعتداد في كل مناسبة ظهائر تعيينهم كلما تعلق الأمر باحترام القوانين الداخلية والعامة، وهو بروتوكول يذكّـر في النهاية بتقاليد ديموقراطية "تيكَـمي ن-ومغار" أو "دار الكَلاوي" (أو الكندافي أو الضرضوري) في وجهها "الحداثي"، ومن دون أن يشكل ذلك حرجا لفلسفة الفكر الحداثي، إذا ما تم الاتفاق على واقعية كل تلك الوقائع دون مغالطة ولا مزايدة، فمن شاء فليؤمن بسلامة أشكال التقاليد عامةً، أو بعينية تلك التقاليد، ومن شاء فليكفر بهذا أو بذاك.
خــــــلاصــة
وخلاصة مغزى كل هذا الكلام، بالواضح، لا بالمرموز، هي أن على المغاربة أن يضفوا اليوم حدا أدنى من التماسك على تصوراتهم بما في ذلك التماسك السيميولوجي بين جواهر الماهيات وصورها وأشكالها. فإذا ما حصلت قناعة بوظيفة المؤسسة الملكية، في استحضار للحاضر بالذات بكل ما يحبل به وما يخترقه داخليا وخارجيا، واستحضار لآفاق المستقبل على ضوء وهدي الرسم البياني للتجربة المشتركة لتلك المؤسسة مع بقية مكونات الأمة في العقدين الأخيرين، وليس باستحضارانتقائي لهذا العهد أو ذاك، وهو ما يبدوا من خلال مجمل الخطاب السياسي أنه قناعة حصل عليه اتفاق واسع، فإن وظيفة تلك المؤسسة تقتضي أن تكون هناك أوجه شاراتية معلومة لرمزية الاعتراف بها تمييزا لممثلها ولوظيفته وتذكيرا مستمرا بالعقد الذي في عنق الجميع. وإذ أشكال الرموز، لكي تفيد فعلا دلالاتها، لا تستورد لا من السعودية ولا من اليابان، وإنما تنقل أشكالها في نفس المنظومة الاجتماعية من باب إلى باب، فإن للمغرب قاموسه في باب شارات التوقير والاحترام، وهو قاموس قابل للتنقيح والضبط، لكن انطلاقا من قواعد اللغة الرمزية الخاصة بالمغاربة. أما إذا ما وجد البعض بأن لا حاجة اليوم إلى تلك الوظيفة، فإن كل كلام عن تفاصيل البروتوكول ما هو إلا عبارة عن كلام مباح فارغ وهروب من الكلام الواضح المسؤول، أي ما يسميه الفرنصيص بكلمة diversion. أما مضامين تلك الوظيفة والآليات الدستورية لاضطلاع صاحبها بها، فمسألة قابلة للتحديد والتدقيق في كل مرحلة من مراحل تطور الثقافة السياسية الجمعية من حيث درجة استبطان الوعي الجمعي والفردي للمبادئ الديموقراطية من جهة، ومن حيث مدى انعكاس ذلك الاستبطان على تجربة العمل السياسي ليس فقط في دواليب الدولة من جهة ثانية، ولكن كذلك فيكافة مؤسسات العمل السياسي والمدني. وتجربة فك الاحتقان والبلوكاج في ورشين أساسيين من أوراش تطور المجتمع المغربي الحالي، ألا وهما ورش المسألة الثقافية وورش مدونة الأسرة، ودور كل من المؤسسة الملكية وغيرها في تلك التجربة أمرٌ يتعين استخلاص دلالاته بالنسبة للمرحلة في كل حديث عن أوجه تطوير بعض فصول الدستور ومواده مما يتعلق بالألقاب والصلاحيات. ففصول مختلف أوجه صلاحيات التحكيم المخولة لسلطة عليا، فصول موجودة، في هندسة دستورية متوازنة، في كل الأنظمة الديموقراطية، رئاسية كانت أم برلمانية.
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 347 autres membres