OrBinah

(EN ARABE) 1 L'institut IRCAM (Maroc) après huit ans

المسألة الأمازيغية بعد ثمان سنوات من عمر معهد الإركام

وفي أفق تجديد مجلسه الإداري

حوار مع الأستاذ محمد المدلاوي

المعهد الجامعي للبحث العلمي.

حاوره: عبد العزيز جهابلي عن جريدة "العلم"

7 يونيو 2010

 

نشر نصر هذا الحوار، بتاريخه بيومية "العلم" المغربية (أشهر بصفحتها الإليكترونية  بتاريخ 25 ماي 2010؛ انقر هــنــا)

 

 

النقاش بخصوص الأمازيغية يثير بعض التشنجات، خاصة فيما يتعلق ببعض الجمعيات في علاقتها بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. بصفتكم أحد المتخصصين والمهتمين بالموضوع، ما حدود مسئولية كل طرف؟

 

م.م.       النقاش في المسائل الاجتماعية عادي؛ وإذا كان يتخذ دائما طابع التشنجات في مجتمع معين، فإن ذلك يرجع لا إلى طبيعة المسائل خاصةً في حد ذاتها، ولكن إلى طبيعة ثقافة ذلك المجتمع ودرجة نضجه المدني. أما فيما يتعلق على الخصوص، في هذا الباب، بمسألة علاقة الجمعيات الأمازيغية بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، فتلك مسألة تتعدى الطرفين. ليس هناك في الظهير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ما ينص على أن من وظائف هذه المؤسسة تأطير أي وجه من أوجه المجتمع المدني الذي تعتبر اليوم الجمعيات أهم  تجليات تعبيره. غير أن واقعين سياسيين قد تضافرا لكي يجد هذان الطرفان نفسيهما، في نهاية الأمر وبحكم الواقع، كما لو أن علاقة وظيفية معينة تربط فيما بينهما.

 

يمكن تلخيص العامل الأول في العجز التقليدي للهيئات السياسية في مجملها – والتي من وظائفها الدستورية تأطير المجتمع والتقاط رموز قضاياه – عن  بلورة برامج ملائمة للتدافعات الاجتماعية المستجدة التي أضحى من بينها، منذ زمن، التدافع حول مسائل الثقافة والهوية، كما تبرز تلك القضايا بشكل خام في صفوف المجتمع وعبر مختلف خطاباته. ولقد طبع هذا العجز تعامل الهيئات السياسية منذ فجر الاستقلال لما كانت معظم أطر تلك الجمعيات منضوية في صفوف تلك الهيئات دون أن تجد لأصوتها أصداء جدية في برامجها، فبقيت زمنا طويلا عبارة عن ما يشبه عناصر خدمة سياسية. ولقد استمر ذلك الواقع، بل احتد بعد صدور الظهير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في الظروف السياسية التي يتذكرها البعض. فالكل يتذكر المسافة التجاهلية التي وضعتها تلك الهيئات عمليا بينها وبين ذلك الحدث المفاجئ الذي تعاملت معه كـ"لاحدث"، كما لو أن الأمر لا يعنيها، اللهم إلا ما كان من كواليس العمل غير المباشر على الظفر بتمثيلية في أجهزة المؤسسة الجديدة بعد أن أصبح الأمر واقعا لم تستطع تلك الهيئات أن تساهم في رسم معالمه . ولقد نشرتُ شخصيا حينئذ (2001) بهذا الصدد مقالا صحفيا مطولا بعنوان "لعبة الحدث واللاحدث في غمرة ما حدث". (1)  ولم تعد تلك الهيئات إلى الميدان إلا بعد ثلاث سنوات، أي في سنة 2003، من خلال نافذة أيديولوجية أكثر منها تدبيرية، لما نشب ما سمي حينئذ بمعركة الحرف. ولقد نشرت من جديد في هذا الباب مقالا صحفيا مطولا آخر، وأنا حينئذ بمركز التهيئة اللغوية بمعهد الإركام، وعنوانه "فصيلة الأسئلة المغيـبة في النقاش حول حرف كتابة الأمازيغية".(2)

 

            أما العامل الثاني، وله تعلق بالأول، فيتمثل في الرؤية التي تحكمت في تزويد هياكل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالموارد البشرية. فأمام عجز الهيئات السياسية عن تأطير الأوجه السياسية لمسائل اللغة والهوية في المجتمع في ظرفيته الداخلية والإقليمية – فلنتذكر ما حصل في الجوار حينئذ –  تم تدارك ذلك العجز بسلوك محاولة استقطاب النشطاء في الميدان، مع مراعاة نوع من كيمياء التمثيلة المتعددة الأبعاد (الانتماء، التأثير في الساحة، الجهوية، الخ) في تشكيل الهيئات المسيرة للمعهد وعلى رأسها مجلسه الإداري، ومديرو مراكز البحث. وهذا ما أشار إليه عميد المعهد مؤخرا حينما قال "اللبس الحاصل جاء بسبب أن أغلب القيادات [الجمعوية] التاريخية وجدوا أنفسهم داخل المعهد وهياكله" (المساء: 15 يوينو 2010).  وقد امتد ذلك المنطق الاستقطابي الاسترضائي ليشمل وظائف سائر الموارد البشرية للمؤسسة، من أطر البحث إلى الكاتبات والأعوان. وقد انتهى أمر هذا المنطق الاسترضائي بالمؤسسة منذ البداية إلى أن تبدو للكثير ممن كانت تحركهم هموم ثقافية في البداية إلى هيئة أصبحت هدفا في حد ذاتها بالنسبة إليهم كدائرة من دوائر التنافس على السلطة ومنافعها (ما تسميه الصحافة بالكعكة) أو على الأقل كهيئة منافسة في الاستقطاب؛ بل لقد أدت سياسة استرضاء كل من له صوت عال في الساحة إلى تناسل الجمعيات عن طريق الانشقاقات، وعن طريق مبادرات جديدة لتنصيب أطراف أخرى نفسها كمخاطبين يتعين أن يضرب لهم الحساب. وإذا كانت الاستراتيجيات التي تحكمت في تأسيس معهد الإركام متعددة المصادر والدوافع والتصورات والغايات، كما هو طبيعي في كل المبادرات السياسية، فيبدو من خلال ما أسفرت عنه نتائج سياسة تزويد هذه المؤسسة بالعنصر البشري، بأن خطة الاتجاه الذي كان يسعى إلى الحصول على مجرد غايات سياسية ظرفية (احتواء التداعيات السياسية الظرفية للقضايا اللغة والثقافة والهوية) هي التي رجحت لحد الآن على العموم على باقي الخطط؛ وذلك في تناقض مع نص وروح الظهير الملكي المؤسس. وكنت قد صغت هذا التصور في ربيع 2002، قبل التحاقي بمعهد الإركام، وبعثت بنصه الفرنسي إلى فضيلة الأستاذ محمد شفيق، وذلك  بمجرد الإعلان عن تشكيلة الهيئات المسيرة، ثم قمت سنة 2004 بإعادة تحيينه تحت عنوان "نصيبي من الحقيقة" (Ma part de vérité) وبعثت به إلى عدة شخصيات رفيعة ممن كانت لهم علاقة معينة بملف الأمازيغية ولو بشكل غير معلن رسميا؛ وهذا النص من أكثر النصوص مقروئية الآن على صفحات مدونتي أوربينا (OrBinah).

ولقد استمرت كثير من الهيئات السياسية في سلبيتها، بل وفي فرجويتها على الموقف، كمن كان لسان حاله يقول: "دعهم يتصارعون في معهدهم فيما بينهم مع الأمازيغية، وليفعلو بها وبميزانية المعهد ما شاءوا ما دام ذلك يؤجج الصراع بين الأطراف ليحيـّد بعضها بعضا تحييدا.

 

ففي هذا الإطار أُدرجُ شخصيا ما عبرتم عنه بالتشنجات بين الجمعيات وبين المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية والذي بدأ بالمزايدات حول بعض القضايا (الحرف، توحيد الكتاب المدرسي، الخ) ثم انتهى بالتمحور حول مسألة الدعم المادي (عودة إلى مسألة الكعكة). ولعلكم تنطلقون مباشرة، في وضع السؤال، من اللقاء الجمعوي الأخير الذي نظمته جمعية 'ازطـّـا' في الرباط  لتقويم ثمان سنوات من عمر المعهد. ذاك أن المعهد يعتبر منذ مدة – وبحكم مجرد العرف – أن من بين أهم وظائفه تأطير الساحة الجمعوية التي أصبحت تعج بمئات الجمعيات بعد أن لم تكن تلك الجمعيات تتعدى أربع جمعيات ثقافية مهمة (تلك التي وصفها العميد بالتاريخية). فقد صرح المسؤول الإداري الأول عن هذه المؤسسة في أول لقاء له مع الصحافة بمقر المؤسسة (31 مارس 2004) مباشرة بعد توليه مهامه  قائلا عن المعهد بأنه "مؤسسة يتقاطع فيها ما هو علمـي وما هو غـيـر علمي". ولقد تم بعد ذلك تجسيد ذلك الاعتبار العرفي من خلال إبرام عدة عشرات من اتفاقيات التعاون مع نسيج مكثف من الجمعيات ومن خلال تخصيص ميزانية مهمة لذلك، هي الآن مصدر من مصادر ما أسميتموه بالتشنجات التي تمحورت حول مسألة 'الدعم'. ولقد صرح عميد المعهد في حواره مع نفس الجريدة دفعا منه لتهمة ما يسمى بـ'الأكاديمياوية' بقوله "ونحن لدينا حوالي 600 جمعية نشتغل معها باستمرار وهذه السنة فقط تعاقدنا مع 400 جمعية ثقافية تشتغل في حقل النهوض بالثقافة الأمازيغية". وعلى كل حال، واستمرارا لنفس المنطق، فإن التأجج الجديد لما أسميتموه بالتشنجات بين الجمعيات والمعهد مرتبط بالإعدادت القائمة لتجديد أعضاء المجلس الإداري للمعهد.

 

توجه حاليا كثير من الانتقادات إلى الأطراف المعنية بإدراج الأمازيغية في التعليم على الخصوص؛ وفي المقابل، هناك من هو مرتاح لتجرية المغرب في هذا المجال؛ ما رأي السيد المدلاوي؟

 

م.م.       من ذا الذي يمكنه أن ينكر الجوانب الإيجابية لما حققته تجربة المغرب، المتفردة في هذا الباب بالمقارنة إلى المعطيات الجهوية على الخصوص، كما تفردت تجربته في أبواب أخرى من قبيل مدونة الأسرة، والإنصاف والمصالحة وحقوق الإنسان، وغيرها؟ أما الاطمئنان إلى التفاصيل، ومن ضمنها استراتيجية وتدبير ملف إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية، فشيء آخر. ذلك أن استراتيجية وتدبير هذا الملف الفرعي للقضايا اللغوية والثقافية والهوياتية متداخلان مع الوضع العام المشار إليه من خلال الإجابة على السؤال السابق.

فلقد أدّى رجحان خطة تحويلِ المعهد إلى مؤسسة للاسترضاء السياسي ولامتصاص احتقانات الظرفية كما يعبر عنها التدافع المباشر بشكل خام، وبما يطبع ذلك التدافع في غالب الأحيان من مزايدات حلقية، أقول: أدّى طل ذلك إلى جعل التسيير محكوما بغايات سياسية قصيرة الأمد، متناسيا ما تمليه استراتيجية بلوغ الغايات التي حددتها نصوص وروح الظهير المؤسس للمؤسسة والراسم لأهدافها وغاياتها ودلالاتها المتعددة ،"التي تسمو بمغزاها على موضوع القرار ذاته"، قرار إحداث المعهد، كما جاء ذلك في الخطاب الملكي بأجدير.

فإذ ينص هذا الظهير في مادته الثانية على أن "يشارك المعهد، بتعاون مع السلطات الحكومية والمؤسسات المعنية، في تنفيذ السياسات التي تعتمدها جلالتنا وتساعد على إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية وضمان إشعاعها في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني والجهوي والمحلي"، فليس من الضروري أن يكون المرء متفقها في القانون الدستوري ليدرك أن المسؤولية الإدارية لإدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية مسؤولية حكومية، مسؤولية الوزارة أو الوزارات المعنية، وأن مسؤولية المعهد، باعتباره مؤسسة أكاديمية حسب النصوص لا العرف، تنحصر في توفير إنجاز التشخيصات الميدانية ودراسات الجدوى، والخطط البيداغوجية، وبرامج تكوين المكونين، والمشاركة في تكوين الأساتذة ما بين الجامعة ومراكز التكوين، وكذا وضع اللبنات الأولى لإعداد الأدوات الديداكتيكية اللازمة للشروع، قبل أن تتكلف المؤسساتُ المعنية بمواصلة العمل حتى في باب الأدوات الديداكتيكية نفسها كما هو الشأن بالنسبة لبقية مكونات برامج المنظومة التربوية. وهذا ما أكدت عليه في سلسلة من كتاباتي المنشورة وأنا حينئذ باحث بالمعهد، وهو نفس ما اقتنع به اليوم عميد المعهد من خلال قوله في نفس الحوار: "ينبغي التأكيد، في البداية، على أن مسؤولية المعهد فيما يخص ملف تدريس الأمازيغية ليست مسؤولية تدبيرية، والتي تقع على كاهل وزارة التربية الوطنية".

ولا يحتاج الإنسان إلى كثير من التفلسف ليصل إلى بداهة كون إدخال أي لغة إلى منظومة التعليم تستلزم الدراية الصورية بالخصائص الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية بتلك اللغة، وأن من هو مجرد ناطق بها سليقة لا يختلف في باب الأهلية للتعليم والتلقين الصوريين عن الشخص العامّي؛ وأن أول ما كان يتعين القيام به من طرف المعهد هو التوجه إلى الجامعات وإلى مراكز التكوين للمساعدة على إعداد الأفواج الأولى من الأساتذة المكونين في الميدان لغويا، وإملائيا، وديداكتيكيا، ليقوموا بعد تكوينهم وتخرجهم بتأطير مدارس نموذجية تتوسع خارطتها مع توالي أفواج المكونين، وتتحسن أساليبها اعتمادا على نتائج متابعة تقويمية متحكم في أطرافها البشرية والإدارية.

لكن الذي حصل هو أن المعهد استسلم لوظيفة الاسترضاء المباشر والفوري لكل المزايدات المتعددة الدوافع فارتمي منذ سنة 2003 في خطة استعجالية لما سمي بـ"الدورات التكوينية" في المدن وفي الآفاق، معتمدا على ما لا يتعدى 14 إطارا من أطر مركزي التهيئة اللغوية والبيداغوجيا بالمعهد، الذين يضطرون إلى تعليق برامج البحث ليخترقو الآفاق من طنجة إلى الناضور، إلى  فيكيك، إلى زاكورة، إلى تيزنيت، قصد قضاء ما معدله ثلاثة أيام تكوينية هنا وهناك مع لفيف من الأساتذة غير قار في لوائحه، وغير متجانس لا في إتقانه لوجه من أوجه الأمازيغية، ولا في تجربته التربوية؛ إذ يحصل مثلا، كما خبرت ذلك شخصيا، أن يجد مؤطر الدورة أمامه أناسا مشرفين على التقاعد في السنة المقبلة، أو آخرين يتساءلون لماذا تم اختيارهم للتدريب بما أنهم لا يتحدثون أي وجه من أوجه الأمازيغية.

لقد أضاع المعهد في هذه التجربة التي يقوم بها في سافلة العملية التربوية زمنا طويلا ومالا هائلا وطاقات ثمينة من طاقات باحثيه منذ سنة 2003، وذلك على حساب العمل المؤسس في العالية، أي في الجامعة وبمراكز التكوين. ذلك أن خطة السافلة كانت في الحقيقة، بالنسبة لهذه المؤسسة، التي يتداخل فيها "ما هو علمي بما هو غير علمي"، ذات بريق إعلامي مباشر في حينها، من حيث أنها تضمن حضورا إعلاميا واحتكاكا مباشرا على الساحة مما تحرص عليه كل مؤسسة تعتبر أن التأطير العمومي من مهامها، عكس الإختيار الثاني الذي هي خطة استثمارية متوسطة وبعيدة الأمد والتي ليس لها انعكاس مباشر على ساحة استرضاء أصوات المزايدات المختلفة التي أصبح المسؤولون عن المعهد يؤمنون بأن استرضاءها وزرع التنافس بين أصحابها في اتجاهه من المهام الأساسية للمؤسسة. ولقد نشرت مرة أخرى عدة مقالات بهذا الصدد ابتداء من سنة 2005 انطلاقا من تقويمي هذا اعتماد على تجربة في الميدان باعتباري ممن ساهموا في وضع اللبنات الأولى للأدوات الديداكتيكية وفي التأطير الميداني لما يسمى بالدورات التكوينية منذ الدورة الأولى التي نظمت في الرباط في صيف  2003.(3)

 

تمت الإشارة أخيرا إلى إصدار تقرير حول وضعية اللغات في مجال التعليم بالمغرب من طرف المجلس الأعلى للتعليم، وبعض الجهات أكدت أن هناك شيئا ما تحت السطور من قبيل التلميح إلى التراجع عما تحقق بالنسبة للأمازيغية. ما رأيك؟

 

م.م        لم أطلع بعد، في هذا الباب، لا على السطور ولا على ما قد يكون تحت السطور. غير أن مثل هذه الاحتمالات قد تكون واردة، ولو على مستوى النيات إذا ما استحضرنا الراجح والمرجوح على ساحة الواقع من بين الاستراتيجيات المتعددة التي حاولت التعامل مع الظهير المؤسس للمعهد الملكي، ما بين استراتيجية الأخذ بنص الظهير وروحه، وما بين استراتيجية محاولة الالتفاف عليه واستخدامه لاستنزاف القضية عن طريق العمل على مراكمة مشاكلها التدبيرية، وإذكاء تناقضاتها المصلحية عن طريق تأجيج الفئوية والجهوية، أي ما يعرف بسياسة "تحييــد المشكل". لقد برز هذا الاتجاه من خلال دلالات المواقف خلال ما عرف بمعركة الحرف، بنتائجها السياسوية التي ارتاح إليها البعض باعتبارها في نظره خطوة أولى نحو تحييد هذه اللغة ووضع الحجاب على وجهها في فضاء التداول الكتابي الحي. كما برز ذلك الاتجاه أيضا من خلال التعامل مع تخبط المعهد في ورطة إدراج الأمازيغية في المنظومة التربوية. فقد يقدّر البعض، ممن لم يقتنع قط لا بموضوعية القضية باعتبارها من صميم القضايا الوطنية الحديثة، ولا بفحوى الظهير الملكي المتعلق بها والذي يبدو أنه كان قد فاجأ الكثيرين، بأن ما راكمه ملف الأمازيغية من صعوبات يسمح الآن بالانتقال من خطة الفرّ، إلى خطة الكرّ بعد ذلك الفرّ التاريخي الذي طبع المواقف إثر الصدور المفاجئ للظهير. وما ينبغي التنبيه إليه هنا هو أن كل سلوك سياسوي انتهازي في هذا الصدد، لا يمكن أن يكون إلا من باب الاستهتار السياسي الذي يتلاعب بحظوظ المغرب الحديث وبأسس كيانه في عمقها. فلقد اعترف العميد اليوم بأن ما كنت أصفه قبل خمس سنوات بالصعوبات (عنوان إحدى مقالاتي التي لم تكن ترضي أحدا) أصبح إفلاسا ووضعية مزرية: "ما ينبغي التأكيد عليه بهذا الصدد هو أن المعهد غير مسؤول عن الوضعية المزرية لتدريس الأمازيغية".

 

هل أنتم مقتنعون بما وصلت إليه الأمازيغية في المغرب مقارنة بدول مجاورة، وهل لديكم ملاحظات؟

 

م.م        كما قلت في السابق، ليس هناك من متجرد في حكمه يمكنه أن ينكر ما تم إحرازه من نقط إيجابية. إن الحاجز السيكولوجي على الأقل قد تم تجاوزه فيما يتعلق بتصالح الذات المغربية مع مقوماتها. "فعلى المستوى النفسي، هناك نوع من الاعتزاز لدى المواطنين بانتمائهم إلى الهوية الوطنية ذات الروافد المتعدد والأبعاد الإسلامية والأمازيغية والعربية" على حد تعبير عميد المعهد في نفس الحوار. فلقد تراجع خطاب منطق "تصدير الأزمة" الذي كان يتمثل في تصوير المسألة اللغوية بالمغرب كمجرد تركة استعمارية يتعين العمل على تصفيتها؛ وذلك باكتشاف الجميع بأن إنعاش الأمازيغية وجه من أوجه التنمية البشرية على المستويات الرمزية والسيكو-اجتماعية تعود بشكل إيجابي على أسس التماسك الاجتماعي والوطني وتحفيز المشاركة السياسية والتنموية. وتبقى بعد ذلك ضرورة إعادة استحضار ما رسمه الظهير من مهام حقيقية للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ومن تحديد لأوجه التعاون بينه وبين السلطات الحكومية المعنية بالتدبيرات القطاعية المباشرة للمفلات المتعلقة بإنعاش وترقية الأمازيغية، ضرورة يتعين العمل من أجل تغليب اختياراتها. ولعل كثرة ورود كلمة "استراتيجية" في حوار عميد المعهد حين تحدث عن مقاييس قبول الترشيحات للمجلس الإداري وكذا كثر تردد هذه الكلمة في صفوف أعضاء المجلس الإداري ولدى الأشخاص التواقين، دليل على حصول الوعي بواقع انبهام هوية المؤسسة ما بين ما ينص عليه نص وروح ظهيرها المؤسس وما بين المهام العرفية التي انتهت المؤسسة بالإيمان بها حتى أنستها هويتها. فإذ تم اطراح شعاري "الحداثة"، ثم "الحكامة" لرفع شعار "استراتيجية" فلعل ذلك بداية لاسترداد هوية المؤسسة.

 

وأنا أربط دائما، على هذا المستوى، مستوى ما تحقق، ما بين مختلف القطاعات التي خطا فيها المغرب خطى نحو وضعية التلاؤم مع مستجدات تاريخه التي هي استمرار حيّ لنفس ذلك التاريخ. وأعتقد أنه إذا كان المغرب قد استطاع أن يتميز، بالمقارنة إلى غيره، في باب تدبير ملف الأمازيغية، فإن مرد ذلك ليس فقط إلى تقاليده في باب إتباب أسس الدولة بكل ما يتطلب ذلك من توازنات تتغير عناصر معادلاتها بحكم التاريخ، ولكنه يرجع كذلك إلى كون المغرب قد توفر منذ السبعينات من القرن الماضي على نصيب هام - بالمقارنة إلى نصيب غيره - من الأطر الأكادمية  المتخصصة في ميدان اللسانيات العامة، واللسانيات العربية، واللسانيات الأمازيغية، وهي أطر كونت نفسها بنفسها في الظروف التي يعرفها البعض، ظروف كان ينظر فيها إلى اللسانيات – خصوصا في بعض شعب الجامعة –  كآلة جهنمية دخيلة، غايتها تقويض قواعد التراث النحوي والقضاء على اللغة العربية. إن توفر هذا الرصيد من الموارد البشرية ذات التكوين الأكاديمي المتخصص في شتى أوجه المسائل اللغوية، قد حال دون أن ينحصر الاستقطاب الذي تولده المسألة اللغوية في مجرد شعارات سياسية وأيديولوجية مزايدة، دون التوفر على أدنى رؤية وصفية تشخيصية قصد رسم الخطوات التدبيرية الملموسة في مختلف الأبواب، مما كان سيفتح الأبواب أمام مجرد منطق الأدلجة والتسييس الإثني لا الديموقراطي، كما حصل ذلك في الجوار. فحينما تم فتح المعهد في أواخر سنة  2002، كان المغرب يتوفر على رصيد من الأبحاث الأكاديمية الوصفية والتشخيصية وحتى التدبيرية في شتى مجالات المسألة الأمازيغية. فهل تعرفون مثلا بأن أول كتاب يؤلف كلية ً حول القواعد الإملائية للغة الأمازيغية كان قد نشر سنة 1999، أي قبل تأسيس المعهد وقبل أن يشرع بعد تأسيسه في المعالجات الأولى للمسألة الإملائية بأريع سنوات. إنه كتاب لي شخصيا باللغة الفرنسية بعنوان معناه "أسس الإملائية الأمازيغية بالحرفين العربي أو اللاتيني"، وهو من منشورات كلية الآداب بوجدة.(4)  وكان بذلك أول عمل يصوغ تعميملات إملائية جامعة مانعة فيما يتعلق بالتعامل مع التقدير واللفظ، ومع الوصل والفصل، ومع تحديد أسس حصر مفهوم الكلمة الكتابية. وبالرجوع إلى الأوفاق التي حصل عليها التراضي بين باحثي المعهد بعد ذلك ما بين سنتي 2003-2004 داخل مركز التهيئة اللغوية حيث كنت أشتغل كباحث، يمكن تقدير مدى توطئة ذلك العمل للطريق أمام الفريق الذي أسندت إليه صياغة القواعد الإملائية التي سيعتمدها المعهد ويسوقها عير منتجاته الديداكتيكية بعد ذلك. هذا مجرد مثال ملموس.

 

أما الفضاءات الجهوية التي لم تفرز ما يكفي من المادة العلمية ومن الأطر الأكاديمية المتخصصة في ميدان الأمازيغية، فإن ذلك الفراغ العلمي في باب المعرفة الأكاديمية باللغة، مضافا إلى تجربة تعامل الدولة في تلك الفضاءات مع المسألة اللغوية في أصلها، قد جعل المسألة تتخذ هناك مسارا آخر.

---------------------------

(1)    المدلاوي، محمد (2001) "لعبة الحدث واللاحدث في غمرة ما حدث". نشر في أسبوعية "المستقل الأسبوعي"، ع: 403 (03 /12/ 2001) ثم في يومية "الأحداث المغربية"  ع : 1050 (05 /12/ 2001)

(2)      المدلاوي، محمد (2003) "فصيلة الأسئلة المغيَّـبة في النقاش حول حرف كتابة الأمازيغية". نشر في حلقتين في يومية "الأحداث المغربية"؛ عددي (12 أكتوبر 2003) و(17 أكتوبر 2003)

(3)     المدلاوي، محمد (2006) "تدريس اللغة الأمازيغية ومسألة التكوين: من التجريب إلى الخطة". وقائع الندوة الوطنية الأولى "تدريس الأمازيغية: حصيلة وآفاق". منشورات الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين. جهة سوس-ماسة-درعة (خريف 2006).

(4)     Elmedlaoui, Mohamed (1999) Principes d’orthographe berbère en graphie arabe ou latine. Publications de la Faculté des Lettres, Oujda.

 


 



27/06/2010
0 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 343 autres membres