(ُEN ARABE) La justice américaine et la culture des Dix Commandements
Si la graphie arabe ne s'affiche pas correctement, aller dans la barre de menu en haut de la page, cliquer sur le bouton AFFICHAGE puis sur CODAGE, puis sur (PLUS, puis sur ARABE(Windows)
العدالة الأمريكية وثقافة الوصايا العشر
("لا تكذب": من الوصايا العشر)
نازلة 'دومينيك شتروس-كان'، كــمُنطـلق
ما يزال المتهم دومينك شتروس-كان، المدير السابق لصندوق النقد الدولي، والمرشح السابق لرئاسة الجمهورية الفرنسية، والذي هو في قبضة العدالة الأمريكية، يلزم شقـته الفاخرة بنيويورك؛ يؤدي من خزائنه ومن خزائن زوجته آلاف الدولارت يوميا ثمنا لكراء الشقة، ولساعات عمل المحامين، ولأجور حراس الشركة الخاصة الملتـزمة للعدالة بحراسته كي لا يلوذ بالفرار. لا يتحرك لحد الآن في المدينة بسبب تربص كتائب الصحفيين به؛ لكن بكعبه، على كل حال، ومن تحت الجورب (الأيمن أو الأيسر، لا يهم)، خلخالا الإليكترونيا تضبط موجاتُ نبضِه بـالـ"جي-بي-إس" إحداثياتِ تحرُّك المتهم ولو لأمتار، وذلك على شاشة الحراس الذين يؤدي لهم أجر حراسته، كما تضبط مراكزُ الأبحاث حول هجرات الحيوان تحركاتِ اللقالق المهاجرة في عنان السموات، أو الدلافين المهاجرة في أعماق المحيطات.
آخر أطوار النازلة هي أن المتهم اختار خطة التقاضي بدعوى البراءة (plaider non coupable) كما توقع ذلك المتتبعون، وذلك على إثر جلسة لم تدم أكثر من سبع دقائق، استقبله أثناء الدخول إليها "حِراك" نسائي ساخن يصيح من خلاله حشد من النساء في وجهه المتهم أمام كاميرات العالم، بما في ذلك كاميرات الإعلام الفرنسي مرددات: (shame on you!)، أي "عليك الخزي"؛ يرددن ذلك حتى قبل أن تبدأ أطوار المرافعة ناهيك عن صدور الحكم. فحتى وإن تقاضي بدعوى البراءة، يبقى افتراض الإدانة هو الراجح والمحرك الموجه للتحقيق حسب نظام العدالة الأمريكي، ويتعين في هذا النظام أن يعمل المتهم بنفسه، ومن خلال خطط محاميه، على إبطال دعوى الاتهام بالبيـنات المضادة (alibis) أو إضعافها تدريجيا بتصيد الخروقات المسطرية، ولكن أيضا باستئجار خدمات البوليس الخاص (détective privé) لإجراء تحريات وتقصيات حول ملف سوابق ذمة المدعي، ويتمثل، في هذه الحالة، في عاملة بفندق صوفيتيل النيويوركي تشتغل كخادمة غرفة، وهي مسلمة الديانة ومن أصول الإفريقية. فهي التي اتهمت شتروس-كان باغتصابها في غرفته أثناء قيامها بعملها. فكيف نفهم إذن هذا النظام المتميز في مجال العدالة؟ ذلك ما تتناوله الفقرات التالية.
ثقافة الوصايا العشر ومنطق الإثبات في نظام العدالة الأمريكية
على الرغم من كل التجليات البراغماتية لحياة المجتمع الأمريكي، خصوصا كما تصورها الأفلام (ونحن نعرف بأن الأفلام المصرية والهندية لا تعكس حقيقة الكاملة لذينك المجتمعين)، فإن ذلك المجتمع مجتمع كـتابـيٌّ (judéo-chrétien) من حيث الأرضية الثقافية والأخلاقية العميقة التي تقوم عليها أسس التصديق الإثبات في نظام عدالته. ويمكن إرجاع تلك الأسس إلى الوصية التاسعة ("لا تكذب ولا تشهد بالزور") من الوصايا العشر في الصحف الأولى، التي يتعلق قليل منها بالعقيدة (لا يكوننّ لك آلهة سِوايَ؛ لا تتخذْ لك تماثيل ولا صوراً؛ لا تُقسِمْ باسم ربك عبثا)، بينما يتعلق أكثرها بالمعاملات (أكرم أباك وأمك؛ لا تقتـل؛ لا تزْنِ؛ لا تسرقْ؛ لا تكذبْ ولا تشهدْ بالزور؛ لا تطمعْ في بيتِ غيرك ولا في امرأته ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا حماره). وسيتبين من خلال بقية الفقرات أن قيم الصدق والكذب والعفة (لا تزن؛ لا تطمع في ...) قيم محورية في ثقافة هذا المجتمع، وتنعكس على نظام عدالته، وتتوازى في نفس الوقت أو تقاطع مع قيم الحريات الفردية والجماعية (مثلا: حرية الحشد النسوي الذي احتشد مرددا "عليك الخزي" في وجه المتهم)
فإذا كان بعض الفرنسيين، في تعاليقهم على الكيفية التي تعاملت بها العدالة الأمريكية مع قضية شتروس-كان، يؤاخذون مثلا فلسفة تلك العدالة بعدم قيامها على أساس افتراض البراءة كأصل في الذمم (présomption d'innocence)، أي أن على المتهم، في تلك العدالة، أن يثبت بنفسه براءته، بدل أن يكون ذلك السعي جزءا من صلاحيات قاضي التحقيق وواجباته، فإن نظام العدالة الأمريكية يوازن ذلك الميل بحق المتهم في إلا يدلي، لا إكراها ولا طوعا، بأيّـما عنصرٍ من شأنه أن ينقلب ضده. لكن نظام هذه العدالة نفسها يزيد فيوازن من جديد ذلك الحقَّ المخوّل المتهم في التصرف بحرية في ما يدلي به وما لا يدلي به، بأن جعل من جهة أخرى ثبوت الكذب في تصريحات المتقاضي، سواء في المسائل الجوهرية بالنسبة للقضية أو العرضية بالنسبة إلها، عنصرا أساسيا من عناصر إضعاف كفته في ميزان العدالة بخصوص جوهر النازلة. فالمتهم والمدعي مطالبان معا، من حيث المبدأ "بقول الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة"؛ وبعد ذلك يُترك لكل منهما حق تصريف عناصر الحيقيقة مما في جعبته، ولكن تحت طائلة مخاطر مراكمة الكذبات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة مما يحتسب جميعا أثناء مداولة لجنة إصدار الحكم. فإذا ما أفلحت مثلا خدماتُ البوليس الخاص الذي استأجره شتروس-كان، في الكشف في ثنايا سوابق ذمة المدعية عن ما من شأنه أن ينال من صدقيتها ولو بخصوص قضايا أخرى موثقة، فإن ذلك سيُحتسب لصالح المتهم، ويُحتسب عليها في الميزان؛ ونفس الشيء يصدق على المتهم، إذا ما تمكن التحقيق من إثبات ما ينال من صدقيته ولو في قضايا أخرى. وبعبارة أخرى، فإن لسان حال القضاء الأمريكي لا يقول فقط للمتهم صراحة، كما يقول ذلك القضاء الفرنسي: "إن كل ما تقوله يمكن أن يُحتفظ به ضدّك"؛ إنه يقول كذلك ضمنيا "إن كل ما لم تصرح به يمكن أن يُتخذ ضدّك"؛ والمقصود هنا هو ما يعبر عنه بـ"الكذب عن طريق الإغفال" (mensonge par omission). فلكل هذه الاعتبارات امتنعت مثلا سيدة فرنسية أخرى كانت قد ادعت بأن نفس المتهم كان قد تحرش بها، امتنعت عن تقديم شكاية رسمية، وذلك لكي لا يصبح سعيها ذاك في الظرف الراهن عبارة عن عنصر يستفيد منه المدعي الأمريكي في قضية المتهم شتروس-كان. ولقد بلغ الرهان على هذا مستوى هذا البعد من أبعاد نظام العدالة الأمريكية، أن صحيفة "أنتيرناشيونال هيرالد تربيون"، النشرة الدولية لـ"نيويورك تايمز"، قد نشرت يوم الأربعاء 15 يونيو 2011 نتائج بحث وتقص في القضية تحت عنوان "متهمة شتروس-كان: فتاة بدون حكايات".
هكذا يتضح أن فلسفة التصديق والإثبات في العدالة الأمريكية، وبقطع النظر عن عوارض عوامل المال والنفوذ كما كما هو الحال على العموم، مما هو تحت طائلة القانون بدوره حسب نفس المبادئ، هي فلسفة تقوم أساسا على مبدأ وصية "لا تكذب" من بين الوصايا العشر. وإذ تبقى مؤسسة الدفاع قائمة أساسا من الناحية العملية، في كافة أنظمة العدالة الحديثة، على استغلال الجانب الشكلي للقانون، وليس على أساس جوهر العدل نفسه، وذلك أهون على كل حال من عواقب قيام الإثبات على مجرد التقدير أو الاقتناع الشخصي لطرف من أطراف التقاضي مهما كان هو عين الحقيقة، فكأن منطق أسس الإثبات في العدالة الأمريكية يقول: إذا ما ثبت أنك كذبت يوما كذبة موصوفة (mensonge formel) فأنت كـذّاب بطبعك؛ وإذا كنت كذّابا، فليس هناك لحد الآن ما يثبت براءتك من التهمة القائمة؛ وتصديق الكذّاب عبثٌ؛ بينما الصواب مع الكذاب هو تكذيب تصريحاته إلى أن يثبت صدقها بالبينة الموضوعية؛ إذن فإدانتك أرجحُ طالما أنك لم تثبت براءتك بنفسك عن طريق الطعن في مسطرية تحريك التهمة، أو بالإتيان ببينة مضادة (alibi) لنفي تلك التهمة.
ذلك إذن هو ما يفسر سماح المجتمع الأمريكي بترسانة قوانينه الأكثر تفعيلا في العالم بأن يتم تنظيم "حراكٌ" نسوي في باب المحكمة لاستقبال متهم بترديد "عليك الخزي" ولمّا تبدأ أطوار المرافعة!
أسس التصديق عامة في الثقافة الأمريكية
الوجه المشار إليه أعلاه من أوجه الأمور جزء من ثقافة المجتمع وتعامل الإدارة في أمريكا بصفة عامة، ويلمسه المرء بارزا في الحياة اليومية، خصوصا حينما يكون منتميا إلى ثقافة أخرى. ذاك ما حصل لي يوما على إثر حفل استقبال مهني في اليوم الأول الذي حللت فيه بمدينة من المدن الأمريكية، مدينة أمهارست الجاميعة. فإذ تهت في مكان شبه خلاء على الساعة الحادية عشر ليلا بعد أن اشتبهت علي طريق العودة إلى مكان إقامتي الذي كنت قد أودعت فيه أمتعتي قبيـل ساعات ولم أنتبه إلى ضرورة تسجيل العنوان، فقد اضطررت إلى استرشاد بعض المارة من الطلبة عن مُجمّع مساكن الباحثين من زوار الجامعة (University housing)؛ فما زاد من استرشدتهم على أن دلوني على البوليس. كان ذلك في سبتمبر 1990، أي في الوقت الذي كانت فيه الجيوش الأمريكية قد حلت بالسعودية استعدادا لغزو العراق بعد اكتساحه للكويت وشروعه في قصف السعودية بصواريخه، وقد كانت الطائرة التي أقلتني من الدار البيضاء إلى نيويورك غاصة بالسعوديين من شبان ونساء من الفارين من الحرب والمتجهين إلى أمريكا. إضافة إلى كل تلك الظروف الأمنية الموضوعية، صادف الأمر أنه كان يتقابل في ورقتين متقابلتين من جواز سفري نسران: نسر تأشيرة أمريكية حديثة، ونسر تأشيرة عراقية تعود إلى ما قبل ذلك بسنة أو تزيد بقليل، ويحمل نفس الجواز صورة لي كانت تميزها حينئذ لحية سوداء كثيفة، معفاة على سجيّة نموها نموا من نوع "بْـيُـو". لم يكن لي مع كل ذلك مفر من اللجوء إلى ذلك البوليس. كان بالسيارة شرطي واحد مثقل بوسائل عمله الليلي، من مسدس وأصفاد، وإلى جانبه الأيمن بندقية تمتد مائلة ما بين منبت ذراع ضبط السرعة وزجاجة الواجهة. دعاني للركوب بأدب، وبقيت البندقية بيننا، وأنا أتأمل مشهدا يذكرني بمشاهد الكوبوي. أخذ الشرطي مايكروفون اللاسلكي ثم شرع يسألني فينقل المعلومات إلى قاعدة عمله: [يتعلق الأمر بشخص ضلّ سبيل عودته إلى مقر سكناه؛ يقول إن اسمه هو فلان الفلاني؛ يقول بأنه قادم من "موروكو"؛ يقول بأنه باحث زائر بجامعة أمهارست؛ سأحاول إرشاده وإيصاله إلى مقر سكناه].
ذلك كل ما دار بيننا من "حديث" مما عدا سؤال الشرطي من حين لآخر: "أليس هنا؟ أليس هناك؟". وبعد حوالي 20 دقيقة من الجولان، بدت لي بغثة معالم فضاء المكان الذي به يوجد مقر سكناي، فقلت للشرطي: ["ثانك - يـو"، هاهو ذا مقر سكناي]؛ فأجاب "أوكي، باي باي". استغربت كونه قد انصرف على التو ولم يحاول مرافقتي إلى باب الشقة لكي يحتفظ برقمها مثلا. واستغربت أكثر من ذلك أنه لم يطلب مني الإدلاء بأي وثيقة مهما كانت، وفي تلك الظروف بالضبط التي تصورت فيها الحالة في أمريكا وأنا في الطائرة مع الفارين من الحرب على أنها ستكون حالة استنفار.
في الغداة، حكيت القصة لزملاء في العمل بشعبة اللسانيات بـ"ساوث كــوليدج" بالجامعة، وأبديت لهم استغرابي لعدم طلب الشرطي لأي وثيقة وفي تلك الساعة من الليل مع كل الظرفية القائمة. أجابتني إحدى الزميلات، إليزابيث سيلكرك، التي تعرف المغرب وفرنسا جيدا، والتي يعرفها بعض اللسانيين المغاربة، قائلة: [الأمر هنا مخالف لما هو عليه في المغرب وفي الدول اللاتينية (تقصد فرنسا بالدرجة الأولى). هنا لا يحق للبوليس أن يطلب الوثائق إلا في حالات معينة؛ إنما يأخذ المعلومات حسب تصريحات الشخص المعني، فيصدقه على أساس تصريحاته]. طبعا، لم تستفض الزميلة في عرض فقهي لتبين لي مثلا ما يترتب عن ذلك التصديق من ثقيل العواقب فيما إذا ثبت يوما أن ذلك الشخص كان قد أدلى بمعلومات مزيفة، وذلك، مثلا، كما كانت قد جرت عادة كثير من الشباب المغاربي والمشرقي والإفريقي في فرنسا خلال السبعينات والثمانينات حينما يضبط الواحد منهم في الميترو بدون تذكرة وكثيرا ما كان يحصل ذلك، فيدعي المتلبس صدقا أو كذبا بأنه طالب، ثم يضيف بأنه قد نسي وثائقه في مقر سكناه، ويدلي لشرطة الميترو في النهاية باسم وعنوان وهميين، وربما فيهما سخرية أو بذاءة بلغة لا يفهمونها، ثم يسارع بعد ذلك إلى سرد أطوار الخدعة على هؤلاء وأولئك من العُصبة والأقران، مزهوا بشطارته أمام بلاهة "رّواما" أو "لكَـْـوْر".
خلاصة جانبية
لعل مثل هذه الاختلافات فيما يتعلق بقيم الصدق والكذب في ثقافة معينة هي ما يجعل المرء يفهم السر الكامن وراء ما تـتـفـق عليه تقريبا كل الأدبيات الإثنوغرافية للرحالة الأوروبيين في القرنين الثامن والتاسع عشر، حينما يستغربون - وما أكثر ما استغربوا - مما لم يفهمو - وما أكثر ما لم يفهمو - كيف يتم تـتـفيه أمر الكذب في ثقافة مَـزُوريهم من مغاربة الجيل، وكيف أن أولئك (أو هؤلاء) "يكذبون كما يتـنـفسون"، وذلك في الأمور العظيمة وفي الأشياء السخيفة أو التافهة كأن تعرض مثلا على الشخص دعوة أو طلبا أو اقتراحا أو صفقة، فإذا كان ذلك لا يريحه لسبب أو لآخر، لا يقول لك: "لا يمكن لي ذلك، اسمح لي" (وهو الحقيقة) تراه يبادر على التو إلى ابتداع سينريوهات (لي موعد عاجل، سأسافر، علي دين، سبق لي أن قضيت ذلك الغرض، جدتي مريضة، توفيت حماتي، الخ.). وأتذكر في باب هذه السيناريوهات السخيفة في سوق ثقافة تتـفـيه أمر الكذب أن طالبا أنيقا ومتهندما بشارات سيميولوجيا "الالتزام" والاستقامة كان قد تعلل لي يوما عن خواء وفاضه أثناء اجتياز الاختبار الشفهي في مادة اللغة العبرية بوقع وفاة مفاجئة لأبيه قبل الامتحان؛ لكنه عاود فادعى نفس الشيء سنة بعد ذلك في نفس الظروف مع ممتحن آخر حاول التماس العذر له أثناء المداولات، وذلك كما لو أن له فريقا كاملا من الآباء يموت منهم واحد كل سنة، أو أن له أبا واحدا يموت عدة مرات بشكل مفاجئ قبل الامتحان بالضبط. إنها الثقافة، وما أدراك ما الثقافة؛ فشخص "أوديب" قد قتل أباه حقيقة مرة واحدة في أسطورة الثقافة الإغريقية، بينما شخص "ابن أبيه" يقتل أباه كذبا عدة مرات في واقع الثقافة المغربية.
Inscrivez-vous au blog
Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour
Rejoignez les 349 autres membres