OrBinah

(En arabe) De la "linguistique" céleste à la linguistique terrestre (le cas de l'arabe)

من "اللانكًوستيكيات" السماوية إلى اللغويات الأرضية

(مسالةُ التقدير واللفظ وبعضُ ما يترتب عليها في الاستعمال)

 

 

 

تقــــديـــــم

 

بعد سلسلة "لسانيات أزلية مستقبلية"، التي تقاسمتُ من خلالها بشكل تقريري (لا يخلو من نصيب من التنـدّر، بحكم المضمون والسياق، وشخص المتقاسِم) ما قيل مؤخرا عن اللغة العربية من أنها ماهية قديمة أزلية وباقية أبدية ستكون اللغة الناجية الوحيدة في أفق 2070؛ وهو ما قيل كذلك إنه حقيقيةٌ اقتنعتْ بها القوى العظمي فأخذت تنقل أرشيفها من لغاتها العالمية اليوم إلى اللغة العربية التماسا منها لحظوظ البقاء، أستأنف اليوم عرضَ معالجات أخرى من نفس القبيل من القبُـل الفكرية تتناول الجوانب البنيوية والسوسيو-لغوية للعربية، لكن مع بُعد ومسافة في شكل التفكير مصطلحاته، لا في جوهره.

ذلك القبيل من المعالجات، بجميع أوجهه الشكلية، يجمع بينه الإجماع على الاعتقاج بتميُّز هذه اللغة، على المستوى السوسيو-لغوي، بأن معالجة أمرها، بنيويا وسوسيولُغويا، أمرٌ مشاعٌ بين الجميع، "يدلي فيه كلّ بدلوه" حسب تعبير العربية نفسها؛ وذلك من مطلقُ "يا أيها الناس"، إلى الفقيه أو الداعية، إلى ممتهن السياسة، إلى المؤرخ، وإلى الكتّاب والنقاد في مختلف الأنواع الأدبية، وذلك منذ أن لم تعُد لتلك اللغة في زمنها هذا طبقةٌ من أمثال ونظراء سيبويه، وابن جنّي، وابن الحاجب، وابن يعيش؛ وغيرُهم كثير.

 

مسالة التقدير واللفظ في اللغة المعينة

 

ومن بين الأفكار العلمية النظرية الأساس التي طوّرتها هذه الطبقة المشار إلى عيناتٍ من أعلامها، فأصبحت من الأفكار البدئية الأولية المشاعة بين أهل العلم وطالبي العلم في حقلهم، هي التمييز في مختلف مكونات بنية اللغة (أصوات، صرف، تركيب) ما بين التمثيل التقديري العميق من جهة، والتمثيل اللفظي السطحي من جهة ثانية. إنه ما أصبحت النظرية اللسانية الكــلــيّـــة الحديثة منذ الستينات الماضية (بقطع النظر عن تفاصيل تطوّر صياغاتها) تسمّيه: تمثيل البنية العميقة (Underlying representation) وصورة البنية السطحية (Surface structure).

فعلى مستوى الأصوات مثلا، هناك على سبيل المثال في العربية الفصحى فِعلَا مات/يموت/مِــتُّ، و ماد/يميد/مِــدْتُ. وهما فعلان مختلفان معجميا لفظا ومعنى بطبيعة الحال. غير أن إسنادهما إلى التاء المتحرّكة (المتكلمّ والمخاطب في الماضي) يُسفر، على مستوى النطق والتلفظ، عن نفس الصورة الصوتية، أي [مِــتُّ mittu]؛ بمعنى أن إسناد فعل /مادَ/ إلى التاء المتحركة يُسفر عن تغيير إبدالي لصوت الدال من أصوات تمثيله التقديري (/مِــدْتُ/)، الذي يصبح في النطق /مِتْــتُ/ فيُدغم المِثلان إدغاما، ويسفر ذلك على مستوى اللفظ عن المنطوق الصوتي المحقَّق: [mittu] الذي هو ملتبِسٌ لفظا مع وجه [مِـتُّ] من فعل /مات/ (الوجه الثاني هو [مُــتُّ]).

مثل هذه الظواهر اللغوية، التي يختلف فيها اللفظ المُحقّق عن التقدير الأصلي (بمقتضى قيود مفروضة على مستوى التلفّظ)، كثيرة ُفي جميع اللغات؛ ويتناولها علم الفونولوجيا الحديث فيصوغ قواعدها، التي منها ما هو خاصّ بلغة من اللغات، ومنها ما هو كلـّي يسري على جميع اللغات. وكان يُطلق على مثل تلك الظواهر في الفونولوجيا العربية القديمة (التي عولجت بالرغم من أنها لم تكن قد استقلت كعلم لساني فرعي مستقل) مصطلحات: الإبدال، والإعلال والقلب، والحذف، والزيادة. ومن أمثلة صياغة قواعد الزيادة مثلا (زيادة كسرةٍ، هنا) في العربية، قولُ ابن مالك مثلا {إنْ ساكنان التَـقَـيا، اكسِرْ ما سضـبَقْ}؛ أما في الحذف، فيقول نفس الناظم في الشطر الثاني {وإنْ يكنْ لِـيناً فحذفُه أحقّ} (حرف لين: ألف أو  واو  أو ياء).

هذه الظواهر كانت قد عالجتها بتفصيل ودقة فائقة كتبٌ مشهورة عند أهل العلم، قبل أن ينقطع سندُ العلم وتتـبدّد حدود حقول الاختصاص. وأهم تلك الكتب كتاب "شرح شافية ابن الحاجب" للإستراباذي، وكتاب "شرح المفصل" لابن يعيش، وغير ذلك. وتلك المعارف هي التي اعتمدها من قاموا بتوقيف قواعد فن التجويد، أي القواعد التي يتعيّن أن ينطق بها ويرتل النص القرآني، من قبيل النطق مثلا، على المستوى اللفظي، بملفوظ [بَرْ رَانَ] (أي [بَـــرَّانَ]) في نطقِ ما تقديرُه /بَـلْ رَانَ/ {كلّا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}.

 

التدوين الإملائي ما بين تمثيل التقدير وتمثيل اللفظ

 

 

وبناء على المعرفة التفصيلية الدقيقة بأوجه هذه الإبدالات والإعلالات والحذف والزيادة، حسب سياقات حدوثها المعلومة في اللغة المعيّنة، يتمّ وضعُ وتطوير أوفاق الإملائية المناسبة لتدوين نصوص تلك اللغة.

 

والإملائية orthographe (التي يتعيّن عدمُ الخلط بينها وبين مسألة نوعية الحرف graphie, caractères, script كما هو غالب اليوم، بل أن البعض من الخائضين يخلطون بين الحرف واللغة مثل الذين يتحدثون عن لغة "تيفيناغ") ليست عِلما وصفيا تحليليا أو تفسيريا لوجه من أوجه معطيات الواقع الطبيعي أو الاجتماعي أو العقلي الذهني. إنها مجرّد صناعة تقنية نفعية تُقصد منها نجاعتها في تمثيل الكلام تمثيل بصريا باستعمال رموز خطية لتمثيل الأصوات، وأوفاقٍ للفصل أو الوصل بين عناصر الكلام (أسماء، أفعال، ضمائر، روابط، الخ.) وبالتمييز أو عدم التمييز ما بين الأصوات التقديرية للكلام (/مِدتُ/، /بل ران/، مثلا) والأصوات التلفّظية المقابلة لها ([مِـتُّ]، [بَـرّانَ]) بشكل يضمن أكبر قدر ممكن من سهولة القراءة من جهة، ومن تجنّب الغموض والالتباس في التمثيل الكتابي للغة، الذي هو تمثيل فقير من حيث معطياتُ السياق واللهجة والتنغيم، التي تساعد على التفاهم في التواصل الحيّ الناطق (Elmedlaoui 1999).

 

هذا الطابع البراغماتي الاستعمالي الصرف لأيّ نظام من الأنظمة الإملائية الموضوع للغةٍ من اللغات، بناء على الإحاطة بمجموع الخصائص التي تتميّز بها تلك اللغة عمّا هو مشترك فيه بين سائر اللغات من جوامع النحو الكلّي، هو ما يجعل الإملائية العربية مثلا، تعتمد تدوين التقدير، وليس اللفظ، في حالات من قبيل الأمثلة السابقة (/مِـدْتُ/، /بَـلْ رَان/)، بينما تعتمد تلك الأملائية نفسُها تدوينَ اللــــفـــظ كما هو منطوق فعلاً في حالات أخرى يقوم فيها صنفٌ آخر من الإبدال، كما في تدوينها تلك الإملائية نفسها لأمثال كلمتي "ازدهر" و "ازدحم"، اللتين تقديرُهما /ازتهر/ و /ازتحم/، أو في تدوين كلمتي "اصطلح/ و "اضطلع"، اللتين تقديرُهما /اصتلح/ و /اضتلع/ على الترتيب، باعتبار أن الصيغة الصرفية لهذه الأفعال جميعا هي /افــــتــــعل/، مثل غنمَ/اغتنم، قدرَ/اقتدر، جمعَ/اجتمع، الخ.

لكن بالرغم من وضوح كلّ هذه الأمور عند أهلها منذ قرون في تصوّر الفكر اللغوي، ممّا تمّت الإشارة إلى بعض مظانّه بالنسبة للعربية الفصحى، وما تمّ تطويره تطويرا نوعيا في إطار اللسانيات العامة الحديثة، كان قد أثار الأستاذ عبد الله العروي قبيلاً مناظرا من الظواهر المتعلقة بالفرق بين التقديـــر واللــفـــظ في العربية المغربية الدارجة، فقدمه كمثال، ليس فقط لمّا تُـنذر به كتابةُ نصوصها مما أسماه بـ'القطيعة مع التاريخ والحضارة والتراث"، ولكن كمثال لتعذّر أو استحالة إيجاد نظام إملائي يدوّن خطاب ونصوص ذلك السجلّ من سجلّات العربية، باعتبار ذلك السجل، حسب قناعة الاستاذ العروي وكثير غيره، مجرّد لهجة تواصل شفـــهــي بحكم طبيــــــعة البنيـــة، لا بحُكم مجرّد الوضعية السوسيو-لوغوية القائمة.

وهذا مثال من أمثلة ما ساقه الأستاذ عبد الله العروي من موقعه كمفكر أصبحت لعُملة كلامه قوةٌ إبرائية إقتناعية منزّهة عن حاجة الافتحاص لدى جيل أصبح في حاجة دائمة إلى زعيم وقائد ومٌعلـّـم منزّه، يعمل بالنيابة عنه ويفكر بالنيابة عنه:

 

عبد الله العروي: [... أقول هذا لأتوجه إلى الدعاة إلى تبنّي الدارجة لغة التدريس و الكتابة، و أستحضر عبارة “ما تقيش ولادي”، لو كانوا يتقنون النطق بمخارج حروف الدارجة كما ينبغي النطق بها لما كتبوا “ما تقيش”.]

 

المُحاوِر: [ماذا أصاب هذه العبارة ؟]

 

ع. العروي: [كل مغربي ينطق لغته نطقا سليما ويحافظ على مخارج الحروف كما هي، سيقول “ما تقيسش”، و ليس “ما تقيش”. ماذا سيفعل الدعاة إلى تدريس الدارجة وهم يتوجهون إلى طفل صغير السن، هل سيقولون له “ما تقيش”، أو “ما تقيسش” حتى يستوعب النفي الواقع في فعل “تقيس” قبل أن تدخل عليه “ما” المستعلمة للنفي، و أن “ش” لحقت بـ “تقيس” لرسم ذلك النفي للفعل. لاحظ هنا أنك لم تغادر لغة سيبويه و لم تتخلص منها و أنت تسعى إلى تدريس الدارجة و وضع نحو لها. زيادة على مناطق كثيرة من المغرب، لن تستعمل عبارة “ما تقيسش”، و إنما ستستعمل عبارة “ما تمسش”، و أكتفي بالتلميح إلى من يستعمل عبارة “ما تقيسش”.]. (نص الحوار هـــــنـــــا؛ 2013)

 

إنّ اعتماد "ما تقيشّ" (اعتماد اللفظ) أو "ما تقيس-ش" في تدوين العربية الدارجة، بمقتضى منظومة إملائية اصطلاحية معلّـلة معيّنة في باب التعامل مع مختلف أوجه الإبدال، وحسب الغايات البراغماتية المنشودة في كل إملائية كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لهو، في الحقيقة، من نفس قبيل تعامُل إملائية العربية الفصحى مع أوجه الإبدال تعاملا تجريبياً، حالةً بحالة: تدوّين وجه التقدير تارة، ووجه اللفظ تارة أخرى، حسب الأبواب، وفي أفق نشدان تسهيل القراءة رفع الالتباس كغايتين نفعيتين براغماتيتيين بناء على المعرفة التفصيلية الدقيقة (وليس الانطباعية) ببنيات اللغة المعنية، وهو ما تراكم في بابه الشيء الكثير من المعرفة بالنسبة للعربية الدارجة (انظر هــــنــــا) في علاقة ذلك بالنظام الإملائي المناسب لهذا السجلّ من سجلات العربية (انظر هــــنـــــا).

فمثل ذلك الذي أشار إليه الأستاذ العروي كثيرٌ جدّا في العربية الدارجة وفي غير العربية كالفرنسية والإنجليزية وغيرهما، ويتعين حصرُ أبوابه من طرف واضع أوفاق الإملائية، والتقريرُ، في كل حالة، على مستوى النظام الإملائي، بما يضمن في الكتابة أكبرَ قدر ممكن من رفع الالتباس.

فسواء أتعلق الأمر، في الدارجة، بـوجه من قبيل: "ما تقيس-شي" أو "ما تقيس-ش" ("ما تقيس-شي الأمور اللي ما هيّا ديالك")، أم بوجه من قبيل: "اش جا يدير" ("اش جا يدير فميدان بعيد عليه؟")، يتعين الاختيار بين اصطلاحِ اعتمادِ التقدير (/ما تقيس-شي/، /اش جا يدير/، على الترتيب)، واصطلاح اعتماد اللفظ ([ما تقيشّي الأمور ...]، [واجّا يدير ...] على الترتيب)، بشكل يضمن إملائية أمثل من حيث غاياتها الاستعمالية.

 

مستملحة خفيفة لا تخلو من دلالة: [هل أتاك حديث أصحاب الدلو؟]

 

وربطا، في الأخير، لبعض هذا الذي سبق بما تمّت الإشارة إليه من تبشير بعضهم مؤخرا وإخبار بعضهم الآخر، من منطلقات مختلفة تجمع بينها ذهنية أسطرة اللغة العربية، بأن سنة 2070 هي تاريخ القيامة بالنسبة للغات البشر مما عدا العربية الفصحى، وبأن القوى العظمي قد أخذت تعدّ العدة لاستقبال ذلك الأجل التماسا لحظوظ البقاء عن طريق الاعتكاف، بشكل "سرّي، سرّي جدّا" على نسخ أرشيفاتها وعلومها إلى اللغة العربية، أختم هذا النص بنص تدوينة خفيفة سابقة لي في باب هذه القبيل من المعالجات لمسألة اللغة واللغويات على اختلاف منطلقات ومصطلحات وأساليب التعبير عن تلك المعالجات:

 

- "هل أتاك حديث أصحاب الدَلْو؟" (بالعربية الدارجة)

"هادوك صحاب الدلو هوما دوك اللي ما عندهوم غير حبل ودلو، هازّينهوم، وكا يدورو بيهوم في أرض الله. فينمّا كاينة شي حفرة ديال الما الحلو ولّا الشلوق ولّا المالح، ولّا ديال شي معدن نفيس ولّا خسيس، ولّا غير ديال الشاربون، كا يوقفو على صحاب الحرفة، اللي فناو فيها اللي كتاب من العمر ومن تامّارا ديال التعلام، ويقولو ليك بالفوصحى والنحو زعما زعما: "وَأنَا بِدَوْرٍي، أُرِيدُ كَذَلِكَ أنْ أُدْلِيَ بِدَلْوِي فَي هَذِهِ المَسْألَة".
هاديك حالة صحاب الدلو، مهما كان الحقل ديال المسألة. وراه كان سبق لينا دوينا على صحاب "عيلم التحتولوجيا" و"عيلم اللانكًويستيك الأزلي والموستقبالي".]

----------------------

 

المرجع المحال عليه في النص:

Elmedlaoui, Mohamed (1999) Principes d'orthographe berbère en graphie arabe ou latine. Publications de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines - Oujda, n° 25; série: Etudes et Monographies, n° 6.

 

محمد المدلاوي

https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques



25/11/2017
2 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 343 autres membres