OrBinah

(EN ARABE) 5-Sagesse amazighe (conte de Lalla Zerqa traduit en arabe)

أحجية "لالّة زرقــة"

(أحجية أمازيغية)

 

- تحرير الحكي الأمازيغي بناء على شذرات من الذاكرة :    محمد المدلاوي المنبهي 

- ترجمة النص المحرر إلى العربية .........................:     محمد المدلاوي المنبهي

 (النص الأمازيغي  هــنــا)

 

 

زعموا أنه قد كان هناك رجُلٌ، توفيّت عنه زوجته مخلفة له سبع بنات. قرّ عزمه يوما على شدّ الرحال إلى الحجّ ليزور الأراضي المباركة في مكة، ويصلـّي في المقام على قبر رسول الله بالمدينة. فقد كان في الواقع لا يكف منذ سينين عن التغني بشعر كان قد سمعه ذات يوم في رقصة "أحواش"، ألا وهو قولهم.

أيا أهل المدينة؛

رجائي في الحجّ موصول،

إنما ينقصني المال.

 

أخد الرجل يجمع ويخزّن عَولة عام كامل، ذلك الذي سيتسغرقه رحلته ذهابا وإيابا. جمع مَير عام، ودُهن عام، من سمن، وزيت أركان، وزيت زيتون، وشحم؛ وخزّن عسل عام، وقَدِيد عام؛ وحطب حطبَ عام؛ ولمّ  من التِـبن واليـَـبوس ما يكفي لعام؛ واشترى من أعواد الثقاب وخيوط الخياطة ما يلزم لسنة؛ ومن الغاسول والصابون والحنّاء والإثميد مثل ذلك، وكذا سائر ما تتوقف عليه حياة بناته. قام ببيع جميع الدواب ولم يترك من الأنعام، بقرا وغنما، سوى عنزتين حلوبتين وبقرتين إحداهما حديثة الوضع والثانية حديثة الحمل.

جمع الرجل بناته السبع، فقال لهنّ: "أنصتن إليّ، يا بناتي؛ ليست لكنّ لا أمّ، ولا أخوة، ولا عمومة، ولا خؤولة. فليس لكنّ إلا رب السماوات وأنا، أبوكنّ. لقد قرّ عزمي على الذهاب لقضاء فريضة الله؛ أنا ذاهب إلى الحج، إن شاء الله ذلك ذلك وأمَر به. لقد هيّأتُ لكنّ كلّ ما يلزمكنّ إلى أن أعود، إذا ما أطال ربّنا العمرَ. بيتكنّ بيت رحبٌ فسيح جدّا، وبه بئر ماء، وأحواضٌ مُنبِتة، وجُرنٌ  للحبوب  وبقية العولة؛ وبه حظائر للماشية، وأقفاص للطيور والأرانب؛ وبه مراحيض وحمّام وحتّى دمنة للنفايات. كما أن به ساحات واسعة مشمسة، وسقائف مظللة بهية ومطلة على الحقول، وله أبراج عالية وشرفات وأسطح ذات مجنّات؛ يحيط به سور متين؛ وله باب محكم بأقفال من حديد. فلا تفتحنـنّ ولو لهرّ ليدخل عليكنّ، إلى أن أعود".

 

لما وصل ركب الحجيج، جمع الرجل زاده فحمّله على دابّته، وعانق بناته وودّعهن، ثم انصرف ملتحقا بالركب؛ فأوصدت البنات الباب من خلفه الباب بأقفاله الحديدية، وزدنه تحصينا بدعائم من الخشب السميك المتين.

انصرفت الفتيات على التوّ إلى أشغالهن العادية. هذه تُقرشل الصوف، وتلك تباشر مغزلها، والأخرى أمام منسجها، والأخرى تكسّر نوَى الأركًان، والأخرى منهمكة على تصبين الثياب، والأخري في المطبخ تُعدّ الطعام ...

عندما تنتهي مهام أشغال النهار، تجتمع الفتيات في أحد أبهاء الدار أو في إحدى ساحاتها ليتفرغن إلى شؤون زينتهن (نظافة، مشط، كُحل، حرقوس)، وليتبادلن أطراف الحديث في شؤون الهوى والشباب، أو يصعدن إلى شرفة سقيفة، أو إلى برج، لمراقبة ما يتحرك في الحقول وما يجري في القرب أو البعد.

كم من مرة طرق عليهم هذا أو ذاك محاولا أن يتسلّل إليهن كيداً باختلاق مختلف الذرائع لكي يفتحن له الباب؛ إلا أنهن يرفضن دائما لأنهن يتذكرن وصيّة أبيهن الذي وضّح لهنّ أن ليس لهن من قريب ما عدا الله وأباهنّ. وحتّي إذا ما نسين أو انطلى عليهن كيدُ كائد، كانت صُغراهنّ تذكّرهنّ بوصية أبيهن، لأنها كانت أذكاهن وأكثرهنّ توقدا ويقظة، لا ينطلي عليها كيد الكائدين. كانت صبيّة رائعة الجمال، وكان اسمها "زرقة".

 

ذات يوم من أيام ربّ السماوات، توقف أحد العطارين أمام الدار وهو يصيح: "ها عطّار، ها عطّار؛ قلادات، مرايا، إثمِد، حرقوس، ...". أطلت عليه الفتيات في فضول من على الشرفات، فقال لهن: "انزلن، يا صبيّات؛ فها هنا ما حلا طـَعمه، وما زكىت رائحته؛ هنا كل لوازم ومستحضرات الزينة، وكل ما تشتهيه الأنفس". انتشت الفتيات بما تذروه الريح من أريج وعبق انطلاقا من سلة العطار، ففقدن صوابهن، ما عدا صُغراهن "زرقة"، التي ردت عليه قائلة: "نسأل الله لك التيسير؛ لدينا كل ما نحن في حاجة إليه". إلا أن أخواتها عاكسنها هذه المرة وغلب رأيهنّ على رأيها، فسارعت إحداهن ونزلت ففتحت الباب. نشر العطار كل محتويات سلته، فتجمعت الفتيات على ذلك، يجربن القلائد، ويطللن على أوحههن في المرايا، ويتشمّمن عطور القوارير، في ضجيج وقهقهات ضحك. طلب منهن العطار جرعة ماء، فأتينه بالماء وحتى باللبن، فشرب حتى ارتوى، ثم أخرج مزودا صغيرا كان يحمله على كتفه، فأخرج منه حفنة من التمر كاللُبان في منظره، وناولهن منه، فأخذن يأكلن في تلذذ، ما عدا الصغرى، زرقة، التي كانت تتظاهر بالأكل لكنها كانت ترمي التمر في حجرها. وفجأة سقطت الفتيات فاقدات الوعي، فتظاهرت زرقة بدورها بالسقوط بينهنّ. لما تأكّد العطار من أنهن سقطن جميعا، نهض خارجا ليدخل دابّته ليحمّل على متنها كل ما خفّ وزنه وغلا ثمنه من متاع البيت، وليقوم بكل ما سوّلت له نفسُه. ما أن دنا من الباب حتى قفزت زرقة كالبرق، فأوصدت من ورائه الباب بقوة جعلت الدفة تقضم جزءا من عقبه؛ فصح متألما: "آه، وا عَقِـبي! أُذكريها يا زرقة! فانا حافظ إياها لك؛ إن لم أردّ لك الصاع صاعين، فإنه لم تلدني قط أمّي".

عادت زرقة بعد أن أحكمت إغلاق الباب، فذبحت ديكا وسلقت ريشه وحشاياه بالماء المُغلى، وأخذت تغرغر ذلك السائل لأخواتها قصد استقيائهنّ. ولما أستسـعَضنَ كل ما تسرّب إلى بطونهن، أستفقن ثم أخذن يتساءلن عما حصل.

 

توالت الأيام والشهور، إلى أن أوشك الحول أن يدور، فتناهى إليهن يوما، عبر تواصلات النساء فوق الأسطح، أن السُعاة قد جاءوا بخبر قُربِ وصول ركب عودة الحجاج. قمن في الحين بالشروع في الإعداد لكل ما يلزم لإقامة وليمة استقبال ابيهم، الذي اشتد إليه حنينهن كثيرا. قمن بتنقية كمية كبيرة من القمح وغسلنه، ونشّفنه على الأسطح، ثم طحنّ  بعضه  دقيقا  ناعما  وبعضه  دشيشا. ثم فتلن الكسكس ويبّسنه؛ ثم أخرجن أواني النحاس وآنية البديع والفاروز والفخار فغسلنها ونصعنها؛ ثم ملطن الجدران وبيّضنها، فلم يتركن شيئا، إلى أصبحت الدار كلها ناصعة بهيّة.

وذات مساء، وصل أبوهن في نهاية المطاف، فارتمين عليه معانقات من كل صوب، باكيات في أحضانه، فرحات به، يشفين غليل الشوق إلى لقائه، ويُخمدن حُرقة حرمان فراقه الذي كان قد طال عليهنّ.

وبعد أسوبوع دعا الحاج أهل القرى والمداشر، رجالا ونساء، إلى وليمة العودة، فأكل الناس وشربوا وسهروا الليل كله في الغناء والرقص في حلقة "أحواش" بالساحة على ضوء القمر ونيران الحطب. وفي الغداة أصبحت كل النساء والفتيان والفتيات يرددون في أشغالهم بالحقول قول أحد الشعراء في سهرة أحواش تلك الليلة:

الحاجّ موحمّاد شدّ الرحال إلى المشرق

لقد زار المقام؛ إنه على ما يقولون لقادر

 

لم تفض الفتيات لأبيهن بما كان قد حصل لهن مع العطار؛ ثم إنهن قد رجون من أختهن، زرقة، ألا تنهي إليه من جهتها شيئا. لقد أحضر لهن أبوهن جميعا هدايا وتبرّكاتِ فألٍ وخير من ديار الحجّ لكي يسوّي الله سعد كل واحدة منهن، وكان يدعو لهن بذلك في صلواته.

 

التقى به يوما، في السوق الأسبوعي، أحد من كان قد تعرف عليه خلال أحد المواسم السنوية في مكان بعيد. قال له ذلك الرجل إنه في حاجة إليه في شأن من الشؤون؛ فتذاكرا قليلا، ثم قال له إنه سيزوره في ذلك شأن ذلك الأمر عما قريب. لم يمض سوى حوالي أسبوع حتى طرق ذلك الرجل باب بيت الحاجّ. خرج الحاج فوجد الرجل وقد ذبح كبشا على عتبة بيته. رحبّ الحاج بالضيف ترحيبا، فقال هذا الأخير: "ها أنا قد جئت ضيفا من ضيوف الله". فأجابه الحاج: "مرحبا بضيف الله، وأهلا وسهلا بك لدينا، هذا بيتك". أدخله إلى جناح الضيافة مصفقا في نفس الوقت كإشارة لتنهمك البنات في إعداد وجبة الغذاء؛ ثم جلس الرجلان يتحدثان. تجاذبا أطراف الحديث، فنطق الحاج قائلا لصاحبه:

"... ما عسى أن أقوله لك يا أخي في الله؟  أنا لا أفضل عليك امرأ آخر. فالزواج طريقُ الله المستقيم وسُنةُ رسوله صلى الله عليه. فأي فتاة، مهما كانت، لا تكون لها ملح وقيمة إلا في دار زوجها. لكن ليس الأمر أن ابنتي، زرقة، عزيزة عليّ كثيرا؛ إنما الأمر أني أرى أنها ما تزال صغيرة شيئا ما، وأن أخواتها الكبريات أولى منها في الزواج" ...

أكل الرجلان وشربا وانتهى الجمع وانصرف الضيف. في الغداة، ذهب الحاج، فنادى على إحدى السيدات المسنات التي كانت صديقة لزوجته الراحلة. طلب منها أن تفاتح ابنته، زرقة في الأمر، وتعلـّمها شؤون ما ينتظرها وما هي عليه مقبلة.

 

لم تمرّ سوى بضعة اشهر حتى أقبل الصيف، ومعه موسم الأعراس. كان عُرس زرقة بنت الحاج أول تلك الأعراس في مجموعة المداشر. لم ينفعها لا البكاء الدئم، ولا الامتناع عن تناول الطعام. لقد التحقت بزوجها الذي لم تره قط من قبل، ولا سمعت باسمه عند الفتيات.

 

لا يستطيع أحد أن يتصور كيف أصبحت الدنيا في عيني زرقة لمّا تقابلت مع الرجل في عقر الغرفة وجها لوجه. لم يساورها الشكّ لحظة: لقد فاجأها وجه ذلك العطار الذي كان قد قال لها: "أُذكريها يا زرقة! فانا حافظ إياها لك؛ إن لم إردّ لك الصاع صاعين، فإنه لم تلدني قط أمّي". ازدادت غُصة زرقة شدة وتزايد كُرهها لذلك الزواج أكثر وأكثر؛ فتحملت الضرب المبرّح ليل نهار، وصبرت على العيش خلف الأقفال الحديدة شهورا عدة.

 

فاتحت زرقة يوما زوجها لأول مرة بحديث مقتضب قائلة: "إن أنت تريد أن أنسجم معك في بيتك، فادعُ إلينا أبي الذي قرن بيننا، ليوفق ما بيننا. سُرّ الرجل سرورا كبيرا، فنهض في الصباح الباكر من الغداة، فتناول جرّة من سمن، وأخرى من عسل، واعتلى بهما ظهر دابته، وانطلق في الطريق. وفي المساء، عاد مصحوبا بأب زرقة. ارتمت زرقة في أحضان والدها باكية وهي تقول: "سامحني يا أبتي على ما صدر منّي وعلى كل ما قدر الله أن يصدر عني".

أحضر لها أبوها صرّتين كهدية: إحداهما مليئة بالتمر واللوز المكسّر، والثانية مليئة بما طاب من قَديد الوعل. دخل الرجلان بعد ذلك إلى الغرفة، وتوجهت هي إلى المطبخ، ثم ما لبث أخ زوجها أن حلّ بدوره فالتحق بأخيه وصهرهما؛ فطفق الرجال يتجاذبون أطراف الحديث عن شؤون الحياة، رافعين أصواتهم فيما بينهم كعادة الرجال.

هيأت زرقة عشاء يليق بالمناسبة، فوضعت الطبق أمامهم، ففرحوا لها جميعا، وأخذوا يدعون لها بالرضا والسعد والتوفيق في الحياة. أما هي، فقد تمكن منها الخجل، فطأطأت رأسها عائدة إلى المطبخ.

تناولت زرق عصى من عصيّ الرعي فسلكتها في مَعقدَي الصرّتين التي جاء بهما والدها، وكذلك صرة ثالثة بها قَرعة كانت قد ملأتها حليبا، ثم تناولت سلهاما صوفيا ولبسته، ثم وضعت العصى، بما تحمله على كتفها، فقفزت في خفة خافتة، وفتحت الباب برفق شديد، ثم خرجت في حلكة الليل، ولم يشعر بها أحد.

سَرَت زرقة في الغابة طول الليل، إلى أن وقفت على كهف معزول على ضفة أحد الأنهار، فجنحت إليه وحطـّت به لتستريح.

ولمّا تشرق الشمس بعدُ، قامت زرقة فتناولت بعض التمرات وبعض الحبات من اللوز، وشربت جُرعات من ماء النهر، ثم استأنفت المسير. استمرت كذلك، وفجأة ينتهي إلى سمعها أنين. توقفت زرقة والتفتت، فإذا بها ترى ذئبة متمدّدة أرضا وهي تستجمع أنفاسها وتدفع لها للوضع. نظرت إليها زرقة وهي تتألم لاشتداد الحال عليها وهي وحيدة، فرقّـت لحالها، فمالت للتو نحوها بدون توجّس، وساعدتها حتى وضعت؛ فناولتها تلك الذئبة واحدا من أجرائها قائلة: "خديه؛ أنه ابنك؛ اعتني به، يعتنِ بك".

واصلت زرقة المسير إلى أن وصلت مكانا آخر فسمعت من جديد أنينا آخر جرسُه مخالف للأول، فالتفتت فإذا بها ترى لبُؤة جاثمة أرضاً تتضور من وجع الوضع؛ فمالت نحوها  وساعدتها إلى أن نُـفِسَت، فعاملتها اللبؤة بدورها بنفس المعاملة: ناولتها جِروا من جِرائها، وقالت لها "لقد أحسنت إليّ لوجه الله، أيتها المخلوقة؛ خذي هذا الجرو، فهو ابنك؛ اعتني به يعتن بك". وكذلك حصل لزرقة مع نمرة ثم مع فهدة. فلها الآن أربعة أبناء من سباع الغابة، وهي الآن أمهم؛ فأخذت ترضعهم من الحليب الذي كانت قد أعدته ضمن موادّ زادهها.

 

في آخر مسار رحلة فرارها، حطت زرقة رحالها في مكان مجنّب قرب عين تنبع من جوف جرف جبل وينساب ماؤها في اتجاه رمال الصحراء، في فضاء تكسوه الخضرة ويرِد إليه الغزلان والمَـها والإبل للارتواء. ففي ذاك المكان حطت زرقة الرحال، واتخذته مسكنا لها ولأبنائها. ولما ترعرع أولئك الصغار شيئا ما، بدأت زرقة تناولهم، من حين لآخر، نُتفا من قديد الوعل، إلى أن بدأو يقتدرون على  صيد الحراذين والضِببة والجرذان وسائر ما يقوون على اصطياده. وعندما يشبعون، كانوا يتحلقون حول أمهم، زرقة، فيلعبون ويتمازحون مثل صغار القطط. وقد تعوّدت هي أن تستوي فوق ناشز من الصفوان تحت ظل طلحة بالقرب من نخلة باسقة، لتنشغل هناك بشؤون جمالها وتمشط شلالات شعرها  المتراكم على ذاتها كالسُحُب؛  ماءُ  جابية  الينبوع هو  مرآتها. لا  تخشاها  طيور  السماء؛ وقد استأنست بها الغزلان والمَـها، وسائر الحيوانات التي ترد لتنهل من الينبوع. بل إن بعض الغزالات قد أصبحت لها أليفة، إلى درجة أنها تيستحلي أن تلاطفها زرقة وتحلب منه ما تُرضع به صغارها. وعندما تتذكر زرقة في تلك اللحظات الهنيّة كل ما مرّ بها، تشفق فتتغنى قائلة:

تٌرى، أيها الغزلان، إذا ما فارق الإنسان الحياة،

أفـــسيـستـــــرح مــــن كيـــد الكـــائــــديـــــــن؟

 

فكان يرجّع عليها صدى جُرفِ الجبل، فيتناهى إلى سمعها قول يقول:

إذا مـــا هـــبـّــت الريــاح فــذرَت الــــرمــــــال،

فــــإنـــه لا طـــــاقـــة لـــها بـجـــرف الجبـــــل.

 

وفي آخر النهار، عندما تُقبل الشمس على المغيب، تفتقد زرقة أباها وأخواتها، ويستبدّ بها الشوق إليهم. كانت تنادي حينئذ أبناءها وتجلسهم في حجرها، فترفع صوتها الرقيق العذب بالغناء، فتتحلق عليها الغزلان والمَـها، وتردّ عليها الطيور حين تقول.

غـُصّـة أبي قد مزّقـت كـبـدي،

فراحت الطيور فقالت وداعا لأبـي:

لقد وجدت الماء والخُضرة وأهل الهـوى.

أبي، اصفح عني، ويا أبَـتِ، سامحــوني؛

فــأنا لسـت دَيْنــا، ولا أنا وديعــــةٌ؛

أنا لست درهما، ولا أنا دينـارٌ.

 

عندما يرِد الرعاة على الينبوع ليوردوا ماشيتهم من غنم أو أبل، كانوا يوقّرون زرقة ولا يقتربون منها لأنهم لا يدرون ما هي؛ أهي من الإنس أم من غيره نظرا لما يرون من أن الطير تحط على كتفيها وفي حجرها. وقد اتضح لزرقة، بعد مرور ما شاء الله من الوقت، أنه كان يرد على الينبوع  قطيع إبل لأحد الأعيان رفيع المقام. ذات يوم نادى ذلك السيد على رعاة إبله وقال لهم: "إيتوني بـبعيري المَهريّ الأبيض وهيئوه لي فأني مقبل على الذهاب إلى موسم سباق المَهارَى".  نطق كبير الرعاة وقال له: "عفوا سيدي، نستأمنكم لننهي إلى علمكم  أن مَهْرِيَّـكم الأبيض قد أصبح كمنجل صدِئ؛ فمنذ زمان وهو  عازف عن الرعي والشرب. فعندما نذهب بالقطيع للإيراد، كان دائما ينفصل عن القطيع ويتجه نحو نخلة باسقة تجلس بجوارها امرأة وضاءة كالفضة واللـُبان، تتحلق حولها طيور السماء وتحط بجانبها وعلى كتفيها. هناك يظل واقفا ينظر إليها، لا يرعى ولا يشرب". لماّ رأى السيد الحالة التي أصبح عليها مَـهريُّه الأبيض المفضّل، أرسل داعيا إليه مستشاريه وقال لهم: "اصحَبوا معكم كبير علمائنا واذهبوا لتتـحققوا لنا من ماهية تلك المخلوقة. إن هي قالت لكم بأنها من الإنس، فاسألوها عما إذا كانت ستقبل أن أتزوجها". ذهب الوفد بمرافقة الرعاة إلى مرْبَع زرقة، حتى دنوا منها قليلا، فرتّل الفقيه ما تيسّر من الآيات وتلا بعض الأذكار وقال لها: "نسألك بربّ السماوات، أيها المخلوقة، من أيّ ملإ أنت مما خلق الله؟ أفأنت من الإنس، أم من الملائكة، أم من الجنّ؟ أجابت المرأة فقالت: "أنا من بني الإنس مثلكم؛ أنا ابنةُ الحاج موحمّاد". حينئذ تكلم أحد المستشارين فقال لها: "بما أن الأمر كذلك، يا ابنة الناس، يسألك سيدنا عمّا إذا كنت ترضين أن تقاسميه الحياة". أجابته زرقة فقالت: "أول ما يلزم هو أن أراه ويراني ونتبادل كلام الصدق؛ زد على ذلك أن لي شروطا تصعب على سيدكم؛ فلديّ أربعة صغار"، ثم نادت في الحين على سباعها الصغار: "يا ابن ذئبة، يا ابن لبؤة، يا ابن نمِرة، يا ابن فهْدة؛ تعالوا جميعا يا أبنائي"، فأقبلوا للتو راكضين، فذُعِر موفدو ذلك السيد وعادوا إليه وحكوا عليه قصتهم. فكر السيدُ مَليّا، ثم قال لهم: "شروطها جائزة عندي؛ فتلك علامات خير ونُبل ورفعة". نهض على التوّ، فتقدم رُزافة من الفرسان قاصدين تلك المرأة. لما وقفوا على مسافة منها، نطق السيد فقال: "تحية وسلام عليكم، يا ابنة الحاج موحمّاد؛ إذا ما كان لنا في عينكم مكانٌ، فإن لكم  في عيننا المكانةَ الحُسنى؛ شروطكم جائزة عندنا". حينئذ رفعت المرأة صوتها متغنية ببيت شعر يقول:

الســــلام عليـكم ومرحـبـــــا؛

لقد قيّضكم الله لنتقاسم الهوي.

 

لم تمض أسابيع حتى تم العُرس ودخلت زرقة بيت الزوجية؛ واستمرت في العناية بصغارها برضا من زوجها، الذي أوصى مستخدمي الدار بأن يذبحوا لهم جديا كلما جاعوا.

 

****

 

ذاتَ يوم من أيام الله، دخلت خادمة زرقة على سيدتها فقالت لها: "سيدتي لالـّة زرقة؛ لعلـّـكِ في حاجة إلى غرض من أغراض زينتك؟ فقد حط أحدُ العطارين بضاعته بفناء الدار؛ إن لديه من ذلك ما لم تقع عليه قط عيني". نطقت السيدة فقالت: "شكرا لك؛ إن لديّ كل ما يلزم، ما عدا الإثمد، الذي قلّ عندي شيئا ما".  خرجت الوصيفة فقصدت العطار فقالت له: "أرني ما لديك من إثمد"، فأراها ذلك، وكان إثمدا يتلألأ كالماء الزلال،. قالت له: "زِن لي من فضلك نصيبا من ذلك"، فناولها كمشة صغيرة ففالت له: "يا ويحي، ما هذه الفضيحة أيها العطار؟ هذا لا يكفي لتكحيل ولو هُدب واحد من أهداب جفر لالة زرقة". رفع إليها العطار عينيه في ذهول وقال: "عفوا، أيتها الأخت الكريمة؛ بما أن الأمر يتعلق بـ"لالة زرقة"، إذن فخذي لك الجَولق بما فيه". عادت الوصيفة إلى سيّدتها فحكت لها عمّا جرى وعما قاله العطار. ذهلت لالّة زرقة لحظة ثم قالت: "حسنا، حسنا؛ الأمر واضح، والمُجريات جميلة".

ظل العطار في مكانه بالفناء الخارجي الذي يبيت فيه عابرو السبيل، وفي المساء وطلب لجوء ضيف الله لقضاء الليل. ناوله أهل البيت وجبة العشاء كما دأبوا على فعله مع سائر عابري السبيل. أما لالّة زرقة، فقد أشعرت زوجها بأنها ستقضي الليلة كلها مع العيال ليخضّبن لها الحنّاء.

عندما خلد كل أهل الدار للنوم، بمن فيهم الوصيفات والمستخدمون، فخيم صمت الهزيع الأخير من الليل، إذا بذلك العطار يقفز قفزة قطـّ إلى ساحة النساء، وبيده خنجر حادّ يتلألأ نصله في ضوء القمر. ما أن رأت لالّة زرقة قامته وحركة مشيته تحت ضوء القمر حتى تعرّفت عليه وأيقنت أنه هوّ، ذلك الذي ببالها. نادت فجأة على أولادها المعلومين، واحدا واحدا، بأسمائهم: "يا ابن الذئبة، يا ابن اللبؤة، يا ابن النمرة، يا ابن الفهدة؛ ها هو العشاء جاهز؛ لا تتركوا منه عظما يقول: أنا"؛ فانقضت السباع الأربعة على ذلك العطار الذي لم يكن قطّ عطارا، للم تترك منه ولو عُجب الذنـَـب. استيقظ أهل الدار فزعين يتصايحون، وهرع زوج لالة زرقة إليها، فحكت له ما حصل وسائرَ ما كان قد جرى.

وفي الغداة، لما أوشكت الشمس على المغيب، نادت لالة زرقة من جديد على أبنائها فاجتمعوا حولها؛ ثم طلبت من زوجها أن يرافقها بمعية بعض مقرّبيه لتُري لأبنائها المكانَ الذي قضوا فيه صباهم وربَوا فيه. ذهبوا جميعا إلى أن وصلوا قرب تلك النخلة المجاورة للينبوع في الغابة، فجمعت لالة زرقة أبنائها حولها، الذين هم في الواقع أبناء أمهاتهم، فعانقتهم وقالت لهم: "يا أبنائي؛ أنا إنما ربّيتكم على سبيل الخير والإحسان كما أوصتني أمّهاتكم اللواتي هنّ أمهاتكم حقّا. والآن، وقد كبرتم، فإنما أرزاقكم في الغابة وليس في بيوت لها أربابها. لقد حان وقت التحاقكم، واحدا واحدا بأمه، التي هي أمّه. فليلتحق ابن الذئبة بأمه، وابن اللبؤة بأمه، وابن النمرة بأمه، وابن الفهدة بأمه"؛ ثم أطلقتهم في الغابة مع مغيب الشمس.

وفي طريق العودة، استبدّ الحنين بلالة زرقة وافتقدت أبناءها واشتاقت إليهم، فرفعت صوتها من على صهوة فرسها فأخذت تغني متمثلة ببيت يقول:

ألا أيها المُهر؛ لو أن الأمر مسألةُ مالٍ لاسترددناك؛

وإذ لــــم يكــــن الأمــــر كذلك، فصبرٌ جميــــــــــــل.

 

 

لما سمع الفقيه ما تمثلت به لالـّة زرقة، طرب للقول وتأثر لحالها فقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله". فكّر مليّا، ثم حثّ بغلته في الحين حتى أدركت حصان زوج السيدة ووازت الخطو معه، فقال "أيها السيد إيدّر، يقول القدماء إن الشجرة التي لم تُعمَّق حفرةُ غرسها ولم يوسَّع حوضُها يُسرع إليها العطش. ربة البيت قد ودّعت الآن من كانوا يشكلون بالنسبة إليها حوضا يرتوي منه الكبد والقلب عندما تثير شياطين الإنس الخَبَـث والعكـَـر في الحياة، فينفطر القلب وتضيق النفس أو يثور الغضب ويشعل النار في صدر الإنسان. يتعيّن أن نبحث عن مكان وجود قرية "أيت بوتوكًـّاس" التي صرحت السيدة بأنها بلدتُها كما وثـّـقنا ذلك في عقد الزواج. ففي انتظار جُود الله، الذي يهَبُ الذُرية ويرزقها، لا بدّ لربة البيت من أن تعثر على أهلها، ليكونوا لها سندا يطيل لها حبل الرجاء والتحمل حينما يتحرك أباليس الإنس".

 

 

 

بعد أيام من ذلك، أعدّ السيد إيدّر موكب هديّة كبير فتقدمه برفقة زوجته في ركبِ زيارةِ أصهارٍ مكون من النساء والرجال؛ ثم انطلقوا في الطريق نحو بيت والد لالـّة زرقة في بلدته.

***

كذلك انتهت أحجية لالّـة  زرقة. القومُ يحصِبونَني بالحصى؛ وأنا ألقي إليهم بالتمر.

------------------------------------------------------------------------------ 

من أجل أحجية أمازيغية أخرى ضاربة في القدم (/يلا وكًـلـّيد اسكيون/ "للمَلِك قرون")، مدونة بالحرف اللاتيني مع ترجمة بالفرنسية، يمكن الرجوع إلى المرجع الآتي (ص:90-108):

Elmedlaoui, Mohamed (1999). Principes d’orthographe berbère en graphie arabe ou latine. Publications de la Faculté des Lettres et des Sciences Humaines d’Oujda.



28/02/2015
13 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 343 autres membres