OrBinah

(eN ARABE) 2-Que signifie le 11 Sptembre 2001 aujourd'hui en 2015?

من برج بابل إلى برج مانهاتان

ومن المغول إلى الطالبان

(أي دلالات؟)

(سبتمبر 2001 بعد ميلاد المسيح، الموافق  للسنة الأولى  لخراب البرجين)

 

القسم الثاني

 

 

تعليقُ ما بعد الحوار الالكتروني

 

تلك إذن عينة حية من نماذج التساؤلات التي دارت بيني وبين زميلي مباشرة على إثر واقعة تخريب برجي مركز التجارة العالمي يوم 11 09 2001. وأبرز ملاحظة يمكن إبداؤها - نيابة عن القارئ - بشأن هذه العيّنة هو انطلاقها - في اتجاه ما جرى به التيار- من التسليم سلفا بأن نظام "الطابان" متورط بشكل أو بآخر- سواء عبر قناة "ابن لادن" أم عبر قناة أي ملتح أو أمردَ آخر- في جريمة إحراق ما يناهز 7000 نفس آدمي حي وآدمية حية من المسافرين جوا، ومن مستخدمي المكاتب، يتوزعون على 62 جنسية، ويمثلون جميع الملل والنحل والأجناس البشرية. صحيح أن كثيرا من هواة التحقيقات البوليسية من المعلقين والصحفيين من ذوي الولع بتصويرات السيناريوهات المخابراتية والهيتنشكوكية في معالجة القضايا الإعلامية ميّالون إلى أن لا يحتفلو من الواقعة المذكورة إلا بالجانب الهيتنشكوكي والبوليسي التحقيقي: ما هي  الخيوط المدبرة؟ من هو الرأس  المدبر، الوحيد الأوحد وغير الملتبس من حيث هو الفاعل الأول؟...  إلى آخر ما هناك من الأسئلة  البوليسية التي تترجم -  حينما تكون صادرة عن معلق غير متخصص -  مفهوما خاصا للتاريخ ولوقائعه المشهودة على السطح، مفادُه أن كل جزيئات التاريخ، خيرا كانت أم شرا، محسوبةٌ بإحكام كدقائق آليات الساعة، ومدبرةٌ مركزيا من لدن رأس قوة الخير، إذا كانت نتائجها خيرا، ومن لدن رأس قوة الشر، إذا كانت نتائجها شرا؛ إنها المانوية الشعبية (Manichéisme populaire). وإذا كان الوجه الأيديوليجي الحديث لهذا التصور المانوي لدى بعض الذهنيات في مجتمعات ما يطلق عليه اليوم عندنا جزافا "ديار الغرب" (المقابل المعاصر لمفهوم "ديار الحرب" بإبدال حرف حلقي من آخر)، قد رأى على التو وراء واقعة "الثلاثاء الأسود" شيطانا "أخضر" بلحية سوداء، كما كان قد فعل ذلك الوجه الأيديولوجي على إثر واقعة "أوكلاهوما سيتى" سنة 1993، التي تبين اليوم أن من كان وراءها لا علاقة له بعالم الشياطين الخضر ذوي اللحى السود، وهو الوجه الأيديولوجي الذي كان سيرى على  التو وراء نفس الواقعة شيطانا أحمر على هيئة دب روسي، أو على هيئة خنزير كوبي منحدر من "خليج الجنازير" السيء الذكر بالنسبة للعم سام لو أن الواقعة كانت قد وقعت في الستينات من القرن العشرين، والذي كان سيكون من زبانية ذلك الشيطان الأحمر في نظره (دُبّا كان الشيطان أم خنزيرا) أسماءٌ من قبيل "الدكتور مصدق"، أو "جمال عبد الناصر"، أو "فيديل كاسترو"، أو "تشي غيفارا"، ولم-لا "ابن بركة" (على وزن "ابن لادن") الذي أفتى الشيخ الزمزمي بالمناسبة مؤخرا- سامحه الله- بأن اغتياله واغتيال أمثاله من "اليساريين" أمر شرعي من وجهة الدين الإسلامي "بصرف النظر عمن يقتله، لكونه خارجا عن الأمة وثائرا على السلطان وفارا من القضاء ومارقا عن الدين"؛ إذا كان ذلك الوجه الأيديولوجي كذلك في ضفة ديار الغرب، فإن كثيرا من أبناء ضفتنا، بدورهم، وعلى اختلاف لافتاتهم الإسلامية أو الحداثية، ممن يركن إلى سهولة الخطاب التبسيطي الذي يبرئ النفس والذات أولا ليلقي بكل النقائص والتبعات على مشجب الشيطان الأشقر من بني "صُفر الوجوه"، قد بادروا من جهتهم، بعفوية النزعة الذاتية، إلى نفي التهمة عن "ابن لادن"، وعن الطالبان، لا لكون الواحد منهم يتوفر على ما لا يتوفر عليه أحد غيره من "الحجج الإثباتية الدامغة"، ولكن لمجرد أن التهمة صادرة عن الشيطان الأبيض في الضفة الأخرى ("دار الغرب" بالنسبة للبعض، و"دار الحرب" بالنسبة للآخرين)، ولمجرد كون المتهَم "أسودَ العينين" و"جعد الشعر"، و/أو لكون هذا المتهَم ينقش اسم 'الله' على الكلاشينكوف أو على الساطور. وكثير من هذا الكثير كان سيتخذ نفس الموقف لو أن حركة الطالبان قد صادفت الفترة التي كان يـُـسبـّـَح فيها ذلك الكثير بالكتيب الأحمر وبمنشورات شارع "زبوفسكي" بموسكو. إنه تماه إثنو-ثقافي يتم بمقتضاه إسقاط الذات والهوية الإثنوثقافية الانتمائية الجماعية على صورة "ملاك أخضر" تطارده الشياطين من كل الأمم والأجناس والألوان. وهكذا فالزميل البشير القمري الذي كانت قد جمعتنا به "سنوات تسبيحية معدودة" في بداية السبعينات يتساءل في الصفحة 20 من جريدة "الصحيفة الأسبوعية" (14/ 09/ 2001) التي تحمل عنوان "النخبة المغربية تتحدث عن الكارثة" فيقول : "كلما وقعت حادثة في أمريكا إلا ونـُـسبت إما للعربي، أو الإسلامي، أوالفلسطيني، بحيث إننا أصبحنا يهود العالم".

وهكذا، فبعد الاغتباط الغبي المباشر التي أعقب مباشرة الإعلان عن وقوع الواقعة، وهو إعلان تم تلقيه أول الأمر كإعلان عن تلاشي صورة ذلك الصنم المؤلّـَـه في الثالوث الحرفي "CIA" الذي  كان يُعتقد بأنه لا يترك كبيرة و لا صغيرة إلا أحصاها، ولا يعزُب عنه من دقائق هذا العالم شاذة ولا فاذة؛ وبعد إدراك البعض للأبعاد الحقيقية لهول الكارثة، و لبشاعة الهمجية، وربما إدراك ما يشكله ذلك من زعزعة كارثية لأسس التعايش والتعامل على وجه هذا الكوكب الصغير المعولم (طيران مدني، مراكز التجارة،. الخ)، هبّ المعلقون- وأغلبهم إما كتَبةُ أعمدة، أو مدبـّجو كلمات، أو نقّاد كلام، أو خطباء منابر، أو منتحلو سياسة على مستواها الأيديولوجي شعارهم إسكات الخصم بما اتفق، فوضعوا على هامهم قبعات المحققين المخابراتيين من عيار مفتشي FBI أو CIA أو الانتربول المحنكين المحترفين، وذلك لكشف " الثغرات" الإثباتية في صك الاتهام الصادر عن الشيطان الأبيض في بلاد الغرب ودار الحرب، وذلك بالقول مثلا: "لماذا تعطل جهازُ الإنذار الفلاني؟ لما تم الزوغان عن خط الطيران؟"، "الإسم الفلاني الوارد في للائحة الضحايا هو لشخص حيّ يرزق!"،  "كيف يُعقل أن يحصل كذا وكذا؟"، "لقد ثبت تزوير اللائحة الفلانية..." ( انظر نموذجا لمثل هذه " التحقيقات" المحترفة المضادة في الصفحتين 4-5 من جريدة "التجديد" (22 /09/ 2001) وفي الصفحتين 8-9 من جريدة "العصر" (21 /09/ 2001). ومن أبرز الثغرات المسوقة وأغربها، وأطرفها في نفس الوقت على الإطلاق، ثغرةُ يهمس بها الوسواس الخناس في آذان جميع الناس من هؤلاء، في نوع من تنازع أحاسيس الإعتزاز والشك، والشعور بالذنب والخوف، تلك التي قد صاغها علنا وصراحة أحد رموز الجيل الجديد من اليسار، محمد الساسي على الشكل الآتي: "هناك إحساس بأن اتهام أحد الأطراف هو في ذات الوقت اعترافٌ له بأنه صنع شيئا رهيبا و مدمرا وخارقا للعادة، وتسليم بدقته في التخطيط، وعقلانيته في التحضير، وبراعته في التنفيذ. فهل صورة العربي أو المسلم التي يجري تسويقها عادةً تطابق هذه المواصفات؟" ( "الصحيفة الأسبوعية"، 21 /09/ 2001، ص 12). إنه تساؤل مريح كيفما كانت الإجابة على السؤال (إثبات التهمة أو نفيها): فإما التسليم بأن العربي و المسلم بريئان، بحجة أن الدقة والبراعة التي تمت بها الجريمة تفوقان مؤهلاتهما المعهودة التي يتم تسويقها، وإما أن صورة التخلف المقرونة بهما صورة مخالفة للواقع. والطريف في الأمر أن هذه التحقيقات  الهيتشكوكية  قد تدرجت بسرعة إلى أن أسفرت في النهاية عن إعادة بعث صنم CIA من رماده، و إعادة تحميض صورته على شكل التأويل الآتي: الواقعة عبارة عن شأن أمريكي–أمريكي، يتم الركوب عليه لتبرير قيام أمريكا بما لم يكن بإمكانها القيام به من قبل في حق العرب والمسلمين. فالأستاذ البرلماني، أبو زيد المقري، يؤكد، بناءً على "ما لديه من معلومات"، بأن "تلفيق التهم والتزوير منهج أمريكي قديم من أجل تأليب الرأي العام ضد الإسلام والمسلمين (...)، إذ ثبت أن الطيارين الأربعة الذين كانوا يقودون الطائرات المفجرة هم ضباط سابقون في حرب فيتنام" (ا"لتجديد"، 22 /09/ 2001، ص4). أما افتتاحية أسبوعية "الرهان الآخر" (العدد6، 20 /09/ 2001) التي ربطت بالمناسبة ما بين "الإرهاب الأمريكي" وبين ما  تنسبه من "إرهاب" لما تسميه "حزب مؤتمر الصرف بالدار البيضاء" (مؤتمر "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الذي انشق عنه الجناح النقابي الذي أسس "الأسبوعية)، فترى من جهتها أن "أحداث نيويورك وواشنطن ليست إلا مدخلا وذريعة لبسط نفوذ الولايات لمتحدة الأمريكية على البسيطة، مجتمعاتٍ وأنظمةً وخيرات".

 

الحقيقة أن كل ما يمكن قوله في هذا الباب من طرف أي منخرطٍ في جوقة الرأي العامّ بعيدٍ عن صناعة الأحداث وعن الاحترافية في تحقيقاتها هو أن كثيرا من الاحتمالات ممكنة. فقد يكون مصدر ما حدث،  كما صرح بذلك السيد عبد الكريم مطيع، زعبم الشبيبة الإسلامية، لجريدة "الصحيفة الاسبوعية" (14 /09/ 2001، ص 20) انطلاقا من منفاه في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى "هو تحمـّل أمريكا مسؤوليةَ قيادة العالم؛ ومن طبيعة الأمور أن يؤدي أصحابُ القيادة ضريبةً على ذلك؛ إذ التاريخ يشهد أن نفس الحالة عرفتها الإمبراطورية الإسلامية، والإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الصينية، أثناء قيادتها للعالم"؛ أي أن الأمر قد يكون له تعلق - بشكل أو بآخر- بمكانة أمريكا وحجمها السياسي والاقتصادي والعسكري والدبلوماسي، بما يطبع سياستها الخارجية من عدم التوازن ومن غطرسة القوة خلال نصف القرن الأخير، وهي أمور من الأحسن تركُ الإلحاح عليها وتفصيل أمرها لأقلام وأصوات من داخل الضفة الأخرى نفسها، فذلك أنجع وأفيد لأنه أدق وأقنع، خصوصا وأنها ضفة متعددة الأصوات  بما فيه الكفاية (انظر لوموند ديبلوماتيك، أكتوبر 2001، و كذلك مقالا مترجما عن الأنديباندانت في جريدة "التجديد" 19 /09/ 2001. 20ص). إن تعدد البؤر التي مارست من خلالها أمريكا دورها ذاك، انطلاقا من مكانتها تلك، ضمن شبكة معقدة من المصالح المتداخلة الأطراف في الزمان والمكان، هو ما يجعل الوقوف على مدبـر واحد وحيد وأوحد على قمة شبكة خيوط محكمة الحبك بين أصابعه الخمسة عبثا من باب البحث عن المسؤول عن انتشار "الطاعون، المرض الملعون".

 إلا أن هناك، من جانب آخر، واقعا لا يرتفع لا بالخطابة، ولا بالتحقيق البوليسي، ولا بألفاظ الإدانة المشفوعة بالاستدراك ("إننا ندين ... ولكن...")، ولا بتقديم التعازي المنافقة لجورج والكر بوش من طرف قادة بعض الحركات الإسلامية، ولا بالمشاركة الكرنفالية في قُدّاسات الترحم في الكنائس، ولا بإرفاق صوت الأذان لعملية رفع العلم الأمريكي إيذانا برفع الحداد، ولا بأي قبيل آخر من الرقى والتعاويذ. إنه واقع لا يمكن أن يختلف في شأنه ملاحظان سويّان : إنه تحديد الجهة والطرف الذي راكم على مر السنوات تراثا خطابيا بجميع الألسنة، وعلى جميع أنواع الحوامل، وآخرها الحامل الإليكتروني، خطابا مهووسا بــأبـْـلــسـَـة وشيطنة الغرب وعلى رأسه أمريكا، وبالدعوة إلى تقـويض أركان هذا الإبليس الذي عُـلقت على مشجبه كل النقائص والعيوب الاقتصادية والتقنية، والسياسية، والأخلاقية، والروحية، والمعرفية، والمعنوية، التي تعاني منها مجتمعات تلك الجهة بدرجات متفاوتة. من ذا الذي يمكن أن ينفي، من النزهاء الأسوياء من سليمي الذاكرة، تميّــزَ كل مؤسسات إنتاج الخطابين، الإيديولوجي والسياسي، في فضاء "العالم الأخضر" بميزة خلافة "العالم الأحمر" البائد والقيام مقامه، في إطلاق أعاصير هوجاء لا تتوقف من اللغط الناري المعادي لأمريكا ولما تمثله من قيم غربية "مادية استهلاكية"، وفي توعـُّـد الغرب عامة بكل ما يقوم عليه من قيم اقتصادية وحضارية وسلطانية وفلسفية، وفنية، على غرار ذلك الفقيه المغربي المحترم الذي يمّم ديار ذلك الغرب في ضيافة الهولنديين الذين آووه وأطعموا وكثيراً من بني جلدته من جوع وآمنوا كثيرا منهم من خوف على ما يقولون، فانبرى مع ذلك يهوي بمعاول خطبه المنبرية على قيمهم الأخلاقية وقوانينهم الدستورية التي نسي بأنها هي التي تحميه، أخذ يطعن في مؤسساتهم الدستورية وعلى رأسها البرلمان (1).

 

فليس إذن من الضروري، من الناحية السياسية، التي على أساسها وعلى مستواها يُبرم السلم أو تعلن الحرب، أن يثبت منطقيا وبوليسيا، وعدليا ، وتحقيقا قضائيا، تورط أسامة بن لادن شخصيا بشكل مباشر ودون التباس في مرهبة 11 سبتمبر 2001؛ إذ أن ذلك اليقين لا يمكن أن يحصل حتى لدى المشتبه فيه نفسه، لا بالإيجاب ولا بالنفي، من حيث أن هذا الأخير لا يمكن أن يلم علما بآليات جميع "الاخترقات" المتعددة الأطراف التي قد تكون استهدفت، في هذه الفترة أو تلك، سديمَ وشبكةَ المصالح على مستوى الأطراف التي يتعامل معها، وعلى مستوى الأطراف التي (تحاول أن) تستخدمه، وعلى مستوى الأطراف التي (يحاول أن) يستخدمها. فيكفي من الناحية السياسية، التي على أساسها يقام السلم أو تـُشن الحرب، أن ينتمي ابن لادن بنفوذه المالي والعسكري إلى معسكر خطابي شُغله، الشاغلُ له عن شؤون أهله، هو أن يؤبلس الغرب بُكرة وأصيلا، وأن يتوعد أمريكا ويسارع إلى التباهي بتبني جميع عمليات التخريب الموجهة ضدها، واعدا منفذي تلك العمليات بالشهادة وصكوك الغفران وتأشيرات المرور إلى عالم يوفر كافة الإشباعات المادية الاستهلاكية التي يَعتـبـِرُ المصابون بمرض الكبت والحرمان وبـفقر في المقومات الوجودية والمعنوية أن المجتمعات الغربية تستفزهم بالاستئثار بها دونهم في العاجلة قبل الآجلة. إن ذاك الانتماء الخطابي لكاف وحده لكي تحصل الإدانةُ فكريا وسياسيا ثم دبلوماسيا على مستوى كثير من الأطراف الدولية، فتنجر بذلك تبعات تلك الإدانة وتنسحب على مجموع المعسكر الذي يشارك ابنَ لادن في نوعية الخطاب ولو بدرجات متفاوتة، والذي تتماهى في الواقع بعضُ نـخبُه مع بطولات هذا الأخير القائم على قمة "القاعدة". إن تلك الإدانة العامة قد حصلت سلفا على ذلك المستوى بما أن صائغي الخطاب السياسي، وصانعي الرأي العام في هذا المعسكر الخطابي، أفرادا فاعلين ومؤسسات، لم يتبرأوا قط في يوم من الأيام من أفعال وأقول ابن لادن، ومن أفعال وأقوال أمثاله، وذلك بالجدية والصرامة والوضوح اللازم وفي الوقت المناسب، وذلك على الأقل بمثل ما جاء مثلا على لسان الشيخ "عبد البارى الزمزمي" لكن بعد فوات الأوان، حيث قال هذا الشيخ الخطيب والنجم الإعلامي، بعد أن وقع ما وقع من تخريب البرجين فتعيـّن في تقديره الفرّ بعد الكرّ على مستوى الخطاب، ما يلي : "وأما أسامة بن لادن المتهم بدون حق في الكارثة الأمريكية (؟!)، فإنه أساء إلى الإسلام وأهله بما قام به من أعمال التخريب والتقتيل في شتى البلاد مما اعترف به بنفسه. فهو يعلم، كما يعلم كل ذي عقل وبصيرة، أن أعماله التخريبية لن تضر أمريكا ولا اليهود ولا أحدا من البلاد التي أصيبت بها (...)؛ وكذلك أعماله التخريبية فإنها تضر بالمسلمين، وتمس سمعة الإسلام و تنفر شعوب العالم منه (...). إذا كان ابن لادن يريد نشر الإسلام في الناس -  كما يزعم، إذ يزعم أسامة أنه يجاهد في سبيل الله، لو أنه جاهدا الجهاد الكبير، وهو الجهاد بالقرآن، لكان أسلمَ لنفسه، وأتقى لدينه، وأنفع للإسلام وأهله. والجهاد لكبير في هذا العصر يتحقق بالدعوة الراشدة إلى الإسلام عبر أجهزة الإعلام المختلفة من صحف وإذاعة و تلفاز. والجهاد بهذه الطرق يتم القيام به في كل دولة من دول العالم، أمريكا فما دونها، ويجري تحت حماية قوانينيهم ورعاية سلطتهم" ("التجديد" 19 سبتمر 2001، ص 14).

هذا كلام جميل أن يصدر عن فقيه خطيب ونجم إعلامي من نجوم الدعوة، وإن كان قد تأخر بالنسبة للواقعة الكبرى وما قد ينجر عنها كتأخر الغيث عن فصله اذي فيه ينفع الناس. ولا يسع كل مخلص إلا أن يصفق لهذا الكلام وأن يرجو من أعماق قلبه أن يكون ناسخا في صدر صاحبه لما كان قد صدر عنه، هو بنفسه، غداة نفس الكارثة وعلى أعمدة نفس الجريدة ( "التجديد"، 12/ سبتمبر/ 2001) والذي أعاد تأكيده في  أسبوعية "الصحيفة الأسبوعية" ( 21 سبتمبر 2001، ص 13) ثم أعادت نشره "الأحداث المغربية" (23  سبتمبر 2001، ص 9) مما يعتبر سابقة من عيار تلك الشرارات التي يقول عنها المثل الصيني "رُب شرارة أحرقت سهلا"، وذلك ما لم يأبه إلى خطر تلك السابقة ودلالة نوعيتها ذوو العقول المتنورة اليقظة، فيخمدوا قبسها الجهنمي بالجدية اللازمة وفي الوقت المناسب دون مواربة أو حسابات انتهازية، وذلك قبل أن تتمكن من هشيم السهل لتحرق الأخضر واليابس. ذلك أن الشيخ الزمزمي كان، في كلامه المشار إليه، قد شرّع، باسم الإسلام، الاغتيال السياسي في حق من يسميهم بــ"اليسار"، مبررا بذلك ما كان قد حصل في الماضي في هذا الباب، وشارعا الباب على مصراعيه ومستعديا كل من "يهمه"  أمر "ضبط الرعية" على الطريقة الستّينية، بل وكل من يشعر في عقر مخّه برسالة "الجهاد" أو رسالة "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر" في المستقبل؛ وذلك، كما قال الشيخ، "لأن اليسار كانوا أعداء الإسلام، وأنا أُكــفّـر منهجَ اليسار الذي يقوم على نبذ الدين كما حدث بالنسبة للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية.(2)، فهؤلاء المندسون أضرُّ على المسلمين من اليهود والنصارى (...). وكذلك من يلعن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما فعلت الشاعرة الكافرة [يقصد حكيمة الشاوي] وأيّدها اليسار على قولها، إذ قالت " ملعون من قال من ضلع أعوج خلقت"«.(3)  .»فكيف يكون شهيدا من كان قتله مشروعا بصرف النظر عمن قتله- وذلك لكونه خارجا على الأمة، وثائرا على السلطان، وفارا من القضاء، ومارقا من الدين؛ وواحدة من هذه الجرائم توجب قتله؟".(4)

فلكأن الشيخ الزمزمي يستعدي في الواقع، من خلال هذا الكلام، ومن موقع منبره كفقيه، وباسم الإسلام، كل "من يهمه الأمر"- وبصرف النظر عن صفته وعن موقعه في الدولة وفي المجتمع أو على الرصيف -  إلى تصفية حتى بعض الفارين من العدالة المغربية في قضايا اغتيالات سبعينية معروفة لم يجف مداد ملفها بعدُ، ممن تجمع الشيخ بهم -  مع ذلك -  بعض القناعات والشعارات باسم الدفاع عن الإسلام ضد اليسار واليساريين، ولو أن المنفى بالجماهيرية العظمى باعد بين الطرفين. على كل حال، ليس بمثل هذا الخطاب يمكن أن يتم "الجهاد الكبير بالدعوة الراشدة إلى الإسلام عبر أجهزة الإعلام... في كل دولة من دول العالم، أمريكا فما دونها، و أن يجري تحت حماية قوانينهم ورعاية سلطتهم" كما قال الشيخ الزمزمي في حق ابن لادن في لحظة الفرّ قبل الكرّ، ذلك لأن تلك القوانين التي أشار إليها الشيخ تتضمن تهمة موصوفة في القانون الجنائي تسمى لدى أولئك بتهمة "الاستعداء والتحريض على القتل" (incitation au meurtre) يعاقب عليها القانون لديهم عينيّا، بقطع النظر عن هوية كلٍّ من المستعدي والمستعدَى عليه، وعن عقيدة ومذهب كل منهما أو انتمائه الأثنو- ثقافي.

 

موقع التربية والتعليم من كل هذا

 

أما على مستوى التربية والسياسة، فإن مثل هذا الخطاب الذي كان الشيخُ الزمزمي يقطّـر عصارتَه قبل أن يتولى للفر بعد الكر ثم يعود للكرّ بعد الفرّ، هو الذي يفرخ أمثال من يجندهم ابن لادن في الأصقاع ويفتح لهم بماله وأشرطته الطريق نحو أخصر السبل إلى الفوز العظيم عن طريق تحقيق الشهادة على حساب أرواح الأبرياء، عملا بقاعدة "بصرف النظر عمن قـتـل"، كما كان قد فرّخ أمثالَ ذينك الفتيين البئيسين اللذين توجها ذات يوم من أيام دسمبر 1975 -  ولعله كان يوم خميس - نحو مواطن وزعيم نقابي وسياسي كان قد تخطى على التو عتبة منزله بالدار البيضاء مودعا أمه وزوجته وابنته سهام، وقد كانت في عمر الزهور، ليمتطي سيارته البيضاء من نوع  "رونو 16" متجها نحو مقر عمله باعتباره محاميا، فوجها إليه طعنات غادرة خرّ على إثرها على الأرض المبلطة مضرجا بدمائه، فتحقق الجهاد في نظرهما وانتصر الإسلام على الشيوعية الملحدة! والبقية يعرفها كل من لا يعصف احتدامُ قضايا الساعة بذاكرته، بما في ذلك مصير الحركة الشيوعية التي كانت تقض حينئذ مضجع أمريكا التي كانت تسخر لمحاربة رموز تلك الحركة كل الوسائل و كل الاطراف المباشرة وغير المباشرة، الملتحية وغير الملتحية، بمن فهيم جيل سلف الطالبان أي جيل "المجاهدين الأفغان".

أما أجمل من كلام الشيخ الزمزمي في مرحلة الفرّ في حق منهج ابن لادن في " الدعوة" و"نشر الإسلام" - ونحن نأخذه ذاك الكلام على ظاهره ولانربط معناه بسياق مقتضى الحال في بلاغة  الكرّ والفرّ، ولا بأسباب نزوله - فهو كلام آخر قيل بمناسبة نفس واقعة الثلاثاء الأسود، وهو لا يشكو بصارخ الأوجه مما يشكو منه كلام الزمزمي من تناقض يصعق الدماغ إذا ما ربط بما قيل قبله وبعده من تصريحات نارية قاموسها يدور حول مادتي "قـــتـــل" و"كــفــر" في حق تيار فكري وسياسي بكامله، وعلى امتداد الأجيال، وبالرغم من تبدّل الأحوال وتغير مواد قاموس برصة السياسة، كونيا ومغربيا من مفاهيم "الحقيقة الثورية" و"ديكتاتورية البروليتاريا" إلى مفاهيم "دولة الحق والقانون" و"حقوق الإنسان". إنه كلام وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، الأستاذ عبد الكبير علوي مدغري، حين استضافته قناة الدوزيم يوم 18 /09/ 2001 غداة قُداس الترحّم الذي شارك في إحيائه أعيان السياسة والنقابة والفكر من الديانات السماوية الثلاث بكاتيدرائية "سان بيير" بالرباط يوم الأحد 16 /09/ 2001. إن أهم وأعظم ما أشار إليه الوزير هو تساؤله، بالمناسبة ولأول مرة على لسان مسؤول من مستواه، عن مدى صواب الاستمرار في تصور الإسلام وتاريخه كمجرد سلسلة مثيرة من الغزوات والانتصارات والغنائم و السبايا - كما تصوّر ذلك بعض كتب التاريخ الإسلامي والسيرة. فقد اقترن- بسبب ذلك تاريخ الإسلام وانتشاره في أذهان الناشئة عبر الأجيال المتوالية من المسلمين، وفي أذهان أجيال ذوي الثقافة العامة من غير المسلمين، بــ"نظام الغزوات"، وقيم "الجهاد المسلح"، وفتوحات الحرب المقدسة الطويلة الأمد، كمنطق للتارخ وكأساس نظري للمعاملات الجيوسياسة على المستوى الدولي حسب ظرفيات موازين القوى. ولقد ذكر الوزير بهذا الصدد بما كان قد دعا إليه المغفور، له الحسن الثاني، حين نبّه إلى ضرورة العمل على تحسين صورة الإسلام في الأذهان؛ ولعل العاهل كان يفكر بالدرجة الأولى حينئذ في مراجعة خطاب ونصوص المنظومة التربوية التي تصوغ أذهان أجيال المستقبل، أكثر مما كان يفكر – كما كان يوحي السياق بذلك- في حملة دعائية مجانية سخيفة في العالم الخارجي على شكل محاضرات تبجيلية تقريضية مؤدى عنها من طرف بعض المنظمات الغنية. كما ذكـّر الوزير بما تلا ذلك  التنبيه من إعداد المغرب لورقة في ذلك الاتجاه لعرضها على منظمة المؤتمر الإسلامي قصد مراجعة ما يتعين مراجعته.

الحقيقة أنني كثيرا ما تساءلت شخصيا - ولعلي في ذلك واحد من بين ملايين من أمثالي- عن السر في عدم تضمن الكتب المدرسية والأكاديمية مما يصنف في خانة "تاريخ الإسلام" لأي شيء ذي بال عن تاريخ انتشار الإسلام في كبريات الدول الإسلامية الحديثة كأندونيسيا مثلا. لا شك أن لذلك علاقة بعدم ارتباط ذلك الانتشار بوجود "فاتحين مغاوير" من رهط خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعقبة بن نافع، وموسى بن نصير، وطارق بن زياد، وعبد الرحمن الغافقي، ولا معارك مشهودة من عيار "القادسية"، أو "بلاط الشهداء". فبأي كتاب أم بأية سُنـّـة، يكون اختيار مئات الملايين من البشر للإسلام اليوم ما بين جزر المحيط الهندي، وأواسط آسيا، وشرق وغرب إفريقيا أقل في الميزان عند الله وفي عين التاريخ ممّا حصل لما دان بالأمس بضعةُ ملايين بنفس الملة ما بين العرب والفرس و القبط و البربر والقوط، لمجرد كون انتشارالإسلام  في الحالة الثانية (التي هي الأولى تاريخيا) قد تم عبر غزوات وفتوحات ذات نفس ملحمي أريقت فيها الدماء ووزعت الغنائم والسبايا فيئا، ودُوّنت مناقبياتها التاريخية بنفس الأسلوب الملحمي وبنفس القيم التي دُوّنـت بها أيامُ العرب ومآثرُ شكوتهم، وهو ما أصبغ على ذلك الانتشار في النهاية طابعا يجعله في الأذهان مجرد استمرار لقيّم تلك الأيام، أيام العرب، بينما كان الانتشار في الحالة الأخرى قد تم عن طريق مجرد دخول الناس في دين الله أفراجا بهداية بعض التجار المروجين للخيرات، وبعض المتصوفة والأولياء المتأملين في الآيات، ممن لا تسمع لهم لا قعقعة سلاح، ولا مفاخر، ولا أهاجي تـنـطُّع شوكتي قيس و لامضر، ولا ما تلا ذلك من مفاخر ومهاجي شعوبيات العرب و الفرس و البربر.

لقد آن الأوان، بعد ما جرت به المقادير، وحسب ما ذكّر به الوزير، لإعادة طرح الورقة التي تحدث عنها نفس الوزير، على الطاولة من جديد، خصوصا على إثر الهزة التي هزت العالم يوم الحادي عشرة من سبتمبر 2001، والتي ستكون لها انعكاسات على مستوى العالم ليس فقط في باب المعاملات  الدولية (طيران مدني، هجرة، تجارة، تعاون، تحالفات)، ولكن كذلك، وبالخصوص على مستوى الفكر والآداب، والفنون، وسيؤرّخ بعد اليوم، بسببها، بما قبل وما بعد تخريب الطائرات للبرجين، على غرار التأريخ بـ"عام الفيل" وبـ"الطير الأبابيل". إن نصوص كتب " التاريخ" المدرسية والأكاديمية لدينا مليئة بتصويرات ملحمية وأسطورية ذات حمولات هي إلى النرجسية الإثنو-ثقافية أقربُ منها إلى نصوص بناء الشخصية المتزنة، والمعتدلة، والعاقلة على مستوى سيكولوجية الفرد، وسيكولوجية الجماعة. فإذا ما وُفـّـقـت الأطراف المعنية بالأمر في قطع بعض الأشواط في اتجاه إصلاح نصوص تلك المنظومات التربوية، فلن يكون ذلك لا هدية، ولا جزية ثقافية تقدمها تلك الأطراف تنازلا منها لأي طرف خارجي آخر. فلن تكون إلا خطوة من خطوات تحقيق النصر على الذات - وكفى به نصرا مبينا ولبنةً من لبنات إعادة بناء الذات على أسس تبتعد عن سبائخ الرمل والرماد نحو صفوان الثبات والمتانة. من ذلك الباب يبدأ الإصلاح الديني الحقيقي- على غرار الإصلاح الديني الذي ساهم - إلى جانب الفلسفة النقدية ثم فلسفة الأنوار- في إقامة أركان المجتمعات المتقدمة الحديثة، والذي كان إصلاحا موجها إلى هياكل وخطاب الهيئات الدينية التي كانت توزع صكوك الغفران، ولم يكن ابدا موجها إلى مؤسسات السلطان الزمني ولا منازعا نزّاعا نحو مؤسسات ذلك السلطان قصد الاستيلاء عليها ليصلح نقائص سلوكات بني آدم ويملأ فراغهم الروحي ويرفع هممهم الأخلاقية والمعنوية بعصا السلطان وبسلطان العصا.

 

أما "الشيطان الأبيض" أو أمريكا، فبالرغم من كل ما يؤاخذ على هذه الأخيرة بالحق، مما فضلنا ترك تفصيله لآل البيت أنفسهم، إذ هم الذين يدركون أكثر من غيرهم رهان فضل مطارحة نقائص نظامهم فيما بينهم قبل أن يطرحه غيرهم (أنظر نموذجا لتلك المواخذات مما ترجمناه للعالم الأمريكي نوام تشومسكي تحت عنوان "انتفاضة الأقصى". مجلة "صامد الاقتصادي"، ع 123-124، كانون الثاني- حزيران 2001، ص184-192.)، وبالرغم من كل ما يؤاخذ على سياستها الخارجية على الخصوص منذ عقود - كما تمت الإشارة إلى ذلك - فإن تحديها الأكبر الذي صنع قوتها وأظهرها على الآخرين، والذي سيمنحها - لا محالة - مزيدا من القوة ومن المناعة بمقدار ما تفلح في الحفاظ عليه وتنميته، فإنها ستستمر "زعيمةً للعالم الحرّ، وحاملةً مشعل مبادئ الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، ودولةً للحق والقانون" كما سطر ذلك السيد محمد يتيم، المسؤول القيادي بحزب العدالة والتنمية ("التجديد"  19 /09/ 2001).

إنه الواقع الذي  لم تزد كارثة برج مانهاتان إلا في تأكيده وإن بشكل تراجيدي. لقد أسالت هذه الكارثة مدادا غزيرا من شبـوات الأقلام وعبر مسامّ الطابعات، وعلى صفحات الشاشات، وأرغى زبدٌ كثير بين أشداق المعلقين والمتشدقين؛ غير أنه لم تكن هناك إلا ومضات قليلة في اتجاه ما كان يتعين أن يَفرض نفسَه على أُولي الألباب للاحتفاظ به قصد الاعتبار. من ذلك النزر القليل ما حاول الصحفي، السيد خالد الجامعي في اللقاء الذي نظمته قناة "الدوزيم"  المغربية  2Mمباشرة بعد الواقعة لفتَ النظر إليه، والتركيز على دلالته، بدل العوم في ضباب التكهنات البوليسية والمخابراتية، وقراءة طالع المستقبل كما كان يقرؤه المجدوب "نوستراداموس" عبر جفرياته. لقد لفت السيد الجامعي الانتباه إلى التجلي البديع لعمل المؤسسات الدستورية في إطار من الديموقراطية والحرية والمواطنة في الولايات المتحدة. فالكارثة القومية التي كان البانتاغون، مقر أركان الحرب العامة، من بين أهدافها، لم تستطع، مع ذلك، أن تعطل المؤسسات المدنية الديموقراطية. لقد بقي الجيش في حدود ما يرسمه له الدستور، ولم يكن هناك اكتساح الدبابات للشوارع والأرصفة باسم شرعية حالة الحرب، ولا إعلانٌ لحالة الاستثناء من طرف طغمة  من الجنرالات - لا ممن خسروا حرب الفيتنام، ولا ممن ربحوا حرب الخليج، ولا ممن كانوا يُعِدّون برنامج "الدرع الصاروخي". بل إن الرئيس المدني الذي كان قد انتخب قبل أشهر فقط بفارق لا يتجاوز بضع مئات من الأصوات من أصل حوالي مائتي مليون، في أطول وأعسر عملية فرز انتخابية قيصرية شهدها تاريخ الديموقراطية، والتي كان سفهاء هذا العالم من المعلقين والمتشدقين يسخرون حينها من "تفاهة" تحرّي فرز أصواتها المصيرية بالتحقق مثلا من التواريخ والطوابع البريدية لتصويتات المراسلة فيها، هو نفسه الذي استمر - في ثقة وثبات مؤسـسَــيـن على الشرعية - في تدبير شؤون البلاد بما فيها الأزمة الطارئة، طبقا للصلاحيات التي يحددها الدستور وليس المزاج والتقدير الظرفي، وذلك في ظل انضباط رائع من طرف المواطنين، مدنيين وعسكريين، مساندين وخصوما سياسيين لم تهدأ بعد فورة معركتهم الانتخابية الخاسرة. ولم يُعطِـل الجيش - بدعوى عدم كفاءة السياسيين وأجهزة الأمن، أو بدعوى ما تتطلبه اللحظة من استثناء و سرعة - لا مجلس النواب، ولا مجلس الشيوخ، ولا الكونغرس، ولا مؤسسة الرئيس. ذلك هو التحدي العظيم، وليس درع الصواريخ. وإذا كانت بعض الميولات الاستبدادية اليمينية قد حاولت من خلال التدبير اليومي للأزمة استغلالَ الواقعة لحيازة مزيد من رمزيات السلطة الأمنية رغما على ما يرمز إليه مشعل "تمثال الحرية" العملاق الذي نجا من حماقة المتهورين، وذلك بالقول مثلا بأنه لو كانت الإجراءات الأمنية اليومية في أمريكا من الحزم بما هي عليه في كثير من بلدان إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط - بما فيه إسرائيل- لما تم اختراق أميريكا بالشكل الذي تم به، وتحت حماية قوانينها، من حيث إن تلك القوانين لاتسمح مثلا لا بحجز جوازات السفر في المطارات وتعويضها ببطاقات مؤقتة للتحرك كما يحصل مثلا في بعض دول الخليج؛ أقول: إذا كانت تلك الميولات قد حاولت البروز، فقد بادر المواطنون في وعي ومواطنة - وبسبب مجرد ما استجد من تحريات أمنية وتحقيقات شملت بضع مئات من المواطنين والعابرين إثر الواقعة – وهبـّوا إلى التعبير عن رفضهم لسياسة الهاجس الأمني باعتبار تبنيها أكبر نصر يمكن أن تحلم به أيديولوجية أولئك الذين دبروا الواقعة الشنعاء. إن الرهان  كل الرهان مبني هناك على الحس المدني وحس المواطنة، مواطنة المواطن الحر دستوريا وشعوريا في إطار الدولة المدنية، باعتباره للحرية، بمفهوميها الإجرائي-اليومي، وبمفهومها المعنوي-الفلسفي، بعدا أساسيا من أبعاد ثقافته، المشكّـلة لوعيه من حيث هو موجود؛ وباعتبار الحرية ليست مجرد ألفاظ يشرحها القاموس. ذلك هو الرهان الآخر، وهو معطى جوهري قائم في الأفئدة و البصائر، لا مجرد شعار، ولذلك كثيرا ما تعمى عن إدراكه الحواس والأبصار.

انتهى  26 09 2001

-------------------------------------

(1)  قال ذلك الشيخ: " فقلت: إن هذه حالة مَــرَضية خطيرة [يقصد المثلية الجنسية] تهدد المجتمع بأكمله. والمجتمع الهولندي يعاني من الشيخوخة. فمن يـلـد لهولندا؟ وبهذا العمل [يقصد تقنين المثلية الجنسية]  يكون البرلمان الهولندي قد حكم على شعبه بتعجيل الفناء (التجديد 29/ 09/ 2004)

(2)  مشروع "الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية" مشروع كان قد تقدم به السيد سيعد السعدي، كاتب الدولة في الحماية الاجتماعية والأسرة والطفولة في حكومة "التناوب" الأولى برئاسة عبد الرحمان اليوسفي وكانت تهدف إلى مراجعة "مدونة الأحوال الشخصية" فحصل بشأنها تقاطب بين المحافظين وفي مقدمتهم حركات الإسلام السياسي التي أعطت لذلك التقاطب السوسيو-سياسي طابعا دينيا (أو ما سمي بــ "a war between believers and apostates"، حسب تعبير مقالة حول المسألة في الصفحة بموقع "الحوار المتمدن؛ 18 يونيو 2007": http://www.rezgar.com/eng/show.art.asp?aid=387 حيث جاء مثلا في افتتاحية جريدة "التجديد" المغربية، عدد 51 بتاريخ 12 يناير 2000 ما يلي :

" وستكتشف بعد القراءة المتأنية أن مناط الخلاف مع واضعي الخطة والمتعصبين لها ليس هو التنمية ولا إدماج المرأة في التنمية ، وأن القضية أكبر من هؤلاء ، إذ تتعلق بمواجهة مؤامرة على الأسرة المسلمة تقف وراءها قوى دولية هي التي زرعت الكيان الصهيوني في فلسطين. … وستكتشف أن الأمر لا يعدو أن يكون بالنسبة لفئة من بني جلدتنا خضوعا لدورة جديدة من دورات الاستعمار … وستكتشف أن المستهدف هو هدم أحكام الشريعة الإسلامية وتقويض الأركان التي تقوم عليها الأسرة المسلمة .., وسيأخذك العجب العجاب ويذهب بك إلى أقصى حد الاستغراب ، حينما ستكتشف أن الذي يقوم على تنفيذ هذه الخطة الاستعمارية المسندة أمريكيا وصهيونيا ليس هو اليمين الليبرالي ( الرجعي ) ، كما عوّدنا خطاب أيام الحرب الباردة ، وإنما هو اليسار الاشتراكي التقدمي، وجمعياته وشبكاته وجبهاته )). نقلا عن سعيد الكحل؛ "الحوار المتمدن" (http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106226).

 

(3)  يقصد الشاعرة "حكيمة الشاوي" (انظر "الحوار المتمدن" 22 غشت 2007 http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106690)

 

(4)  يقصد الزعيم السياسي المهدي بن بركة الذي تطلق عليه أدبيات بعض أحزاب اليسار المغربي لقب "الشهيد المهدي بن بركة" (انظر "الحوار المتمدن" 22 غشت 2007 http://www.rezgar.com/debat/show.art.asp?aid=106690



11/09/2015
0 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 343 autres membres