OrBinah

(En arabe) Evènements du Rif à la lumière des conditions de l'édification de l'Etat-Nation

 

 

 

 

أحداث الريف في علاقتها العميقة بشروط إقامة الدولة الوطنية الحديثة

 

 

ملاحظات تقديمية أولية:

لقد تناولت جوانب الخلفيات السوسيو-اقتصادية، بمفهومها الحديث في إطار مسؤوليات الدولة الوطنية لما يجري اليوم بشمال المغرب، وذلك من خلال سلسلة من النصوص التي واكبت ما هو جار منذ شهور في مدينة الحسيمة ونواحيها مما ليس سوى نموذج رشحته العوارض ليفعّل تفعيلا أكثر من غيره مما هو كامن بدرجات مختلفة من القوة في كثير من الجهات الأخرى (انظر المقال الأخير هــــنـــــا مع ما ذُيّل به من روابط نحو نصوص سابقة ممتدة على طول عدة سنوات).

 أما في هذا النص، فإني ساركّز على جوانب الخلفيات الأنثروبولوجية العميقة لما يجري في شمال المغرب في علاقته بنموذج الدولة الوطنية الحديثة لما بعد الاستقلال بالمغرب. ويتمثل هذه النص في مجرد تركيب لمقتطافات مختارة من سلسلة نصوص كنت قد نشرتها تباعا سنة في عمود "مساءلة البداهة" الذي كنت أحرره في يومية "العلم" المغربية، ثم نشرتها في تباعا في مدونة OrBinah فور ظهورها   في الصحافة الورقية، وذلك تحت عنوان عام هو "بعض دلالات العلم الأمازيغي" (النص الأول  هــــنـــــا، ومنه إلى البقية عبر روابط داخلية).

  

الفكرة الرئيسية

الفكرة الرئيسية التي تنظم تلك النصوصَ المقتطف منها أسفله هي أن هناك موضوعيا، من جهة، مخلـّفاتٍ أنثروبو-ثقافيةً عميقة عتيقةً تنحدر من بنيات المجتمع العتيق المغلق في اقتصاد الاكتفاء الذاتي الجمعي الرعوي/الزراعي في استقرار أو ترحال موسمي أو دائم، اقتصاد يتم فيه التدبير العمومي لشأن المجال الترابي الحيوي في إطار نظام القبيلة وتحالفاتها في وجه غيرها من القبائل، وذلك ما يتولد عنه جنوح إلى مقاومة كل أشكال القيود والتحملات التي تفرضها أيّ سلطة مركزية على مستوى ما-فوق-قبائلي، إذ في هذه الحالة تتعطل المواجهات والصدامات الإثنو-قبلية فيما بين الكيانات القبلية ويسود تضامن داخلي مؤقت قوامه توسيع أحلاف الممانَعة الرافضيّة ضد السلطة المركزية. ومن جهة ثانية، لم تفلح دولة الاستقلال في المغرب في إعادة بناء نفسها، كدولة وطنية حديثة، منخرطة في آلية تبادلات الاقتصاد العالمي الحديث، على أسس تعاقدية حديثىة يتمّ بمقتضاها التعويض عن التنازلات التي يقتضيها بسط سلطتها وإدارتها على الأطراف، وذلك من خدمات مادية ومن توازنات معنوية على جميع المستويات، وفي مقدمتها مستوى المعنويات الثقافية. هذا ما يطرح سؤال "مفهوم الدولة الوطنية في الوعي الجمعي المغربي" على المستويات وعلى جميع الأطراف الفاعلية، سياسيا ومدينا وفكرا سياسيا.

 

 

ولولا أن النصوص التي اقتبست منها هذه الفقرات بنصها موجودة مُشهَرة بتأريخاتها الآلية (ما بين مايو وغشت 2012) وبعدد مَن زار صفحتها في الموقع المشار إليه، لحقّ كلّ اعتقاد أو جزم بأن الأمر في تلك الفقرات إنما يتعلق بــ"عقلنة بعدية" (Rationalisation a postériori) على سبيل "توقّعيّة استشرافية " "تفسيرية" لما أصبح واقعا، كما درج على ذلك أمر "المحللين" الموسميين لقضايا الساعة الذين "يتوقعون" دائما الأمور ولكن من خلال المرآة الخلفية (rétroviseur)، أي بعد حصول الأمور وانتمائها إلى الماضي القريب.

 

والواقع هو أن أوجه ما حصل ويحصل مركّزا تركيزا اليوم في جهة الريف على الخصوص، وفي الحسيمة وأحوازها على الأخص أعراضٌ كان قد رصدها الدارسون الأجانب (أمريكيون، ألمان، إسرائيليون، هولنديون، بلجيكيون) قبل سنوات، متفرقة هنا وهناك بدرجات متفاوتة، وذلك من خلال دراسات أنثروبولوجية ميدانية منشورة أو تم تقديمها في مؤتمرات؛ وهي أعراض عامّة أحصتها العلوم المعنية تصاحب كل تجربة دولتية لم تُستوفَ فيها شروط قيام الدولة الوطنية الحديثة.

 

ويمكن أجمال تلك الأعراض الممانعة لسلطة مركزية لم تستوف فيها شروط قيام الدولة الوطنية الحديثة في ما يلي:

 

-  هوَسُ التلويح بالرمــزيـــات الشــــارات والايـــــقونــــات المميّزة (Obsession de symbolisme distinctif)

 

أمثـَــــــــلـَـــةُ أشكال العــــــوائــــــد والأعـــــــــراف العتيقة  (idéalisation de coutumes)، 

 

فـلـَـكــــــرَة التراث الفني (folklorisation du patrimoine) بسبب تأرجحاتِ انفصاميةِ وعـــــيٍ شــــقـــــيّ تتجاذبه قيـــــــمُ العتــــــــاقة والمحافـــــــظــــــة من جهة، وشعارات الحــــــــداثـــة والمبادئ الكونية من جهة ثانية؛

 

أســـــــــــطــــرة التاريخ (Mythification de l’histoire) وأمثـَـــلـــــةُ وتبـــجيـــــل أحداثه وأبطالها على سبيل التأويل؛

 

تقديــــــس العفــــــوية والتلقــــائيــــة "الجماهيرية" تفكيرا وعملا، ووأد كيان الفـــــــرد المـــدنـــي كذات عاقلة، مفكرة وفاعلة، والعجز عن التنـــظيــــــم المدنـــــي المهيكل وعن صياغة المقترحات والتفاوض بشأنها، والتواري وراء شعارات فضفاضة للممانعة غير  محدَّدة السقف ("استرداد الكرامة"، "رفع الحُكًرة"، "مقاومة الفساد")؛

 

تلـــــفيـــقيـــــــة الخــــــطـــاب من حيث تأرجحه التردّدي بين قيم الإغـــــــراق في المحـــــليّــــة وقيم بعض الأمـــــــميـــــات السديــــميّـــة حسب الظرفية الزمكانية، وكذا بين قيم العتاقة وشعارات الحداثة حسب مقام الخطاب؛ وذلك لأن الغاية الجوهرية من الخطاب هي المـــمانعـــة للأسباب التي سياتي بيانها؛

 

-  والعــــجز عن استيـــــــعاب مقاصـــــديّــــةِ جــــوهرِ المؤسّــــــسات العامة (الإدارية، والتمثيلية) في حد ذاتها استيعابا يمّيز بين ذلك الجوهر في حد ذاته وبين العــــوارض والحيثيـــــات الحدثانية الظرفية لسير مؤسّسة من المؤسسات - وعلى رأس تلك المؤسسات مؤسسة الدولة الوطنية الحديثة كمبدإ ومقصد أعلى في حد ذاته.

 

-  كل ذلك من أجل مواجهة رموز النظام الاختزالي الإقصائي لدولة المركزية تختزل أطياف العناصر المكوّنة  في منــــظومة من الوحدانيــــات (وحدانية العشيرة أو الإثنية، وحدانية الحزب، وحدانية الزعيم، وحدانية اللغة، وحدانية المعتقد، وحدانية القيم الفنية والثقافية، الخ).

 

 

مقتطفات من نصوص "بعض دلالات العلم الأمازيغي" (يونيو-غشت 2012)

 

خطاطات تحليل أنثروبولوجي لشروط قيام الدولة الوطنية الحديثة

أنجز الباحث الأنثروبولوجي الأستاذ الخاتير أبو القاسم أفولاي، مؤخرا بحثا مهما بعنوان ترجمته: "صيرورات تسييس التعبئة الثقافية لدى الأمازيغ في المغرب" قدمه في الملتقى السنوي الذي نظمه المعهد الأمريكي للدراسات المغاربية بطنجة (28 يونيو-1 يوليوز 2012). وقد مهد الباحث لتفسير تلك الصيرورات بتلخيص مضمون نموذجين انثروبولوجيين نظريَين، هما متكاملان في الحقيقة في قدرتهما التفسيرية لمختلف تجارب قيام الدولة الوطنية الحديثة.

النموذج الأول هو نموذج إيرنيست جيلنير (Ernest Gellner)، الذي يرى أن ظهور الدولة الوطنية الحديثة بشكل عام مرتبط بتغير نوعية الوظائف السوسيو-اقتصادية من حيث أشكالـُها وتوزيعُها في المكان والزمان وبين مكونات المجتمع، أي تحوّل بنية وآليات المجتمع المعين من نمط الوظائف القارة والمتوارثة في إطار اقتصاديات الاكتفاء الذاتي التقليدي، الرعوية-الفلاحية (إنتاج كل خلية أسرية بنفسها لكل لوازم استهلاكها في إطار انتظام قبلي أو تحالفي) إلى نمط اقتصاد يقوم على توزيع العمل، وعلى سوق تبادل المواد والمنتجات والخدمات على نطاق واسع في إطار ترابية دولةٍ وطنية، مركزية البنية بأشكال وبدرجات مختلفة.

النمط الأول يقوم على أساس تملك جماعي قار أو متحرك مع الترحال لفضاء جغرافي محدود ومغلق تتطابق حدوده استقرارا أو ترحالا مع حدود كيان إثنو-ثقافي معين (مختلف درجات الانتظام القبلي)، وتتم داخله الدورة الإنتاجية-الاستهلاكية بشكل تضبط إيقاعه الفصول الطبيعية، وتسند فيه الوظائف بشكل متوارث عبر الأجيال حسب تصنيف معين للعنصر البشري (السادة، العبيد، الرعاة، الخماسون، أصحاب المهن الشريفة أو الممتهنة)، ويعتبر فيه التبادل هامشيا وموسميا (الأسواق الموسمية)، وترسخ كلَّ ذلك فيه قيمٌ ثقافيةٌ محلية مناسبة لذلك النمط قوامها اللغة والأعراف والفولكلور والعادات والتقاليد.

أما النمط الثاني فيقوم على أساس تملك دولة مركزية للسيادة على مجال جغرافي أوسع يخترق الفضاءات التقليدية المنغلقة ويخترق الإثنيات البشرية بمختلف ثقافاتها وأعرافها، وتقوم فيه الدورة الإنتاجية-التوزيعية-الاستهلاكية بشكل مستقل إلى حد بعيد عن إيقاع الفصول الطبيعية وعن الأعراف، وتقوم آليته على مبادئ التخصص وتوزيع المواد والمنتجات والخدمات عبر كل المجال الترابي الذي ترسم حدوده الدولة الوطنية وتنتج له أدبياتها ما يلزم من قيم مشروعية بسط السيادة والحكم والتدبير العمومي .

ومن بين أوائل أوجه خطط التدبير العمومي، يقتضي تنظيمُ وتسليس سوق التخصص وتوزيع العمل وتبادل المواد والمنتجات والخدمات إقامة نظام ملائم من وسائل وسبل الاتصال والتفاهم والمواضعات والمواصفات والمعايير التي تخترق الفضاءات الجغرافية والإثنو-بشرية التقليدية؛ إذ كل ذلك لازم لإعداد الأفراد للحركية الوظيفية والمهنية بشكل لم يعد معه بالإمكان أن تبقى تلك الوسائل والسبل محكومة بمجرد محدِّدات مكان الانحدار الجغرافي أو السلالي للأفراد والجماعات. وفي مقدمة تلك المواضعات يأتي وضع خطة لتدبير شأن المجال والسوق اللغويين بشكل يجعل التكوين والإعداد الاجتماعي الحديث للأفراد ممكنا، ويضمن قيام التواصل بين مختلف مرافق الدورة التبادلية للمواد والمنتجات والكفاءات والخدمات عبر ترابية الدولة الوطنية.

غير أن كل إعداد وتكوين وتأهيل منهجي على هذا النطاق الأوسع يقتضي بالضرورة توفر ثلاثة شروط أساسية: شرط أداة، وشرطا نجاعة وفاعلية.

فأما شرط الأداة، فهو توفر أو توفير أداة لغوية أو نظام لتدبير السوق اللغوية بما يسمح بتبليغ المفاهيم والمعارف الجديدة شفهيا وكتابيا بشكل لا يستثني عمليا أي عنصر بشري من فرص الاندماج في المحيط السوسيو-اقتصادي الجديد للدولة الوطنية الحديثة.

وأما الشرط الأول للنجاعة والفاعلية فهو إعدادُ الترابية السوسيو-اقتصادية الجديدة بشكل متوازن حسب مبدإ التبادل المتكافئ بين البادية والحاضرة، بين الجهات، بين الفئات، وهو إعدادٌ يشكل من حيث المبدإ الروح والعلة المبررة لمجتمع توزيع العمل وتبادل الخيرات والخدمات. أما شرط النجاعة الثاني فهو إنتاج وتوفير ونشر ثقافة قيم جديدة تضفي المشروعية على النظام السوسيو-اقتصادي والسوسيو-ثقافي الجديد، وتبرر التنازلات التي يقتضيها النظام السوسيو-اقتصادي الجديد من مختلف الأطراف المجتمعية التقليدية (نواة الدولة الحديثة، الكيانات الجهوية، والإثنية، والملية، والسلالية، والأسرية-البيوتاتية، التكتلات الحرفية والأقطاب المؤطرة التقليدية) في إطار من التفاوضات السوسيو-سياسية الضمنية أو الصريحة الطويلة الأمد التي تصاحب مثل هذه التحولات السوسيو-اقتصادية والسوسيو-سياسية التاريخية. ونشر هذه المضامين الثقافية الحداثية رهين بدوره بـتحرير الفكر من التقليد الخــــــــــرافــــــــي (superstitions) من خلال مضامين تربوية مؤسّسية، بشكل يُكسِب ذهن النشء الجديد القــــــــدرة النــــــــــقديــــــــة. والمقصود هنا بالتحرير من الخرافة، في إطار الفكر الحداثي، ليس هو تطهيــر الذاكــــــرة من أساطير بعينها باعتبارها مرويات وتصويريّات موروثٍ ثقافي يؤخذ على ما هو عليه على مستوى جميع أوجه الإشباع الوجداني الجمعي والفردي وتتناوله علوم التأويل السيميوطيقي المختلفة؛ إنما المقصود هو تحرير آلــيــــــــات اشــــــتغــــــال ملكة العقل من المنهج الخرافي كمـــــنــــهــــج للتفكير وكـ"برنمامج تشغيلي" أوّل لقدرات ذلك الذهن على استـــــيــــــــعاب معطيات الطبيعة والإنسان وفــــهـــــــم منطقها وجدليته.

 

ففيما يتعلق بالمعيرة بمفهومها الواسع، وعلى أبعاد اللغة والقيم الثقافة بشكل خاص، قد يحصل في تجربة دولتية حديثة أن يتم مجرد تعميـــــــم قسري لعناصر بعينها من تلك الأبعاد، مما هو خاص بمكون معيّن من المكونات البشرية للمجتمع يشكل النخبة النووية البشرية المكونة لصلب جهاز الدولة، دون غيره من سائر المكونات، فيتخذ ذلك المكون البشري من قيمه الخاصة جوهرا للدولة، ويعمل بأدوات التدبير المختلفة على أن تتماهى مع ذلك الجوهر سائرُ المكونات الأخرى المقصاة عناصرها عمليا بشكل أو بآخر. قد تكون تلك النخبة نخبة مجالية (نخبة حضرية مثلا)، أو نخبة إثنية (عشائر وأسر وبيوتات)، أو نخبة ملية أو مذهبية، أو نخبة قطاعية (تجار، ملاك، الخ.)؛ وغالبا ما يتعلق الأمر بتركيب مزجي متداخل من كل ذلك.

ففي هذه الحالة تكون الدولة دولة "حديثة" أو "عصرية" في كل مظاهرها الشكلية (علم خاص، سيادة ترابية تامة وجيش نظامي، عملة خاصة ومصرفية خاصة، إدارة مركزية مهيكلة، الخ.)؛ ولكنها لا تكون دولة وطنية. ذلك لأنها تكون حينئذ عاجزة عن تعبئة كافة مكونات المجتمع لتحقيق قيم معينة متراضٍ عليها من قيم الصلاح تجد فيها كل الأطراف المجتمعية نفسها ويكون لكل منها، أفرادا وجماعات، من الفرص المادية والمعنوية الفعلية ما يؤهله للانخراط التشاركي في تحقيقها والاستفادة من تحقيقها.

في مثل هذه الأحوال لا يتوفر لنخبة دولتية من ذلك القبيل ما تضفي به المشروعية على سلطة الدولة مما يكون منبثقا من صميم انتظارات المجتمع الوطني (العدالة، التكافؤ في الحقوق والواجبات والجدارة، التدبير الديموقراطي، الخ.)، فتلجأ تلك النخبة إلى شعارات أيديولوجية خارجْ-وطنية مما توفره ظرفيةُ الحقبة (رسالة ومهمة عبرُ-قومية، رسالة مليّة أو مذهبية، الخ.) لإضفاء مشروعية خارج-وطنية على حكمها وسلطتها؛ وبذلك يتولد التناقض التكويني الخِـلْـقي داخل ذلك النمط من أنماط الدولة ما بين فضائها الترابي-البشري من جهة، وبين أيديولوجيتها الأممية التبريرية من جهة ثانية، مهما كان وجه تلك الأممية (ملية، مذهبية-دعوبة-فتحية، إثنية-قومية-تحريرية، الخ.).

ففي مثل هذه التجارب من تجارب إقامة الدولة الوطنية الحديثة، حيث تفشل النخبة النواة في صياغة ونشر منظومة من القيم الممعيرة في أبواب اللغة والثقافة والسياسة، بشكل يضمن انخراط جميع مكونات المجتمع عبر الفضاء الترابي الوطني، يتحدث الباحث الأنثروبولوجي، إيرنيست جيلنر، عن التنامي الحتمي لآلية مضادة، هي آلية مقاومة جهاز "الدولة الوطنية" العاجزة عن التماهي مع "الكيان الوطني"، تلك الآلية التي يطلق عليها ذلك الباحث تسمية "الإثـنوية المضادة للوطنية" (Ethnicisme antinationaliste)

 

إن الشروط الثلاثة المذكورة اللازم قيامها لإعداد المجال الوطني على المستويين الترابي والبشري شروط متضافرة فيما بينها في الواقع، وجودا وعدما. فعلى قدر التعامل الرشيد مع توفير الشرطين، اللغوي والثقافي، بصيغة من الصيغ، تتوقف نجاعة إقامة منظومة تربوية للتكوين والتأهيل تضمن انخراط الجميع بشكل تشاركي سلس وإيجابي في الإرساء المشترك لأسس الدولة الوطنية في باب الخدمات التبادلية الأساسية في الدولة الحديثة (العمل والإنتاج، وأداء الضرائب، والتنازل عن خيرات وصلاحيات محلية لصالح الدولة مقابل خدمات مثل التعليم والتكوين والصحة، الخ.).

وكلما تعثر توفير تلك شروط القيام والنجاعة المذكورة، كلما تجذرت التضامنات الداخلية التقليدية في وجه مختلف تجليات الدولة الوطنية الحديثة، معبرة عن نفسها بخطاب من خطابات وأيديولوجيات الوقت، وبآلية من آليات الانتظام الرائجة في الوقت؛ بشكل قد يندرج، من حيث إفضاءاته القصوى، حسب المعطيات والسياسات، في خطاطة الدورة الخلدونية الحلقية المعروفة في نظرية الدولة، في اتجاه تقويض أسس تجربة الدولة الوطنية، تلك الخطاطة الخلدونية التي لا يفكّـك آليةَ طوريّـتها وحلقيتها الجيلية سوى إقامة الدولة الوطنية الحديثة بمفهومها الصحيح وبشروطها البنيوية

وفي هذا السياق الأخير، نشر الباحث، علي بن سعد مؤخرا ("La Libye révolutionnaire"; Politique Africaine, n°125) تحليلا خلدونيا عميقا لتجربة دولة معمر القدافي، التي انهارت أخيرا حسب نفس الخطاطة الخلدونية، مخلفة وراءها، وقد طفا على السطح، كل ما كان مكبوتا تحت حُكمها الذي برر نفسه بشرعية خارجية (العروبية الوحدوية) من عناصر التضامنات والتكتلات المحلية التقليدية، وذلك بعد أن استنفدت تلك الدولة عمرها الجيلي. تلك الدولة التي عاشت ما عاشت في تناقض مستمر ما بين قوى البادية وقوى الحاضرة، وبين قوى العشائر وسلطة جهاز الحكم المركزي المتعامل معها على أسس الزبونية بعملة ريع البترول؛ وقد كان جهازا دولتيا تردد الخطاب القدافي نفسه كثيرا، وفي تناقض صارخ مع الواقع، في الاعتراف بوجوده (الإلغاء الخطابي لمفاهيم الأحزاب والهئيات والحكومة، حكم الجماهير، الخ.). وأخيرا عاشت تلك التجربة الدولتية في تناقض دائم بين المظهر الشكلي لجهاز الدولة الترابية المركزية من جهة، ومختلف الأطر الخارجية الأممية التي سيقت تباعا عبر عقود لتبرير ذلك الجهاز (القومية العربية، تحرير فلسطين، الاشتراكية ومقاومة الإمبريالية العالمية، الهوية الإفريقية، الخ.).

 

بعض سمات خطاب ممانعة الدولة المركزية

وبالرغم من المظهر المتجدّد لبعض المفاهيم التي تفيض جانبيا وسطحيا عن مختلف  استراتيجيات توظيف الخطاب كآلية من آليات الممانعة في وجه الدولة الوطنية المركزية، فإن تلك الآليات، في عمق وجوهر وظيفتها، تعبير بطرق مختلفة عن وجه واحد متلون حسب الحقب من أوجه الفكر المحافظ، باعتبار أن إنجاز إقامة الدولة الوطنية الحديثة وفق الشروط اللازمة المشار إلى بعضها أعلاه يعد دائما إنجازا تاريخيا مهمّا.

وبالرغم من صلابة قوة المحافظة ومقاومة التغيير كمنطق عام، فإن مختلف قوى هذه الآلية المحافطة، باعتبار أنها إنما تمثل تحالفا موضوعيا ظرفيا لأطياف التضامنات الداخلية (solidarités internes) العتيقة للمجتمع القديم (مجتمع مجالات الأنماط الزراعية/الرعوية) المتناقضةِ مصالحُها الخاصة تاريخيا مع مصلحة جهاز الدولة المركزية كيفما كان جوهره السياسي، وباعتبار تلك الآلية في جوهرها مجرد ردود فعل رافضية، أقول: فإن مختلف تلك القوى تبقى قوى تفتقر، بحكم طابعها ذاك، إلى تجانس عضوي فيما بينها، ولا تتوفر تبعا لذلك على أي تماسك عضوي وفكري يؤهلها كقوة اجتماعية وفكرية لطرح بدائل أكثر تماسكا وعقالنية وترشيدا من النموذج الدولتي الذي تقاومه، والذي يشكل قيامُه الفعلي أو المحتمل نقيضها الأساسي المرحلي، المعلـِّـق في مرحليته لتناقضاتها البنيوية الداخلية الذاتية التي تبرز بقوة وبشكل مفاجئ إلى السطح في حالة غيابه أو بمجرد زواله.

ويتجلى هذا الافتقار إلى العقلانية في أعراض وسمات فكرية وثقافية كثيرة تطبع خطاب الممانعة لدى طليعة القوى الممانعة للدولة المركزية كيفما كان نوعها. وأهم تلك الأعراض هوَس رمزيات وشارات التميّـز (Obsession de symbolisme distinctif) في مواجهة رموز النظام الاختزالي الإقصائي للدولة المركزية الأحادية الأبعاد (وحدة العشيرة، وحدة الحزب، وحدة الزعيم، وحدة اللغة، وحدة الدين، وحدة المذهب، الخ.). ومن تلك السمات، مما يتفرع عن هوَس الرمزيات والإشاريات المميزة، أمثـَـلـَـة مضامين العوائد والأعراف (idéalisation de coutumes)، وفـلـَـكرَة التراث الفني (folklorisation du patrimoine) بسبب تأرجحات انفصام وعي شقيّ تتجاذبه قيمُ العتاقة والمحافظة وقيم الحداثة. ومن تلك السمات أيضا أسطرة التاريخ (Mythification de l'histoire)، وتقديس قيم العفوية والتلقائية "الجماهيرية" تفكيرا وعملا، وغياب "الفرد المدني العقلاني" في جدلية الوعي والممارسة، والعجز عن استيعاب مقاصدية جوهر المؤسسات استيعابا يمّز بين ذلك الجوهر في حد ذاته وبين العوارض والحيثيات الحدثانية الظرفية للمؤسسة من المؤسسات في حد ذاتها - وعلى رأس تلك المؤسسات مؤسسة الدولة الوطنية الحديثة كمقصد أعلى.

كل هذه السمات تجعل في النهاية من أي إفضاء نهائي محتمل لتلك الآلية الرافضية عبارة عن استنساخ مضاد محتمل، عنصرا عنصرا على محور التماثل، لنفس الخطاطة الاختزالية الإقصائية للجهاز الدولتي الذي يخفق في توفير الشروط التعاقدية المشار إليها واللازمة لقيام الدولة الوطنية الحديثة، والذي تناهضه تلك القوى مناهضة تنافسية بمقتضى تعارض طبيعتيهما؛ وقد تنال منه أو تأتي عليه نهائيا بقدر تجذر إخفاقه ذاك وانسداد إمكانيات إغناء موارد شرعيته (الدولة القذافية آخر مثلا).

          ولتأرجحات انفصام الوعي ما بين قيم العتاقة والمحافظة وقيم الحداثة، المميز لآلية الممانعة في مثل هذه الأحوال من تعثر إنجاز قيام الدولة الوطنية الحديثة أوجهٌ يمكن رصدها على مستوى تحليل خطاب الرفض والممانعة نفسه.

فمضامينُ الخطاب وشعاراته في حالة الانفصام هذه، تكون مضامين وشعارات تلفيقية، ولا تشكل منظومة فكرية موجبة ومتماسكة؛ وذلك بسبب كون آلية الرفض والممانعة آلية رد فعل سلبي وليس آلية فعل تأسيسي موجب. وبذلك يتم تبني قيم شتى وتوظيف شعارات شتى حسب الظرفية والمقام، باعتبار أن الغاية من الخطاب هي بالأساس تأكيد وتبرير وجود تلك القوى الممانعة كقوى، وليس تأسيس وتقديم نموذج بديل أكثر عقلانية من نموذج جهاز النظام الاختزالي المركزي الفاشل في مهمة توفير شروط الدولة الوطنية التعاقدية الحديثة.

 

من أوجه قصور الفكر السياسي المغربي العام في هذا الباب

 

وإذ تم اختزال تصور جوهر العمل السياسي المغربي الحديث عامة في جانب واحد، هو الآلية الشكلية لمعماريةِ تدبير سلطة الدولة (معمارية هيئات وأطراف توزيع ريع السلطة باعتباره مصدر جميع أوجه الريع السوسيو-اقتصادي) في تغييب بذلك لأبعادا أساسية أخرى من قبيل بُعد تعويض تنازلات الأطراف بما يلزم من خدمات، وبعد التوازنات الجهوية، وبعد الحقوق المعنوية الثقافية، فإن الأطر التقليدية للتعبئة والتأطير  السياسيين ما لبث أن استنفدت إمكانياتها التعبوية بسبب عجزها عن إدماج تلك الأبعاد في برامج العمل السياسي قصد العمل على حل التناقض بين الأحادية والتعدد، وبين المركز والأطراف لتأهيل جهاز الدولة ووضعه على سكّة الدولة الوطنية الحديثة كهئية تسمو على الخصوصيات، وتقدّم من القيم والمبادئ والآليات ما يجعل منها  شرط وضمانة وُجود بالنسبة لكافة الخصوصيات نفسها، التي ينفي بعضعا بعضا بمقتضى  منطقه الداخلي، أي ما يجعل تلك الهيئة العليا تحقق الوحدة انطلاقا من احتضان التعدد بدل أن تعمل على افتعال وحدة اصطناعية بالدمج القسري للخصوصيات في بوتقة وحدانية خصوصية عينيّّة واحدة على سبيل الامتياز. فحتى بعض المسائل القطاعية التي تنتمي إلى حيّز ما تعتبر الدولة بأنه من مهامّها، كقطاع التعليم مثلا (التحمّلات المالية، مضامين البرامج، لغات التدريس والتكوين، الخ.) لم تشكّل قط حتّى الآن موضوعا للتدافع والتنافس من خلال البرامج السياسية، فما بالك بمسائل التوازنات السوسيو-اقتصادية الجهوية ومسائل الثقافة.

 

 ذلك القصور الفكري والفلسفي في تصور جوهر السياسة المناسبة للمرحلة التاريخية (مرحلة إقامة الدولة الوطنية الحديثة انطلاقا من بنيات اجتماعية تقليدية) والملائمة لطبيعة تشكيلة المجتمع المغربي، فسح المجال لكثير من الحركات الهلامية "غير المتحزّبة" (لكن المتجذرة في المجتمع)، وعلى رأسها الحركة الأمازيغية، لتملأ شيئا فشيئا ما ترتب عن ذلك العجز التعبوي الحزبي من فراغات في الفضاء السياسي المهيكل. وبما أن هذه الحركة الحركة الأخيرة تندرج نمطيا في الخطاطة التي تحدث عنها الأنثروبولوجي إرنيست جيلنر في حديثه عن قوى ممانعة الدولة الوطنية القائمة على الدمج بالقسر، باعتبار تلك القوى قوىٍ محافظة في جوهرها كمجرد قوة رد فعل على فعل الدمج غير المتكافئ، فإن محركاتها المحافظة العميقة لم تلبث أن طفت لتكتنف مضامين خطابها وشعاراته.

 

قوانين التاريخ ثابتة مهما اختلفت تفاصيل التجارب

          بالرغم من إن تجارب التاريخ لا تتماثل أبدا، بل إنها قد لا تتشابه نظرا لتعدد أبعاد اختلاف المعطيات الفعلية المشكلة لكل تجربة، فإن قوانين تلك التجارب، من قبيل ما انتبه إليه ابن خلدون مثلا منذ قرون، تبقى سارية على تفاعلات كل  تجربة مهما اختلفت معطياتها كما ونوعا وتلونت أوجهها. ويبدو أن الدراسات المغربية في هذا الباب لا تتناول موضوع بناء الدولة الوطنية الحديثة في المغرب إلا على مستوى الأحداث والتدافعات السياسية (مفاوضات الاستقلال، ظهور وتشكل الأحزاب والزعامات، وتشكيل المؤسسات الرسمية، وما اكتنف كل ذلك من تدافعات وصراعات حدثانية ظرفية موصوفة كما تعكسها صحافة الوقت) ولا تتناول الموضوع من الوجهة الانثروبو-سياسية.

فهناك في المعرب قطيعة إبيستيمولوجية تامة بين الدراسات الأنثروبولوجية، على قلتها من جهة والدراسات السياسية من جهة ثانية، فلا يتم تناول الحركات الإسلامية أو الأمازيغية مثلا إلا من الوجهة السياسية المحض (قيمها ومبادئها السياسية والمدنية، مدى انخراطها أو عدم انخراطها في إطار الشرعية، وأوجه تجلي ذلك من خلال الخطاب والمواقف والأحداث). أما تناول مثل هذه الحركات/الظواهر من حيث دلالاتها الأنثروبو-اجتماعية ومن حيث علاقة تلك الدلالات بطبيعة وحالة هيئة الدولة وجهازها وفعلها، فلاحا أو إخفاقا على درب بناء الدولة الوطنية الحديثة، فمتروك لحد الآن لدارسين أجانب متعددي الاختصاصات.

وفي هذا الباب، ومن خلال بحث انثروبو-سياسي ميداني في منطقة كًلميمة على وجه التحديد، بعنوان "مصايِـد الوعي العَبـر-وطني: الحركية الأمازيغية كخيار-ثنائي سُـلـّـمي"، تتبّع الأنثروبولوجي الأمريكي بول سيلفرشتاين (Paul Silverstein) تطوّر خطاب الحركة الأمازيغية عامة، في تقاطع ذلك الخطاب ما بين محور ما هو محلي، ومحور ما يعبَّر عنه بـ"الهوية الأمازيغية" بصفة عامة  أو بكيان "تامازغا" العبر-وطني بصفة أعم.

وقد لاحظ هذا الباحث كيف يتراوح خطاب ومطالب ناشطي تلك الحركة مثلا، في لحظات ومستويات مختلفة من مستويات السُـلـّم المطلبي، ما بين مسائل ملموسة تتعلق بحق ملكية جماعية لمجال حيوي ترابي لبعض التكتلات البشرية بالمنطقة في مواجهة تكتلات أخرى تدّعي نفس الحق من جهة أو في مواجهة جهاز الدولة نفسه من جهة ثانية، وبين شعارات أكثر تجريدا من قبيل مسائل الهوية الأمازيغية و"حقوق الشعوب الأصلية" حسب ما حددته لجن الأمم المتحدة، والكيان الأممي لشعب "فضاء تامازغا من سيوا إلى جزر الكاناري"، الخ..

وقد بيّن الباحث كيف أن المفاوضات والمضاربات الضمنية (على سبيل "هذا إلى من يهمّه الأمر") بين أطراف هذه الحركة في مجملها وبين جهاز الدولة، على أرضية سُـلـّـم متحرك من المطالب، يتم على شكل تدبير تعاملي في نوع من المقايضة السوسيو-سياسية غير المعلنة. فإذ انخرطت الحركة الأمازيغية مثلا مع الدولة ضمنيا وموضوعيا، حسب رأي الباحث، من خلال وجه من أوجه خطابها، الذي هو خطاب تلفيقي كما ذكر، في مقاومة قوى التطرف الإرهابي (وهو وجه آخر حضري من أوجه المحافظة المنطلقة من الهامش بسبب الهجرة القروية)، وذلك من خلال شعارات تلك الحركة حول "الدولة المدنية" مثلا، و"اللائكية"، و"الحداثة"، و"حرية المعتقد"، الخ.، فقد استجابت الدولة من جانبها لمطالب جوهرية من مطالب الحركة على المستوى الثقافي الهوياتي، وذلك على الخصوص من خلال ظهير أجدير المؤسس للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، والبدء في إدراج الأمازيغية رسميا في النظام التعليمي، وتتويج ذلك بإعلان الأمازيغية لغة رسمية في الدستور.

غير أن هذه الاستجابة لم تعمل، حسب الباحث، سوى على إذكاء مخاوف الحركة من فقدانها لأحد أهم مبررات الوجود القديمة على مستوى الخطاب كما حدّد تلك المبررات سقف خطابها منذ ميثاق أكادير (ميثاق رفع شعار "الوحدة في إطار التعدد")، ذلك الميثاق الذي يبدو أنه أصبح اليوم متقادما في تقدير هذه الحركة بسبب مفعول المكتسبات الأخيرة، على ما في ذلك من مفارقة.

كل هذا يؤكد جانبا كامنا آخر من جوانب حركة ساهمت بالفعل في تطوير الفكر المغربي في العقود الأخيرة بترسيخها في هذا الفكر لقيم التعددية والاختلاف خاصة، هذه القيمة التي لم يستطع لا الخطاب السياسي ولا الخطاب الفلسفي الأكاديمي المغربي الحديث تأسيسها فما بالك بترسيخها. ذلك الجانب الكامن، هو الجانب الآخر المحافظ الثاوي في أعماق هذه الحركة، والمحرك لها تحريكَ ردِّ فعلٍ باعتبارها حركة تمثل، على هذا المستوى العميق، عمق المغرب القصيّ المحافظ ببنياته البدوية التقليدية، التي لم تعمل الدولة الحضرية الحديثة على إدماجها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبشريا، وإنما سهلت عمليا تفكيك وتفتيت أسُسها الترابية والمجالية والطبيعية من خلال قوانينها العقارية والاقتصادية والاستثمارية والإدارية، ودون توفير أطر أخرى بديلة للانخراط السوسيو-اقتصادي والمدني الحديث (البنيات التحتية، التنمية المجالية، العمل، التمدرس وبقية المرافق والخدمات، الخ.).

إن ما وقف عليه الباحث مثلا، من مركزية مسألة المجال الترابي كمسألة فاعلة ملموسة على المستوى العميق، ومن فضفاضية أوجه التعبيرات عن ذلك على مستوى خطاب الحركة الأمازيغية، لجدير بالدراسة من حيث إنه مرتبط ومتداخل مع ما يكتنف ذلك الخطاب من سمات "أمثـَـلـَـة مضامين العوائد والأعراف" كسمة من سمات المحافظة، مما أشير إليه سابقا. فشعار ثالوث /اكال-اوال-افكًان/  ("اللغة، الأرض، والإنسان") الذي ترفعه الحركة الأمازيغية اليوم كشعار تميّـزي بديل عن شعار "الوحدة في التعدد"، في إطار ما يعرف بـ"هوس الرمزيات وشارات التميز" عند حركات الممانعة في وجه الدولة الوطنية، يسفر حين حـكّـه بأرض الواقع، كما تجلى ذلك من ملاحظة سيلفرشتاين، عن مضمون محافظ.

ذلك أن المطالبة بالحق الجماعي (الجماعة بمفهومها القبلي التقليدي) في المجال الترابي الحيوي (غابة، مرعى، أرض جموع) وفي ظل واقع سوسيو-اقتصادي متروك على عتاقته، مطالبةٌ قائمة في الواقع ليس في وجه الدولة المركزية فقط التي لم تطوّر بديلا سوسيو-اقتصاديا للبنيات المفكَّكة، ولكن كذلك وبالأساس في وجه التكتلات البشرية المحلية المنازعة في نفس المطلب بناء على نفس الأسس الحقوقية العرفية على الطريقة العتيقة، تلك الطريقة التي كان فضُّ نزاعات مثل تلك الحقوق يُدبّر فيها عبر توالي حلقية الصدام، والهدنة، وتشكيل الأحلاف، وفضّها بين المجموعات القبلية.

وإذ رفعُ شعار الاحتكام إلى الأعراف والتقاليد الأمازيغية وجعلها مصدرا من مصادر التشريع، بما في ذلك تشريع حقوق تملك أراضي المشاع، فإن كثيرا من تلك الأعراف مثلا لا تورث المرأة فيما يعرف بالأراضي السلالية وأراضي الجموع؛ وهذا وجه أخر من أوجه سمة "تلفيق المضامين والشعارات" المشار إليه سابقا والمميز لحركات الممانعة عموما. ذلك أنه على مستويات أخرى من مستويات إنتاج الخطاب، تحتل قيم الدولة المدنية، والديموقراطية، والحداثة، والمساواة بين الجنسين واجهة خطاب الحركة الأمازيغية.

ويتكامل ما وقف عليه الأنثروبولوجي سيلفرشتاين من تجليات جوهر المحافظة في مطلبية وخطاب الحركة الأمازيغية بنواحي كلميمة في باب ما يتعلق بالأرض كوجه من أوجه الرأسمال ("ايدا") مع ما وقفت الباحثة الآنثروبولوجية الأمريكية، كارين ريغنال (Karen Rignall)، في بحث لها بعنوان "الأرض والمعيشة وإعادة إعطاء معنى للمكان في مغرب التخوم الصحراوية". فقد لاحظت من خلال تتبعها ودراستها لآليات الهجرة إلى الشمال المتولدة عن استمرار سياسية "المغرب غير النافع المتروك لأمره مع العمل على اتقاء شره" الاستعمارية حتى بعد الاستقلال، كيف أن كثيرا من الأراضي الفلاحية بقيت محجّرة معطلة بسبب هجرة اليد العاملة التقليدية (الخماسون القدماء، وهم غالبا من إثينة الحراطين) التي كانت تشتغل فيها في إطار اقتصاد الاكتفاء الذاتي العائلي. فلا هي أراض تُستغل من طرف مالكيها الذين يحتقرون العمل اليدوي ويستنكفون من تشغيل المأجورين، ولا هي قد بيعت لمن يستغلها استغلالا عصريا تبادليا عن طريق التجميع أو التعاونيات؛ وذلك بسبب كون الأعراف والتقاليد الثقافية الأمازيغية للمنطقة تعتبر الأرض تراثا عائليا ("ايدا") تتقاسمه الأجيال رقعا، رقعا تضيق كلما توالت الأجيال وتوسعت العائلة بالتفرع، ولا يتم تفويته لأنه ليس من باب القيم التبادلية (valeur marchande). كما أن عودة كثير من المهاجرين برساميل لا بأس بها، بعد تضايق آفاق فوائد الاستمرار في الهجرة بأوروبا، ورغبتهم في العودة إلى استغلال الأرض التي كانوا يشتغلون فيها كخماسين، قد اصطدم بمشكل اقتناء رقعة الأرض التي يفضل أصحابها الاحتفاظ بها معطلة كشارة من شارات الرفعة والأصالىة على أن يفوتوها لقدماء الخماسين. وحتى من أفلح من هؤلاء المهاجرين في اقتناء رقعة بأضعاف سومة ما يقابلها في أماكن أخرى مغرب اقتصاديات التبادل، فإنه يعيد إنتاج نموذج استغلال الاكتفاء العائلي الذاتي اشتغالا واستهلاكا لمجرد أن يقضي وتره كمالك ولو بالخسارة، كما بينت الباحثة ذلك.

 ----------------------------------------------------------------

خـــلاصــــة

هذه الفقرات السابقة أعلاه، المقتطفة بنصها، كما هو، من سلسلة نصوص "بعض دلالات العلم الأمازيغي" التي تم نشرها ما بين 7 يونيو   و 13 غشت 2012، هي ما يعطي معنى تفسيريا لكثير ممّا يجري اليوم من أحداث بشكل استقطب اهتمام السياسة والإعلام، وفي مقدمة تلك الأحداث وعلى رأسها أحداث الحسيمة التي لا تخرج قيد أنملة عن الخطاطة التي تتجلى من خلال هذه المقتطفات؛ مع الإشارة إلى أن جيوبا أخرى كثيرة مرشحة لعرْض نفس العروض السوسيو-سياسية هنا وهناك. فإلعودة إلى مسائل الحدود بين المجالات الحيوية الترابية للكيانات القبلية العتيقة تطرح اليوم أكثر فأكثر وفي في أكثر من مكان، ليس دائما في وجه الدولة المركزية فحسب، ولكن كذلك في وجه كيانات اقبلية أخرى مُنازعة كما تفيد ذلك صورة اللافتة الاحتجاجية المرفقة التي عرضت اليوم (15 غشت 2017) أمام مقرّ البرلمان (دعوة قبيلة "الحارة" بإقليم زاكًورة إلى "رفع التهميش والمعاناة والإقصاء عن سكانها مع المطالبة بإيفاد لجنة إلى المنطقة لترسيم الحدود بين قبيلة الحارة المتضررة وقبيلة تينغيل المتسلطة")، وكما هو الحال منذ مدة بين بعض قبائل جزولة بالأطلس الصغير (إيدا وكنسوس / إيدا كًـُّــنيضيف)، وهي ظواهر منذرة بأن تتمّ العودة في أكثر من مكان إلى الأساليب القديمة لفض النزاعات بين القبائل حول المجال الترابي الحيوي الذي لم تعمل الدولة على عصرنته كوعاء رأسمال عقاري قابل للاستغلال الحديث وخلق فرص العمل في ظل أطر مناسبة حديثة للتمليك والملكية.

وبما أنني أعدت هنا إيراد  المقتطقات السابقة التي تعود إلى سنة 2012، وذلك بمناسبة ما يجري منذ أشهر في منطقة الريف من خلال جناح الحسيمة، فإني أختم هنا بإيراد كلامٍ لأحد أبناء الريف النابهين المدركين بحسّ حادّ لجواهر الأمور في تعقدها، ولطبائع الرهانات المختلفة بشأنها؛ إنه كلام الأستاذ سعيد أبرنوص، في تدوينة حرة له بصفحته على الفايسبوك يوم 13 غشت الحالي (2017). تقول التدوينة:

-

كلام لن يعجب الكثيرين: 
تاريخ الريف ليس أمجادا و بطولات فقط . ليس أنوال و عبد الكريم و 58 59 ... فقط . إن كان من الضروري أن نعود إلى الوراء، فلمَ لا نناقش و ندرس و نبحث بكل صدق و نقد ذاتي : 
- ريف الاقتتال الأهلي .
- ريف الانعزال و التشتت السكاني . 
- ريف احتقار المرأة .
- ريف الريفوبليك .
- ريف عشرات الاف القضايا في المحاكم بسبب شجار عائلي على الحدود / إكًميرن . 
- ريف الأسواق الدامية 
- ريف هروب عائلات بأكملها من قرية إلى قرية . ومن قبيلة إلى قبيلة بسبب الاضطهاد أو الخوف من الانتقام ... 
نعم قد يكون أجدادنا أبطالا تجاه الآخرين لكنهم كانوا ماشي حتى لتمّا تجاه بعضهم البعض

-----------------

 

وأخيرا، أرى أنه من المفيد هنا الإشارة كختام، بخصوص السمات الأساسية التي تميّزُ الخطابَ الاحتجاجي الأمازيغي مما أشير إليه، إلى آخر تجليات إحدى تلك السمات، فيما له تعلق مباشر بأحد أبرز تلك الاحتجاجات من خلال أحداث الحسيمة. إنها سمة الطابع التلــــفيــــــقي للخطاب، المشار إليها في مقدمة هذا النص التركيبي. ذلك الطابع التلفيقي الذي يستعمِل جميع ما توفره سوق الظرفية من أسلحة خطابية لها نجاعة، نظرا لأن جوهر ما يكمُن وراء ذلك الخطاب إنما هو المـــــمانــــعة في وجه الدولة الوطنية بالشكل الذي تمت به إقامتها كما تم بيان ذلك.

 

فبعد جميع المؤشرات الرمزية والشاراتية التي لفتت الأنظار على مستوى فولكلوريات تلك الاحتجاجات خلال أشهر، والتي بلغت أوجها من خلال الاقتحام الشهير لزعيم تلك الاحتجاجات للمسجد أثناء صلاة الجمعة وإلقائه خطبته الضِرار البديلة المبشّرة بنهج السلف عبر الاستشهاد بالخليفة عمر بن الخطاب وتقمص شخصيته، وبعد اكتساح البرقع الأفغاني للشوارع عبر المسيرات الخاصة بالنساء (انظر الرابط أسفل هذه الفقرة)، دخل بعض الكتاب والمفكرين المرموقين على الخط لإضفاء العقلانية  الفكرية على تلك المظاهر التي كانت محسوبة على مجرد عفوية الجمهور غير العاقل بطبيعته باعتباره كتلة خامّ. ففي نص مقاله الطويل ("الأمازيغية والموقف السلبي للمثقفين المغاربة المستعربين") الذي ساهم به في ندوة "الحاجة إلى المثقف" التي نظمتها "منظمة تاويزا" وشارك فيها كتاب ومفكرون وصحفيون مرموقون (أحمد عصيد، عبد الباري عطوان النجم الصحفي المعروف، محمد بودهان، رشيد الحاحي، الخ.)، خصص الكاتب وأستاذ الفلسفة، الأستاذ محمد بودهان (الذي كان يصدر شهرية "تاويزا") فقرة كاملة لإضفاء العقلانية الفكرية على ما أصبح من أوجه ديكور الاحتجاجات بالشارع في الحسيمة، وذلك تحت عنوان فرعي هو "الحاجة إلى حركات إسلامية حقيقية تدافع عن الأمازيغية".

 

وقد ورد في تلك الفقرة ما يلي: [تحتاج الأمازيغية، فضلا عن مثقفين واعين بالهوية الأمازيغية، معتزّين بها ومدافعين عنها، إلى حركات إسلامية حقيقية. (...). ستكون هذه الحركات إسلامية حينما تدافع عن الإسلام لكن في إطار الهوية الأمازيغية الشمال إفريقية للمغرب على غرار الحركات الإسلامية في تركيا وإيران وأندونيسيا وباكستان ...] (انظر نص المقال هــــنــــا).

 

وهذا الآن رابط نحو نموذج من تلك المسيرات المخصصة للنساء فقط في إطار "الإسلام الحقيقي"، مسيراتُ "برقُعي هويتي"، بقيادة زعيمة ترتدي سروال الدجين، وحيث يتعانق "العلم الأمازيغي"  الملون والبرقعَ "الإسلامي" الأسود (برقع بعض تلك الحركات الإسلامية الحقيقية التي مثّل بها الأستاذ بودهان أعلاه)، وذلك تحت شعارات نارية من بينها "عاش الريف؛ ولا عاش من خانه" (انظر هــــنـــــا).

 

-----------------

محمد المدلاوي

https://orbinah.blog4ever.com/m-elmedlaoui-publications-academiques



16/08/2017
4 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 343 autres membres